إن كنت من المؤمنين بفكرهم سترى حركاتهم الراقصة وتمايل أجسادهم يمينًا ويسارًا سباحة في بحار الإيمان وأنهار الزهد وسحب التضرع إلى الله عز وجل، وإن كنت من أنصار الفكر المضاد لهم ستراها جهلاً يقارب الشرك وطقوسًا تتجاوز البدعة.
الصوفية إحدى أكبر الأفكار الدينية التي تحاول أن تنظم نفسها إداريًا وهيكليًا في مصر، وربما الفرقة الوحيدة المعترف بها بصورة رسمية في البلاد، تقام احتفالاتها في مختلف المحافظات بصفة دورية تحت رعاية أجهزة الدولة التنفيذية، يتجاوز أتباعها الملايين في تقديرات البعض، وأصبح لها ثقل سياسي أكثر منه ديني في الآونة الأخيرة.
تم تحديد الرابع والعشرين من مايو الحاليّ موعدًا لإجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية حسب القرار الصادر عن مجلس الوزراء، وقد تم اختيار مجلس الدولة (أحد أبرز الكيانات القضائية في مصر) كجهة مشرفة على الانتخابات بالتعاون مع الجهاز التنفيذي المحلي لمحافظة القاهرة.
الاهتمام الرسمي والشعبي لوقائع تلك الانتخابات وما ستتمخض عنه من نتائج يضع العديد من التساؤلات عن واقع الصوفيين في مصر، وتخصيصهم بهذه العناية دون غيرهم من الفصائل الإسلامية الأخرى، والدور الذي يقومون به في إطار الخارطة السياسية الجديد، إضافة إلى كيفية توظيف النظم الحاكمة لهم لخدمة أهدافها وأغراضها السياسية.
ملايين الصوفيين و6 آلاف ضريح
يعد الصوفيون في مصر من أكبر الفصائل الإسلامية في العالم لما يمتلكونه من حضور شعبي ومادي قد لا يتوفر لدول وحكومات بأكملها، ,وفي ظل عدم وجود إحصاء رسمي للمنتسبين للتيار الصوفي في مصر بات الأمر خاضعًا لتصريحات وتصورات بعض أقطاب هذا التيار ممن أشاروا إلى أن العدد يقترب من 15مليون مصري، كما يبلغ عدد الطرق الصوفية نحو 76 طريقة تنتمي في أصولها إلى 6 طرق رئيسية، من أشهرها: البدوية، الرفاعية، القادرية، الشاذلية، الدسوقية، الخلوتية، الطريقة العزمية.
وبعيدًا عن الأرقام التي يشير إليها شيوخ التيار الصوفي فإن الغالبية العظمى من المنتسبين لهذا التيار “غير مسيسين” فضلا عن خروجهم عن دائرة السيطرة والخضوع لتوجهات وإملاءات القيادات العليا على عكس بقية الكيانات الأخرى، ومن ثم فإن الحديث هنا يتعلق يتيار ديني له مريدوه ممن انتسبوا إليه عبر بوابة حب آل البيت وغير ذلك من المعتقدات الدينية بعيدًا تمامًا عن البعد السياسي
يبلغ عدد الأضرحة والمقامات الصوفية ما يقرب من 6 آلاف ضريح في مختلف محافظات مصر، بحسب – وزارة الثقافة بعضها يحتل أبرز المناطق الحيوية في العواصم الإقليمية، حيث يوجد 294 ضريحًا في القاهرة، أشهرها “الحسين – السيدة زينب – السيدة نفيسة”، فيما تتوزع البقية على المدن والمحافظات، على رأسها مركز تلا بالمنوفية حيث يوجد به 133 ضريحًا، يليه مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ وبه 81 ضريحًا، كذلك مركز طلخا بمحافظة الدقهلية وبه 54 ضريحًا.
من أشهر الهيئات الصوفية المسجلة رسميًا المجلس الأعلى الذي يترأسه الدكتور عبد الهادى القصبى، والاتحاد العام لتجمع آل البيت، ونقابة الأشراف.
يؤمن الصوفيون بأربعة أئمة يطلقون عليهم “أقطاب”، هم أحمد البدوى صاحب مسجد السيد البدوى بطنطا، الشيخ الجيلانى، إبراهيم الدسوقى، الشخ أحمد الرفاعي الذي يعد أشهرهم إذ يحتفل بمولده ثلاث مرات في العام، ومن أبرز مظاهر الاحتفال به ارتداء العمامة والشارة الحمراء إضافة إلى رفع العلم الأحمر.
ويعود تقنين الصوفية في مصر إلى القرن التاسع عشر حين أصدر محمد علي باشا، حاكم مصر، فرمانًا بجعل الطرق الصوفية تحت سلطان شيخ السجادة البكرية، ومثل ذلك عهدًا جديدًا لهذه الجماعات التي لم تكن قبل صدور هذا الفرمان خاضعة لسلطة مركزية.
