حينما تتصفّح حساب الطفل الشهيد عوني الدوس على فيسبوك، تجد أن واحدًا من منشوراته القليلة التي تظهر هو منشور يُظهر سعادته بفوز النسور الخضر، منتخب السعودية، على منتخب الأرجنتين في كأس العالم قطر 2022. هذا مؤثرٌ للغاية، فبينما كان عوني طفلًا حالمًا يعيش حياته ويتحمّس لتشجيع المنتخب السعودي، لم يجد حين مماته من ينعيه في ملاعب الكرة السعودية.
لا يعبّر عن غرابة الحالة التي يعيشها المجتمع الخليجي تجاه القضية الفلسطينية أكثر من هذا المثال: في بداية الموسم الكروي الجاري 2023-2024، استطاع دوري روشن السعودي استقطاب العديد من النجوم العالميين للعب في السعودية، ورغم ما تعرضت له السعودية من هجوم الصحف الغربية والأوروبية بتوصيفات استشراقية عنصرية ضد البيئة العربية والإسلامية، كان الجمهور العربي متحمّسًا لتلك التجربة، حتى أن هناك من عزف عن متابعة الدوريات الأوروبية لصالح دوري روشن، وكانت هكذا تسير الأمور حتى 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
بعد هذا التاريخ، وجد المتفرج العربي، وتحت وطأة الأحداث والعدوان الإسرائيلي على غزة، أن هناك الكثير من الجماهير الأوروبية في ملاعب إنجلترا وإسبانيا وليالي دوري أبطال أوروبا الشهيرة تقوم برفع علم فلسطين، بينما في دوري روشن وفي بداية كل جولة يشجّع الجمهور السعودي بأهازيج ورايات تحتفي بنجومه وفرقه، كأن لا شيء يحدث في العالم، أو كأن العالم هو السعودية.
العالم هو السعودية، أو العالم هو الإمارات، ربما تكون هذه هي الحالة التي يمكن من خلالها النظر إلى مواقف معظم المواطنين في الخليج العربي، بالأخص في السعودية، حيث إنها تضم العدد الأكبر من السكان في المنطقة الخليجية، وكان معقود عليها الأمل للضغط على حكومتها لتتخذ موقفًا من الأحداث في فلسطين، لكن لم يجد المواطن العربي سوى اللامبالاة، ولا أي تعاطف شعبي مُعلن.
فمنذ صعود ولي العهد محمد بن سلمان، كانت هناك الكثير من الأمور التي اتخذها ليدفع بها “ثمن الصمت” لشعبه، ترغبيًا؛ بفتح المجتمع على العالم مرة واحدة حتى باتت مهرجانًا ترفيهيًا مفتوحًا يُستقبل فيه كل من هب ودب، أو ترهيبًا غاشمًا يقمع عبره كل من ينبس ببنت شفه لا ترضي الحاكم بأمره.
تاريخ من احتجاج على استحياء
على مدار الصراع العربي الإسرائيلي، كان للسعودية، شاءت أم أبت، وبسبب وصايتها على الحرمَين الشريفَين، حضور منذ اتفاقية كوينسي بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945، ولكن لطبيعة العقد الاجتماعي في المملكة بين الشعب والسلطة، كان ذلك الموقف من فلسطين دومًا ما يمرّ عبر موقف السلطة في السعودية وما تتخذه من قرارات.
فباستثناء فرقة من المتطوعين السعوديين في حرب 1948، لم يكن الشعب السعودي في قلب المعركة مع “إسرائيل” مثل غيره من دول الجوار، كمصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن، ومنذ نشأة الدولة السعودية كفاعل سياسي له دور في الأمة العربية، كان المناخ هو مناخ صعود حركة القومية العربية التي وصفت السعودية وغيرها من الممالك بـ”الرجعية”، وكان النضال الفلسطيني، متمثلًا في منظمة التحرير الفلسطينية وفتح، “نضالًا تقدميًّا” ذا طابع يساري.
لذلك كان التعامل السعودي مع القضية من الناحية الشعبية تعاملًا حسّاسًا، لأن القضية الفلسطينية مثّلت كل ما هو مضادّ للسياسة السعودية، وقد تعمّقت تلك الحساسية بمرور السنوات حتى حرب الخليج 1990، حيث قبلت الدولة السعودية بقواعد أمريكية على أرضها، ما أيقظ غضبًا شعبيًّا من الإسلاميين في السعودية، وأغضب أسامة بن لادن الذي كان قائدًا للنضال الإسلامي آنذاك برضا الحكومة السعودية في أفغانستان، وحدث الشقاق بسبب وجود القواعد الأمريكية على الأراضي السعودية.
