تدخل حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال على غزة شهرها الثاني، مخلفة حتى اليوم قرابة 10500 شهيد، أكثر من 70% منهم نساء وأطفال، إثر مئات المجازر التي تُرتكب على مدار الساعة دون توقف، وسط صمت عربي إسلامي إقليمي دولي مخزٍ.
وتتعالى أصوات سكان القطاع بين الفينة والأخرى، مناشدة الأشقاء في البلدان المجاورة، وعلى رأسهم مصر، التدخل لإنقاذ الوضع في ظل كارثة محققة تحل بالقطاع بأكمله وتنذر بمأساة إنسانية غير مسبوقة، باعتبار أن المنفذ الوحيد الآن القادر على إبقاء مليوني فلسطيني في غزة على قيد الحياة هو معبر رفح البري مع الجانب المصري، والمغلق منذ بداية الحرب.
حالة من الخذلان يشعر بها سكان القطاع إزاء جيرانهم المصريين، العتب هنا تجاوز السلطة السياسية التي تضع عشرات الاعتبارات والحسابات السياسية والأمنية والاقتصادية لتبرير تخاذلها عن نصرتهم ودعمهم، إلى الشارع المصري الذي كان دومًا نصيرًا وداعمًا للقضية الفلسطينية ومحركًا قويًا لأي نظام حاكم وضاغطًا لاتخاذ مواقف تليق باسم مصر ودورها الإقليمي، وهو ما غاب شكلًا ومضمونًا في تلك الحرب الشعواء.
واكتفى المصريون منذ بداية الحرب بعدد من التظاهرات والوقفات الاحتجاجية، لكن سرعان ما اختفت من الميادين والشوارع والجامعات، ما أثار الكثير من التساؤلات: لماذا خرجت ولماذا غابت ولماذا لم ينتفض المصريون كما انتفضوا سابقًا؟
الخطاب الديني.. الإدانة وحدها لا تكفي
الشعب المصري بطبيعته شعب متدين بالفطرة، يلعب الخطاب الديني في تكوينه العقلي والعاطفي والسلوكي دور البطولة في معظم الأحيان، ومن ثم يمكن لهذا الخطاب أن يحرك الشارع إذا ما أراد، وعليه يكون ضلعًا أساسيًا في المواقف التي تحتاج إلى توجيه الرأي العام ناحية قضية أو مسألة ما.
الأزهر الشريف وشيخه أحمد الطيب كانا الأكثر حضورًا في تلك الأزمة، بيانات وتصريحات قوية أدانوا فيها أولًا جرائم الاحتلال، ثم دعموا المقاومة بشكل لافت، وطالبوا الحكومات العربية والإسلامية بنصرة الفلسطينيين ودعمهم بكل ما يمتلك العرب والمسلمون من موارد وثروات ونفوذ.
لكن البيانات وحدها لم تكن كافية في ظل مخطط الإبادة وتصفية القضية الفلسطينية، إذ كان ينتظر من شيخ الأزهر توظيف مكانته الرفيعة لدى المصريين في توجيه خطابات أكثر قوة تتناسب وحجم الكارثة، يطالب فيها الشعب المصري باتخاذ خطوات أكثر تأثيرًا سواء بالنزول والضغط على الحكومات العربية والإسلامية أم تكثيف خطاب المقاطعة ومطالبة النظام بشكل مباشر وصريح باتخاذ موقف يتناسب مع الوضعية الجديدة التي تحولت فيها المعركة إلى حرب دينية بامتياز كما أعلنها رئيس حكومة الاحتلال والولايات المتحدة أكثر من مرة.
أما الكنيسة وهي القطب الثاني للخطاب الديني في مصر، فجاء موقفها باهتًا، حضور من باب ذر الرماد في العيون، ففي اليوم الثاني للحرب أصدرت بيانا تنظيريًا عامًا نددت فيه بالأحداث المتصاعدة، وشددت على أن العنف لا يؤدي إلا إلى عنف مماثل ومزيد من القتل والدمار، داعية الأطراف كافة إلى الاحتكام للعقل.
ومع ازدياد الجرائم الوحشية واستهداف الكنائس والمستشفيات الخاضعة لإدارة الكنيسة، أصدرت الكنيسة المصرية بيانًا آخر لم يختلف كثيرًا عن سابقه، حيث أدانت سفك الدماء في كل مكان، معلنة دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني في العيش بأمان داخل أراضيه، أما بابا الكنيسة، تواضروس الثاني، فلم يخرج للأضواء منذ بداية الحرب إلا في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وذلك لإعلان تأييده الكامل لموقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن رفض تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، ليعود بعد ذلك إلى صومعته مجددًا، فيما غابت الكنيسة عن المشهد بشكل كلي.
ويبرر البعض غياب الكنيسة عن المشهد بأنها تأبى الانخراط في أي عمل سياسي، حفاظًا على قدسيتها وهيبتها، رغم أنها كانت محورًا أساسيًا على المسرح السياسي خلال السنوات الأخيرة لدعم السيسي وقراراته ومواقفه، بل حشدت الأقباط البالغ عددهم ما بين 8 – 10 ملايين مواطن إلى تأييد القيادة السياسية في الداخل والخارج.