يبلغ عدد الطرق الصوفية نحو 76 طريقة تنتمي في أصولها إلى 6 طرق رئيسيةأشهرها الرفاعية والشاذلية
مولد السيدة زينب وسط القاهرة أشهر أضرحة الصوفية
الصوفية والنظم السياسية
تتميز العلاقة بين الصوفية والنظم السياسية الحاكمة على مر العصور بالود والمهادنة في معظم فتراتها، حيث لم تشهد أي صدام حقيقي يعكس حالة التوتر في العلاقات بين الطرفين، وهو ما يفسر صعود نجم التيار الصوفي في مصر تحت مرأى ومسمع وكنف الحكومات المتعاقبة.
عهد جمال عبد الناصر.. بعد أحداث 1954 والتي اصطدم حينها النظام بالتيارات الإسلامية لا سيما الإخوان، قرر عبد الناصر أن تكون الهيئات الدينية كافة تحت قبضته، ومن ثم قام بتعيين الشيخ “محمد محمود علوان” شيخًا للطرق الصوفية على عكس ما كان معمولاً به في السابق حين كان التعيين بالأقدمية.
ورغم هذا الخرق الواضح لآلية الانتخاب داخل الطرق الصوفية، فلا أحد تفوه بكلمه، حيث رأى قادة الصوفية حينها أن الوقت غير مناسب للصدام مع النظام، وبات خيار المداهنة والتودد السبيل الوحيد للتقرب من عبد الناصر، وهما ما انعكس بصورة إيجابية على الطرفين، حيث زاد عدد المريدين هربًا من تهمة الانتماء للإخوان، كما استغل النظام هذا الجمع الغفير وقتها للترويج لأفكاره ومنشوراته مستغلاً الاحتفالات الدينية لهذه الطرق.
وفي المقابل أراد عبد الناصر أن يكافئ قادة الصوفية وذلك بانضمام أعضاء منهم للاتحاد الاشتراكي ومجلس الأمة، فكان منهم الشيخ الجنيدية وكامل القياتي أحد أبرز مشايخ الصوفية في ذلك الوقت.
تتميز العلاقة بين الصوفيين والنظم الحاكمة بالود والتقارب والمداهنة وهو ما يفسر صعود نجم التيار الصوفي في مصر تحت مرأى ومسمع وكنف الحكومات المتعاقبة
عهد السادات.. بعد التجربة الناصرية، أيقن الصوفيون أن التودد للنظام والتقرب إليه هو أقصر الطرق نحو تحقيق الأهداف وبلوغ الطموحات وتجنب الصدام والعداء، وهو ما كان بالفعل في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
خضعت الطرق الصوفية للترويض والعمل على خدمة النظام والعزف على الدعاية له والتمجيد لرموزه في مقابل وصول مشايخها إلى بعض المناصب السياسية، والتغلغل داخل أجنحة النظام وكسب الكثير من الولاءات.
عهد مبارك.. لم يختلف تعامل الصوفيين مع نظام مبارك عن عهد السادات، حيث نجحوا بما يملكونه من قاعدة شعبية جارفة في الحصول على كسب ثقة ودعم أعضاء وقيادات الحزب الوطني المنحل الذي استغل الصوفيين للترويج لأفكاره وتحقيق أهدافه السياسية سواء إبان فترات الانتخابات أو غيرها من الاستحقاقات التي تحتاج إلى تأييد جماهيري.
إلا أن توترًا حدث بين الطرفين في 2010 حين أقدم مبارك على تعيين “عبد الهادي القصبي”، الذي كان عضوًا في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، شيخًا لمشايخ الطرق الصوفية، بما يخالف ما كان معمولاً به من تعيين أكبر أعضاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية المنتخبين من مشايخ الطرق، ومع ذلك لم يرتق هذا التوتر إلى درجة الصدام.
عبد الهادي القصبي، عضو الحزب الوطني الذي عينه مبارك شيخًا لمشايخ الطرق الصوفية 2010
ثورة يناير والانخراط السياسي
بعدما نجحت ثورة يناير في بداياتها الأولى سارعت الطرق الصوفية إلى البحث لها عن موطئ قدم من خلال الانخراط في العمل السياسي، عبر تشكيل ثلاثة أحزاب سياسية هي حزب التحرير وحزب نهضة مصر وحزب النصر، في محاولة للحصول على نصيب من مكتسبات الثورة المتوقعة حينها.
لكن مع الوقت بدأت تتغير مواقف الأحزاب الصوفية حيال الثورة وفصائلها، حيث شنت حملة ضد الإخوان والسلفيين واتهمتم بجر البلاد إلى الفتن ومحاولة إقصاء الأطراف الأخرى، بعدما رأته من شعبية واضحة تمثلت في نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية.
