تحظى المجازر المروعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، بتأييد دولي مخز، ويغضّ الغرب طرفه عن الإبادة الجماعية التي تبث وقائعها على الهواء مباشرة، رغم تعارضها الجليّ مع كل القوانين والأعراف الدولية، ورغم ذلك، تعطي الإدارة الأمريكية و”إسرائيل” نفسيهما الحق في تقرير المصير السياسي للقطاع المحاصر، والحديث عن ضرورة إنهاء حكم حماس كهدف أساسي من أهداف العملية البرية بغزة.
فالسؤال عن “اليوم التالي” لحرب غزة ما زال يحيّر تل أبيب وواشنطن، ومنذ بداية الحرب أطلق الأمريكيون على اليوم الذي يلي الحرب على غزة بأنه “السؤال الصعب”، حيث لا تملك الولايات المتحدة إجابة محددة عن السؤال.
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال: “لا يمكن أن تستمر حماس في إدارة غزة”، ومن الواضح أيضًا أن “إسرائيل” لا تستطيع احتلال غزة، والحقيقة الآن هي أنه قد تكون هناك حاجة لفترة انتقالية ما في نهاية الصراع.
كما قال: “لا يمكن العودة الى الوضع الراهن مع سيطرة حماس على غزة، ولا نستطيع أيضًا، و”إسرائيل” لا تنوي السيطرة على غزة، ليس هذا ما يريدون القيام به، وهذا ليس شيئًا يمكن دعمه”.
وأضاف بحسب ما نقلت وكالة “الأناضول”: “هناك مجموعة متنوعة من الأفكار المحتملة التي ننظر فيها عن كثب الآن، كما هو الحال في بلدان أخرى”، دون مزيد من التفاصيل، واستدرك بلينكن: “في مرحلة ما، إن الأمر الأكثر منطقية هو أن تتولى السلطة الفلسطينية الفعالة والمنشطة الحكم والمسؤولية الأمنية في غزة، بنهاية المطاف”، دون أن يوضح ما يعنيه بعبارة “الفعالة والمنشطة”.
في المقابل، تتجنّب السلطة الفلسطينية الحديث عمّا إذا كانت ستتسلم السيطرة على قطاع غزة بعد الحرب، حيث أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس لبلينكن، في لقاء جمعهما في العاصمة الأردنية عمّان، أن “قطاع غزة هو جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وسنتحمل مسؤولياتنا كاملة في إطار حل سياسي شامل على كل من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة”.
الكثير من الفلسطينيين، ومن هم تحت القصف والموت العشوائي، يعتبرون ذلك مجرد فصل من فصول الحرب نفسية التي تروّج لها “إسرائيل”، وأوهام لا منطق لتحقيقها، وأن الشعب الفلسطيني لن يسمح بذلك، كما أنه من المبكّر حسم النتائج الميدانية لصالح “إسرائيل”.
رغم ذلك، فإن شخصيات فلسطينية لها دروب طويلة في مشاريع التسوية والسلام مع الاحتلال وأطراف دولية أخرى، قدمت بشكل أو بآخر مقترحات ومبادرات لليوم التالي بعد انتهاء العدوان على قطاع غزة.
خطة فياض: إصلاحات تسمح لمنظمة التحرير بحكم القطاع
ضمن “خطة سلام غزة”، اقترح رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض خطة لإحلال السلام في غزة بشكل دائم، تتضمّن إجراء إصلاحات تمكّن منظمة التحرير الفلسطينية من قيادة القطاع وإخضاعه لحكمها.
واستبعد فياض في “خطة سلام غزة” التي أوردها في مقال له في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، أن تكون السلطة الفلسطينية بتشكيلها الحالي على استعداد لتحمل مسؤوليات حكم غزة بعد الهجوم الإسرائيلي القاتل والمدمر، وحتى لو سعت السلطة الفلسطينية إلى القيام بهذا الدور فلن تتمكن من أدائه، لا سيما أن شرعيتها المتراجعة بالفعل باتت تتلاشى بسرعة تحت وطأة ضغوط الحرب المستمرة.
وكان ينبغي إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وإعادة هيكلتهما منذ سنوات طويلة، في مهمة لم تكن أكثر إلحاحًا ممّا هي عليه اليوم، ويجب أن تكون الخطوة الأولى لإجراء ذلك هي التوسُّع الفوري وغير المشروط لمنظمة التحرير الفلسطينية، لتشمل جميع الفصائل الرئيسية والقوى السياسية، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني.