وقد كان ابن لادن في ذلك الموقف يحاجج بالموقف من قضية فلسطين، وهو ما اجتذب مجموعة من الشباب إلى فكر ابن لادن الجهادي، والذين اعتبرتهم الحكومة خوارج عليها، ومن هنا ظلت الحكومة تنظر إلى أي موقف تجاه فلسطين باستثناء موقفها الرسمي على أنه موقف خارج عليها.
لذلك لا نجد من العجب أنه في عام 2002، وبينما كانت انتفاضة الأقصى تشتعل نيرانها، واجهت وزارة الداخلية المظاهرات التي نظّمتها “اللجنة الشعبية لمناصرة فلسطين” بالقمع والاعتقال وضرب المتظاهرين، حتى النساء والكهول منهم، لأن قانون السعودية ببساطة لا ينص على حق التظاهر والاحتجاج، فماذا إذا كان هذا الاحتجاج من أجل فلسطين؟ وهو ما تكرر مرة أخرى في مظاهرات نظّمها الناشطان خالد العمير ومحمد العتيبي أثناء حصار غزة عام 2008، حيث تم اعتقالهما في النهاية.
ورغم استمرارية القمع الحكومي، استمرت محاولات فردية هنا أو هناك للخروج تأييدًا لفلسطين بشكل مستقل عن الموقف الرسمي للحكومة السعودية، لكن منذ صعود ولي العهد محمد بن سلمان تغيّر الموقف كثيرًا، حتى تلك المحاولات الصغيرة لم تعد واردة، رغم الأحداث الكبرى التي شهدتها تلك الفترة وأشعلت بعض الميادين العربية بالمظاهرات، من اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” وأحداث حي الشيخ جراح، فما الذي تغيّر؟
إكس.. كمين مؤيدي فلسطين
تمثل منصة “إكس” النبض الأهم للتعبير عن الرأي السعودي، حيث ينشط السعوديون هناك، ومنذ بداية الأحداث في فلسطين أبدى عدد من المؤثرين السعوديين، مثل إياد الحمود، تعاطفهم مع فلسطين، وفي الواقع لا تمتعض الحكومة السعودية من ذلك الدعم، بل هي تحرض عليه طالما أنه من منطلق إنساني ولا يمسّ السياسة السعودية تجاه فلسطين بكلمة، وهذا ما تعبّر عنه مبادرات ولي العهد لجمع التبرعات والمساعدات لغزة.
ونحن إذا فتشنا في التاريخ، نجد صدى لذلك التوجه الذي يولي الأهمية للمساعدات الإنسانية دون الغضب والشجب، ففي الحرب على غزة عام 2014 خرجت العديد من المظاهرات في الوطن العربي، وهي تلك التي تفّه منها عبد العزيز آل الشيخ مفتي الديار السعودية، ووصفها بالغوغائية والهمجية، وفضّل أن يتوجه ذلك الغضب إلى التبرع بالمساعدات.
وبالعودة إلى “إكس”، بينما نجده يمارس تنفيسًا عن الغضب لفلسطين في المساحات الآمنة من خلال الدعم الإنساني، نجده أيضًا قاد العديد من دعاة نصرة فلسطين إلى السجون السعودية المظلمة القاسية.
فمنذ صعود ولي العهد عام 2017، أُنشئ جهاز أمني جديد يضاف إلى أجهزة القمع هو رئاسة أمن الدولة، والذي يضم جميع القوات الأمنية ويرتبط برئيس مجلس الوزراء، وقد تفرّع عن ذلك الجهاز القمعي الجديد ما عُرف باللجان أو “الذباب الإلكتروني”، وهي حسابات لشخصيات سعودية وهمية على إكس، غرضها الإيقاع بأصحاب الرأي المعارض للحكومة وتوجهاتها.
وانعكس ذلك التطويق الأمني في أحداث عام 2019، حيث قامت السلطات السعودية في “اعتقالات أبريل” باعتقال عدد من النشطاء السعوديين، شاركوا في حوارات حول الإصلاح العام في السعودية عبر إكس، وأُفرج عنهم فيما بعد على ذمّة التحقيق في القضايا المنسوبة إليهم.