الموقف العدائي للطرق الصوفية تجاه الإخوان والسلفيين لم يكن موقفًا دينيًا ولا وطنيًا كما سعت إلى الترويج له، لكنه كان صراع على النفوذ، وحين أيقنت فشلها في تحقيق المكاسب المرجوة سعت إلى الانقلاب عليهما، وهو ما تجسد في دورها فيما بعد.
بعد نجاح ثورة يناير سارعت الطرق الصوفية إلى الانخراط في العمل السياسي عبر تشكيل ثلاثة أحزاب
“لا إله إلا الله السيسي حبيب الله”
كان الصوفيون أكثر المستفيدين من سقوط حكم الإخوان، إذ بات الطريق ممهدًا أمامهم من جديد لاستعادة دورهم ونفوذهم مرة أخرى، وبالفعل كانوا من أوائل الصفوف التي تقدمت لإعلان المبايعة والدعم والتأييد لعبد الفتاح السيسي عقب إعلانه الترشح في 2014.
وتحت شعار “لا إله إلا الله السيسي حبيب الله” توجه وفد من مشايخ الطرق الصوفية للقاء السيسي على رأسهم محمود الشريف نقيب الأشراف، وعبد الهادى القصبي رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وذلك في مايو من 2014، لإعلان دعمه في الانتخابات الرئاسية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تعلن الطرق الصوفية تأييدها لمرشح بعينه.
وفي الوقت ذاته نظم عدد من مشايخ الصوفية العديد من المؤتمرات الداعمة للسيسي قبيل إجراء الانتخابات منها ما قام به علاء الدين ماضي أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية، ورئيس الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، والذي باشر بإطلاق سلسلة من المؤتمرات الشعبية في العديد من المحافظات لتأييد السيسي.
وقد وصلت مداهنة الصوفيين وتوددهم لنظام السيسي إلى حد وصفه بأنه “صوفي الأصل” كما جاء على لسان زين العابدين فهمي سلامة، خليفة خلفاء الطرق الرفاعية بالمنيا، والذي أشار فى تصريحات له “أن جميع أعضاء الطرق الرفاعية بالمنيا، سيتوجهون لصناديق الانتخابات، لتأييد السيسى رئيسًا للبلاد”، مؤكدًا أن “السيسي محب للطرق الصوفية لأنه صوفي الأصل”.
يسعى النظام الحالي إلى توظيف الصوفيين بجانب كونهم قاعدة شعبية إلى تصديرهم كظهير ديني مستأنس بديل للإخوان والسلفيين
السيسي خلال استقباله وفد للطرق الصوفية في 2014
الصوفيون ليسوا وحدهم المستفيدين من مداهنة النظام الحالي سواء بوصول بعضهم إلى مناصب مرموقة وتمتعهم بالعديد من الامتيازات المادية والعينية والسياسية فضلاً عن قربهم من دوائر صنع القرار، إلا أن النظام أيضًا يسعى من خلال هذه العلاقة القوية التي تربطه بهم إلى تحقيق أهدافه السياسية.
أهداف النظام تتمحور في شقين اثنين، الأول: كسب تأييد التيار الصوفي سياسيًا والعزف على هذا الوتر إعلاميًا وإن لم يكن لديه القاعدة الشعبية التي طالما يسعى شيوخه للتأكيد عليها وهي ما تكذبها الخبرات السياسية وعلى رأسها تضاؤل حضورهم الانتخابي في 2012 وما بعدها، فكيف لتيار يبلغ حجمه 15 مليونًا كما يقال لا يستطيع أن يحقق مكاسب سياسية في أي استحقاق انتخابي حتى الآن؟
الثاني: مناهضة التيارات الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها الإخوان والسلفيين وإقصاؤهم خارج المشهد السياسي، من خلال تقديم بديل لهم يتمتع بشعبية ليست بالقليلة وربما تفوق شعبية التيارين الآخرين، فضلاً عما يتميز به من تقديمه لفروض الولاء والطاعة ومن ثم يمكنه أن يكون ظهيرًا دينيًا للنظام.
ومن ثم فلم تشهد العلاقة بين الصوفيين والنظم الحاكمة حالة من الوفاق والتقارب كالتي تشهدها هذه الأيام، حيث نجحت الطرق الصوفية في تحقيق أهدافها المتمثلة في استعادة نفوذها مرة أخرى والحصول على الضوء الأخضر للتمدد والانتشار والقيام بكل الطقوس والاحتفالات دون تضييق أو خناق، إضافة إلى تقلد بعض أعضائها مناصب ذات وجاهة سياسية واجتماعية مرموقة، وفي المقابل نجح النظام الحالي في توظيف الصوفيين لتحقيق أهدافه السياسية من خلال ما لديهم من حضور إعلامي ملحوظ وتصديرهم كظهير إسلامي جاهز وتحت السيطرة بديلاً لتمرد الإخوان أو السلفيين.