القوى الناعمة.. انقسام وحسابات خاصة
ظلت القوى الناعمة (الفن والإعلام والرياضة تحديدًا) في مصر محركًا أساسيًا للشارع لعقود طويلة، لما تتمتع به من ثقل ومكانة لدى الشعب المصري والعربي على حد سواء، لكنها وبفعل فاعل غابت عن المشهد بشكل كبير منذ سنوات طويلة، في الوقت الذي سحبت فيه قوى ناعمة إقليمية أخرى البساط من تحت أقدام ريادتها للمنطقة.
وبدلًا من التكاتف والتوحد لأجل نصرة الفلسطينيين ودعم المقاومة في غزة بعدما ثبت للجميع أن ما يمارس هو معركة وجودية من الدرجة الأولى وليست معركة عادية ضمن المعارك المستمرة بين الفلسطينيين والاحتلال، أصيبت القوى الناعمة المصرية بسهام التفتت والانقسام، وتشتت إلى تيارات عدة ساد بينها التخوين وتبادل الاتهامات.
وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال معركة الفنان محمد سلام الذي اعتزل المشاركة في موسم الرياض دعمًا للأشقاء في غزة وزميله بيومي فؤاد الذي شارك واتهم صديقه من فوق مسرح الرياض بـ”الابتزاز والمزايدة”، الأمر ذاته تكرر بين عمرو أديب الذي يعمل في إحدى القنوات السعودية وبعض الإعلاميين المصريين، وهكذا تفتت المواقف وانقسمت وغاب دور القوى الناعمة المأمول في حشد الرأي العام وتجييش الشارع لنصرة إخوانهم في غزة والدفاع عن قضية العرب الأولى.
حتى الاكتفاء بالقليل والحد الأدنى من الدعم من خلال تدشين أعمال فنية لدعم المقاومة على شاكلة أوبريت “الحلم العربي” وخلافه لم يحدث، الأمر الذي أحرج رموز القوى الناعمة في مصر وسط تساؤلات عن احتمالية أن تعود لدورها في تعزيز الوعي السياسي مرة أخرى قبل فوات الأوان.
الأحزاب السياسية.. حضور مسيس
في المواقف الشبيهة بتلك التي تدور في غزة قبل عقدين تقريبًا، كانت الأحزاب المصرية في مقدمة الداعمين، بيانات ساخنة وفعاليات على مستوى الحدث، وخطابات سياسية للأنظمة والحكام، بل وأحيانًا رسائل مباشرة إلى المنظمات الدولية كمجلس الأمن والأمم المتحدة تعرب فيها عن دعمها للقضية الفلسطينية وإدانتها للاحتلال وجرائمه.
كان هذا يحدث رغم هيمنة الحزب الوطني المنحل على المشهد وتضييق الخناق على بقية الأحزاب التي تحولت إلى كيانات كرتونية لإبقاء الحزب الحاكم مسيطرًا على الساحة بشكل احتكاري، لكن اليوم الوضع تبدل كثيرًا، فلم يعد لتلك الأحزاب أي دور ولا حضور.
الأحزاب المصرية الحاليّة اكتفت ببيانات الشجب والإدانة، وإعلان الدعم للشعب الفلسطيني ضد جرائم الاحتلال، لكنها البيانات الباهتة الضعيفة، أما الانتفاضة الوحيدة التي شنتها الأحزاب المصرية منذ بدء الحرب كانت لدعم السيسي في خطابه الذي لوح فيه بنزول المتظاهرين للشارع لتأييد قراراته ومواقفه الخاصة برفض تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
أما الحزب الذي يمثل السلطة والأغلبية في الوقت الراهن “مستقبل وطن” فكان تحركه مسيسًا من الدرجة الأولى، وحين استجاب لدعوة السيسي للتظاهر حوّل الفعاليات إلى ساحة كبيرة لدعم الرئيس، كأنها استفتاء على شعبيته التي تراجعت قبيل الحرب على غزة بصورة كبيرة، كان الهدف هو الحصول على اللقطة، كما قال أحد القيادات الأمنية بوزارة الداخلية، وما إن تم أخذها حتى فرغت الشوارع من المتظاهرين في ظل القبضة الأمنية المشددة.
المجتمع المدني.. تأميم كامل
النقابات والجمعيات التي كانت تزلزل الأرض في السابق تظاهرات واحتجاجات وفعاليات إبان الانتفاضة الأولى والثانية تحولت إزاء الحرب الحاليّة إلى كيانات مهملة لا حياة فيها، اللهم إلا حراك مقتضب لنقابة الصحفيين التي نظمت عدة وقفات قوية بداية الحرب.
وغابت عن الصورة بشكل كبير نقابات كانت تمثل علامة فارقة في الاحتجاجات الشعبية بدايات الألفية الثالثة، كنقابتي المهندسين والأطباء تحديدًا، حيث كانتا بؤر اشتعال لخروج عشرات الآلاف لدعم القضية الفلسطينية خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك.