وكانت الخلفية التي وحّدت بين هؤلاء النشطاء هي كونهم على صلة دائمة بمناصرة القضية الفلسطينية ومناهضة محاولات التطبيع، وفي عام 2022 صدر حكمًا بالسجن على الناشطة سلمى الشهاب مدة 34 عامًا، والتي كانت قد سخّرت حسابها على إكس لنصرة قضية فلسطين ومناهضة التطبيع ومناصرة حقوق المرأة.
وفي عام 2019 أيضًا حدث ما هو أشبه بمذبحة للفلسطينيين والأردنيين من أصل فلسطيني داخل السعودية، حين قامت السلطات السعودية منذ مطلع العام وحتى أبريل/ نيسان باعتقال 68 شخصًا تم إخفاؤهم قسريًا وتعذيبهم، إلى أن مثلوا أمام المحكمة في العام الذي يليه.
وكانت التهم التي لاحقت هؤلاء الأشخاص، وأشهرهم الدكتور محمد الخضري القيادي في حماس والمقيم بالسعودية منذ أعوام، هي تهم تتعلق باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكتابة منشورات تهدد الأمن العام ،والقيام بجمع تبرعات لفلسطين كغطاء لجماعات إرهابية، ولكونهم على علاقة بالإخوان المسلمين.
وفي عام 2021 أصدرت المحكمة بحقّهم أحكام تتراوح بين 6 أشهر و22 عامًا، وظلَّ الخضري قابعًا في السجن، محرومًا من علاجه الذي يأخذه بسبب مرضه بالسرطان، إلى أن أُفرج عنه عام 2022 وتسليمه إلى الأردن، وما زال غيره قابعين في ظلام السجون السعودية ثمن موقفهم الداعم لفلسطين.
كيف تغضب في بلد مطبِّع؟
في الإمارات يختلف الوضع عن السعودية، ففي واقع الأمر لا تمتلك الإمارات مجتمعًا يستطيع أن يصنع حراكًا سياسيًّا، بل إن عدد الأجانب يفوق عدد المواطنين، وقد جعلت دبي على مدار سنوات من نفسها حاضنة استقطاب للمشاهير من العالم أجمع بإقاماتها الذهبية التي توزعها، لكن رغم ذلك كان هناك بصيصًا من الغضب في مجتمع تربّى على ما عُرف بقانون مقاطعة “إسرائيل”، والذي شُنَّ عام 1972 وأُلغي بعد الاتفاق الإبراهيمي عام 2020.
قابل ذلك الغضب قمع بل استئصال لمؤيدي القضية الفلسطينية من المجتمع الإماراتي، حتى أن الحكومة الإماراتية قامت باعتقال مجموعة من النشطاء المناهضين للتطبيع، بل أغلقت المؤسسات الخيرية الداعمة وجامعة التبرعات لفلسطين، على رأسها اللجنة الإماراتية لمناهضة التطبيع، والتي تأسّست عام 2001 لمراقبة كل أنشطة التطبيع على الصعيد الرياضي والاقتصادي والاجتماعي، ولطالما شكّلت وسيلة ضغط على شخصيات سياسية إماراتية ورجال أعمال كانوا يخطون تجاه “إسرائيل”.
يوجد العديد من الأصوات المعارضة لسياسات التطبيع في الإمارات من الإماراتيين في الخارج، لكن لم يكن الضغط الشعبي من الداخل قويًّا ضد الحكومة، بل يبدو الأمر كما لو أن هناك رضى شعبيًا عن العلاقة مع “إسرائيل”.
وبعيدًا عن مواطنيها، تقوم الإمارات بابتزاز العمالة الوافدة بالضغط عليها من أكل عيشها، فالكثير من الوافدين إلى الإمارات يخشون الحديث عن القضية الفلسطينية بما يخالف توجهات الحكومة، حيث سبق وأن قامت الحكومة الإماراتية بترحيل العديد من الفلسطينيين والأردنيين في الفترة التي سبقت التطبيع والتي أعقبتها.
وفي أعقاب أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لجأت الحكومة الإماراتية إلى الحديث عن الشأن الإنساني، دون توجيه أصابع الاتهام إلى أحد سوى حماس، وحثت شعبها على التبرعات من أجل تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وهو ما حدث بالفعل، وهو الدعم الذي ترتضيه الحكومة طالما يمرّ عبر منافذها.
وفي سياق موازٍ، قامت الحكومة بتأجيل فعالية تضامنية دُعي إليها في دبي تحت عنوان “ماراثون اجرِ من أجل فلسطين” إلى أجل غير مسمّى دون إبداء أسباب، لكنه بالتأكيد خوفًا من التجمهر ولو من أجل الجري لفلسطين.