وأشار رئيس الوزراء الفلسطيني السابق في خطته، إلى أنه لا يزال هناك بعض الأمل في أن إطلاق سراح المدنيين الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس يمكن أن يوفر مساحة كافية للدبلوماسية العربية والدولية، لإيجاد إجابة سريعة عن “ما الذي سيحدث في اليوم التالي؟”، أي من سيحكم القطاع في أعقاب العملية الإسرائيلية الجارية.
وأردف بقوله إنه يمكن لهذه الخطة أن توفر طريقًا جديرًا بالثقة للمضيّ قدمًا، من خلال تشجيعها ودعمها من قبل الدول العربية، وأيًّا كانت عيوبها أو تعقيداتها، فمن المؤكد أنها ستكون أفضل من الخيارات التي تدرسها “إسرائيل” الآن، والتي ستؤدي كلها إلى المزيد من العنف وإراقة الدماء، مع تضاؤل فرص التوصل إلى سلام دائم.
هل يطرح فياض نفسه للأطراف الدولية والأمريكية؟ يجيب المختص بالشأن السياسي الفلسطيني في رام الله، فارس الصرفندي، بالقول: “إن سلام فياض لا يريد أن يقدم أوراق اعتماد للإدارة الأمريكية، لأنه أصلًا موجود ضمن المعادلة الأمريكية، تحديدًا بعدما وصل لرئاسة الحكومة عام 2007، ويعتبَر بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية أفضل من جلس على مقعد رئاسة الوزراء منذ تأسيسها عام 2003، كما أن فياض لا يطرح ليكون بديلًا أو يأتي على أنقاض الحرب، بل هو يطرح حلًّا يتعلق بالداخل الفلسطيني وبالخلاف الفلسطيني”.
وأضاف المختص السياسي لـ”نون بوست”: “لكن أيضًا توقيت طرح هذه المبادرة يثير الكثير من الأسئلة، مع التأكيد أن ما كان قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول ليس كما بعده، جميعنا يعلم جيدًا ويدرك أنه بعدما تضع الحرب أوزارها سيكون هناك تغيُّر واقعي فلسطيني في بعض الأقاليم، هناك ارتباطات بهذه الحرب لها علاقة بالحالة الأقليمية والدولية، لذلك سيكون لانتهاء الحرب ونتائجها تغيرات كبيرة جدًّا قد يكون الدكتور سلام فياض أحد إفرازاتها، كما كان عام 2007 أحد إفرازات الانقسام الفلسطيني”.
من جانبه، يرى المحلل السياسي بلال الشوبكي أن سلام فياض رجل المراحل الانتقالية، يجد في نفسه طريقًا ثالثًا أمام القوى الإقليمية والدولية، أكثر من كونه خيارًا ثالثًا للفلسطينيين، ويضيف الشوبكي، في حوار صحفي، أن المنظور الذي قدمه رئيس الوزراء السابق فياض هو المنظور الغربي لما بعد الحرب، يحاول أن يطرح نفسه أيضًا فلسطينيًّا على أنه من الأطراف القادرة على فتح قنوات مع جهات دولية، وكذلك إمكانية وصوله لدوائر أوسع من الدائرة الأمريكية، و”أن يجعل من ورقته أرضية للنقاش لدى القوى الأوروبية والأمريكية”.
رؤية دحلان: جهة تكنوقراطية وحماس حاضرة في المشهد
شارك محمد دحلان، رئيس الأمن السابق للسلطة الفلسطينية من غزة، رؤيته لمستقبل القطاع في أعقاب الحرب الأخيرة، ورغم تأكيده عدم سعيه للقيادة، اقترح دحلان فترة انتقالية مدتها عامَين مع إدارة يديرها تكنوقراط في غزة والضفة الغربية، بهدف إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية، كما يتصور إجراء انتخابات برلمانية تشارك فيها جميع الفصائل السياسية الفلسطينية، بما في ذلك حماس.
وفي مقابلة أدرجتها مجلة “إيكونوميست”، يعتقد دحلان أن الدول العربية مثل مصر والأردن وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يمكن أن تدعم هذه الدولة الفلسطينية، التي يجب أن تحصل بعد ذلك على اعتراف دولي، بما في ذلك من “إسرائيل”.