الجامعات والمدارس التي ظلت لسنوات طويلة مفرخة للفعاليات الساخنة والهتافات التي تزلزل الأرض غابت هي الأخرى عن المشهد، ولم تفرض نفسها إلا حين طلب منها ذلك في الدعوة التي أطلقها السيسي، حيث خرجت عشرات التظاهرات في عدة جامعات لكن سرعان ما اختفت مرة أخرى.
ودخل المجتمع المدني المصري حظيرة الاستقطاب خلال السنوات الأخيرة في ظل خضوعه لعملية تأميم كامل شملت قياداته ومجالس إداراته، فيما نجحت الدولة عبر إستراتيجية الترهيب في إبعاده عن المشهد بصورة كبيرة، لتفقد الدولة المصرية أحد أبرز مراكز ثقلها الإقليمي وأحد أهم المحركات القوية للمياه الراكدة في مجاري المنطقة.
إحياء لعصر الاستفاقة
شتان شتان بين الحراك المصري الحاليّ وما كان عليه إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 – 2005)، مع دخول رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى في 28 سبتمبر/أيلول 2000 رفقة 1000 حارس مسلح ودنسوا حرمه الشريف ورددوا هتافات عنصرية ادعوا خلالها أن الحرم القدسي منطقة إسرائيلية، ما أسفر عن مناوشات أودت بحياة عدد من الشهداء وإصابة أخرين، كان للشارع العربي رأي أخر.
وما إن تناقلت وسائل الإعلام مقطع الفيديو المصور لمقتل الطفل محمد الدرة حتى اشتعلت القاهرة ومعظم مدن المنطقة بالتظاهرات الحاشدة، وكان للشارع المصري كلمته القوية التي أجبرت النظام وقتها على التحرك، فكانت قمة القاهرة الطارئة، تبعتها قمم ولقاءات وتحركات مكثفة من السلطات المصرية التي ضغطت على دول الإقليم لضرورة البحث عن حل سريع لإنقاذ الفلسطينيين ووقف التصعيد الإسرائيلي.
ونجحت التظاهرات التي زخرت بها كل المدن والجامعات والأحزاب والنقابات المصرية في إحداث الفارق ومثلت ضغطًا كبيرًا على الحكام العرب، فكان التحرك استجابة للشارع الثائر الذي قدم ملحمة في الوطنية والانتصار للمبادئ والإنسانية لم تعرفها الساحة منذ ذلك الوقت.
وظلت مصر الداعم الأبرز للفلسطينيين من خلال الأنفاق التي كانت شريان الدعم للمقاومة وسكان القطاع عبر عمليات التهريب التي كانت تتم تحت سمع وبصر القيادة المصرية التي كانت ترى في تلك الأنفاق الوسيلة الوحيدة لإحداث التوازن في معادلة القوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما كان بالفعل طيلة سنوات الانتفاضة الخمسة.
وأفضى الحراك الشعبي للشارع المصري في نهاية المطاف إلى أبرام الاتفاق بين أبو مازن ممثلًا عن السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال في 5 فبراير/شباط 2005، الذي كان يتضمن انسحاب المحتل من مدن الضفة الغربية وإطلاق سراح 900 أسير فلسطيني ووقف أعمال العنف كاملة، بجانب التعهد بوقف أعمال المقاومة في الضفة وغيرها من المدن الفلسطينية.
على الجميع في مصر، أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية وجامعات ومدارس وأزهر وكنيسة ومواطنين في المنازل والشوارع ومقار العمل، أن يستقر في يقينهم أن المعركة مع الاحتلال هذه المرة معركة عقيدة ووجود وليست جولة في سباق الحرب الدائرة في المنطقة لأكثر من 7 عقود، ومن ثم فإن المسؤولية ملقاة على الجميع لدعم المقاومة وإبقاء القضية الفلسطينية في لوحة الاهتمام العالمي.
سقوط غزة يعني أن الأمن القومي المصري بات مكشوفًا لدولة الاحتلال التي لا تجد حرجًا في التعبير عن حلمها في التمدد من البحر إلى النهر، ووأد المقاومة باختصار هو إزالة الحاجز الخرساني الحائل للاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية، ومن هنا يأتي الرهان على الدور المصري من الفلسطينيين، والقتال لأجل تهميشه وتحييده من الكيان المحتل.
قد يتحجج البعض بأن القبضة الأمنية المشددة تقف حجر عثرة أمام انتفاضة المصريين، وأنهم يتسولون أي مناسبة للتعبير عن هذا الدعم كما يحدث في مباريات كرة القدم، لكن هذا ليس مبررًا للخذلان والانبطاح والصمت، فالكارثة ومخاطرها وتداعياتها المتوقعة تفرض على الجميع التحرك مهما كانت الصعاب والتحديات.
الانتفاضة اليوم واجب الجميع، من أجل الضغط على الحكومات والأنظمة الإقليمية والدولية، فالثقل الذي تمثله مصر، شعبيًا وعسكريًا وتاريخيًا وجيوسياسيًا، يسمح لها بإحداث الفارق إذا توفرت الإرادة، والإرادة تحتاج إلى قوة دفع ضاغطة تتمثل في الشعب وكلمة الشارع.. فمتى يقول المصريون كلمتهم؟