ورفض دحلان، الذي تربطه علاقات وثيقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فكرة السماح للاجئين بالدخول إلى شبه جزيرة سيناء للتخفيف من حدة الأزمة في غزة، كما اقترح أن يتحول هيكل القيادة الفلسطينية من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، على أن يقود الفلسطينيين رئيسُ وزراء.
ورغم الاضطرابات الحالية، لا يزال دحلان متفائلًا بالقضية الفلسطينية، ويرى فرصة حتى في خضمّ الحرب، فهو يحدد بحزم أوراق اعتماده للقيادة، ويعرف غزة جيدًا، ويدّعي أيضًا أنه يعرف الإسرائيليين، وأصبح مستشارًا مقرّبًا لمحمد بن زايد، حاكم أبوظبي، في السنوات الأخيرة، ويقول إنه قام بتحويل حوالي 50 مليون دولار سنويًّا من الإمارات إلى غزة، كما قام ببناء شبكة دعم في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية.
بالنسبة إلى الكثيرين، لم تبدُ الحركة الوطنية الفلسطينية في وضع أسوأ ممّا كانت عليه في الأيام التي تلت 7 أكتوبر/ تشرين الأول والعدوان الإسرائيلي، وقد تفاقمت الانقسامات طويلة الأمد بين القيادتَين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأعلن الداعمون الدوليون للسلطة الفلسطينية عن مراجعة تمويلها.
ومع ذلك دحلان متفائل بشكل كبير، وهو يرى فرصة للقضية الفلسطينية حتى في خضمّ الحرب، ويقول إن الشهر الماضي غيّر الأمور بشكل كبير بالنسبة إلى الفلسطينيين، “قبل 3 أشهر لم يكن هناك أمل، من كان يذكر القضية الفلسطينية قبل 3 أشهر؟ لا أحد… الآن الجميع يتحدث عن معاناتنا”.
وُلد دحلان في مخيم للاجئين في جنوب قطاع غزة، وتدرّج في صفوف حركة فتح التي كان يتزعّمها ياسر عرفات، وقضى معظم فترة الثمانينيات في السجون الإسرائيلية، حيث تعلم التحدث باللغة العبرية بطلاقة، وكان مستشار الأمن القومي الفلسطيني عندما فقدت السلطة الفلسطينية السيطرة على غزة لصالح حماس عام 2007.
له علاقات مع جميع أطراف الصراع، ولديه أعداء في فتح، لا سيما بين الدائرة الداخلية لمحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، وقد أدانته محكمة فلسطينية غيابيًّا بالفساد عام 2016، لكن لديه الكثير من الأصدقاء أيضًا، وقد نشأ في مخيم خان يونس للاجئين في جنوب غزة إلى جانب الكثير من القيادة الحالية لحماس، وهو على تواصل مع الحركة، كما يتحدث بحرارة عن علاقاته مع بعض الشخصيات الإسرائيلية البارزة.
بالعودة إلى المحلل الصرفندي، يعلق على رؤية دحلان بالقول: “قد يكون دحلان جزءًا من المعادلة ومن الحل، فهو موجود في قطاع غزة كتيّار وليس فقط كشخص، وهو تيار فتح الإصلاحي، وهناك تفاهمات بينه وبين حركة حماس تمّت في السنوات الثلاث الأخيرة، ومن الممكن أن تكون هناك ترتيبات انتقالية معيّنة يقودها دحلان، لكنه وفق رؤيته هو متمسّك بأنه لن يكون هناك حل من دون حماس أو باستثنائها”.
هل يمكن أن يرضى الفلسطينيون بأية صيغة تفرَض عليهم من الخارج؟
وتابع الصرفندي: “ربما سيكون هناك حلول معيّنة يقودها محمد دحلان، أو مبادرة من سلام فياض، لكن كل المقترحات من دون استثناء تشير إلى أهمية أن تكون حماس جزءًا من هذه التفاهمات، خاصة إن تمكنت حماس من الصمود وإحراز صفقة تبادل للأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم قيادات وازنة من كافة شرائح المجتمع، فسوف تحظى بشعبية كبيرة، وهنا سيكون أيضًا هناك تغيرات جديدة تحملها المعركة”.
على الجانب الآخر، يرى المحلل السياسي والمختص نهاد أبو غوش، أن الأفكار والمقترحات التي تتحدث عن مرحلة ما بعد الحرب تبقى “اجتهادات نظرية”، وربما يكون هدفها دفع الناس الى الوحدة الآن لمواجهة مخاطر الإبادة والتهجير والشطب، عملية “طوفان الأقصى” والحرب التي تلتها أثبتتا أن الشعب الفلسطيني هو الطرف الرئيسي في معادلة الصراع، ولا يمكن تجاوزه أو تجاهله في أي ترتيبات إقليمية كما حاول نتنياهو.
يفرض هذا وحدة الفلسطينيين الآن وليس غدًا لوقف حرب الإبادة والتهجير، وتأمين مصالح الناس في غزة، والعمل على مواجهة مخططات التهجير سواء في غزة أو الضفة، بعد ذلك يكون الحديث عن مستقبل الشعب الفلسطيني في غزة والضفة بما فيها القدس معًا، فلا مستقبل لغزة بمعزل عن الضفة، ولا دولة من دون غزة.
كما استبعد أبو غوش في حديثه لـ”نون بوست” تمامًا أن يقبل أي وطني فلسطيني بأن يأتي للحكم على ظهر دبابة إسرائيلية، لا السلطة تقبل ذلك ولا يمكن للشعب أن يقبل بأي صيغة كهذه، هناك عبارة قالها الرئيس محمود عباس، وهي أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وأي حديث عن غزة ما بعد الحرب يجب أن يكون في إطار ترتيبات سياسية شاملة.
ويمكن فهم هذه العبارة كذلك على أن أي مستقبل للشعب الفلسطيني في الضفة، بما فيها القدس وغزة، يكون عبر الخيار الوطني الفلسطيني، من بوابة التوافق الوطني لا من باب الاعتماد على الإسرائيلي الذي يستهدف تصفية الوجود الفلسطيني.
ويشير إلى أن الحديث عن إنهاء حكم حماس هو جزء من مخطط تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، وحسم الصراع بالقوة المسلحة ولغة الحديد والنار، وليس عن طريق أي مفاوضات أو مرجعيات دولية أو اتفاقيات، هذا المخطط يستهدف القضاء على الحقوق الوطنية الفلسطينية في الدولة وتقرير المصير وعودة اللاجئين، واستبدال هذه الحقوق الوطنية بجملة من التسهيلات المعيشية الهزيلة، التي في أحسن أحوالها يمكن تسميتها بالسلام الاقتصادي.
إسرائيليون: استحالة القضاء على حكم حماس
عن استبدال حكم حماس من وجهة نظر إسرائيلية، يوضّح المحلل السياسي أن ثمة إسرائيليين لهم مكانة اعتبارية وتاريخية مهمة أجابوا عن هذا السؤال، ومنهم إيهود باراك رئيس الوزراء الأسبق، وأحد ألمع العسكريين في تاريخ “إسرائيل”، الذي أكّد استحالة القضاء على حماس.
وقال إن حماس هي فكرة تعيش في قلوب الناس ووجدانهم، وهو ما يمكن أن ينطبق على القوى الأخرى من مكونات النسيج الوطني والاجتماعي الفلسطيني، وبالتالي إن حماس موجودة حيث يوجد الشعب الفلسطيني، والقضاء عليها يتطلب القضاء على الشعب الفلسطيني أولًا.
أما بشأن حكم حماس، فإن الحركة نفسها ليست متمسّكة به بشكل مطلق، صحيح أن ثمة صعوبات ومعيقات أمام إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، لكن هناك اتفاقًا على مبادئ عامة، تنصّ على الاحتكام للشعب وصندوق الاقتراع، وهناك أكثر من صيغة قدمتها حماس تؤكد أنها لا تتمسك بالسلطة (مع أنها تتمسّك بخيار المقاومة).
“أعتقد أنه لا يمكن القضاء على أي فصيل فلسطيني، سواء كان كبيرًا أو متوسطًا أو صغيرًا، بالقوة الإسرائيلية المسلحة، بل العكس، فالفصيل الذي يتعرض لاستهداف ومحاولات شطب ستزداد شعبيته، ويمكن أن يزداد نفوذه وتأثيره مهما خسر من القيادات والكوادر”، بحسب المختص بالشأن الفلسطيني نهاد أبو غوش.
ومنذ أكثر من شهر، يشنّ الجيش الإسرائيلي حربًا مدمرة على غزة، قتل فيها أكثر من 10 آلاف فلسطيني، منهم 4 آلاف و800 طفل و2550 سيدة، وأصاب أكثر من 24 ألفًا آخرين، كما قتل 153 فلسطينيًّا واعتقل 2150 في الضفة الغربية، بحسب مصادر فلسطينية رسمية.