على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفي حلقة وصل بين العديد من الدوائر الحضارية المختلفة، تقع غزة، المدينة ذات التاريخ الغني والمتنوع، وحارسة المداخل الشمالية لفلسطين.
تاريخيًّا، كانت غزة ساحة صراع ومطامع بين الإمبراطوريات المتنافسة، وشهدت أعنف المعارك بين القوات العثمانية والبريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، فضلًا عن كونها سوقًا هامًّا للتبادل الاقتصادي.
حروب وغزوات مرت بغزة، والثابت أن هذه الأرض لا ترحّب أبدًا بالمحتل، ولذا اكتسبت سمعة طيبة في التاريخ باعتبارها واحدة من أكثر المناطق حماسة دينية في البلاد، ومعروفة بنفسيتها العنيدة ضد المحتل بداية من الفرنسي وصولًا إلى الكيان الصهيوني.
لكن، ورغم أن غزة أرض منهكة بالحروب الكثيرة والمتتالية، لا تزال الموقع الأكثر مقاومة للاحتلال الصهيوني حتى بعد تدميرها مرة بعد أخرى، واليوم تخوض معركة مصيرية هي الأشرس في تاريخها، إذ سيتقرر بعدها بطريقة أو بأخرى مصير المنطقة برمّتها.
لقد كشفت ملحمة “طوفان الأقصى” أنها أكبر بكثير من كونها واحدة من أخطر التهديدات الوجودية التي تواجه “إسرائيل” في تاريخها، فما يثير الاهتمام هذه المرة تضافُر جهود النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على المضيّ قدمًا في السحق الشامل لغزة، بدلًا من استخدام أي شكل من أشكال الردع المعروفة.
في الحقيقة، أصبحت غزة بمثابة برميل البارود الذي قد يؤدي إلى تفجير المنطقة بأكملها، فضلًا عن كونها الآن مسرحًا مفتوحًا تحدث فيه ديمومة الاشتباكات بين كتائب القسام والولايات المتحدة و”إسرائيل”، وتتداخل فيه شبكة المصالح الأوروبية والعربية المستفيدة من القضاء على حماس.
بقعة الزيت: قطع الطريق
مع التراجُع النسبي للولايات المتحدة على مستوى العالم، وفي إطار هندسة جديدة قوامها المصلحة الأمريكية الإسرائيلية، تسعى إدارة بادين إلى تجديد موطئ القدم، من خلال تنفيذ واحدة من أكثر التحولات الجيوسياسية دراماتيكية في تاريخ المنطقة العربية، لكن هذه المرة من خلال خلق وضع جيوسياسي جديد.
لقد أعلنت الإدارة الأمريكية أن التحدي الرئيسي الذي يواجهها هو الصين، ونظرت بشكل خاص إلى مبادرة الصين “الحزام والطريق” بأنها تشكّل تحديًا للنظام العالمي الذي تقوده وتريد أن تحافظ عليه، لذا في عهدَي ترامب وبايدن اتخذت السياسة الأمريكية منعطفًا أكثر تشددًا تجاه طموحات الصين.
لكن على حد تعبير توماس كافانا، فقد أثبتت الصين تماسكًا وقوة ومرونة بعكس ما كان يعتقده الكثيرون، وباتت يومًا بعد آخر أكثر قربًا من روسيا، ولذا بذلت الإدارة الأمريكية الحالية جهودًا جبّارة مع حلفائها لتضييق الخناق على الصين، والتوصُّل إلى مقترحات بديلة وفعّالة.
في استراتيجيتها الرئيسية، تسعى إدارة بادين إلى:
- الحد من توسع النفوذ الصيني، من خلال الالتفاف حول مبادرة “الحزام والطريق” الصينية وإيجاد بديل لها.
- زيادة قدرة الهند على منافسة الصين وإبعادها عن المعسكر الصيني الروسي.
- تعزيز علاقات الشرق الأوسط السياسية والتجارية مع الهند بدلًا من الصين، لا سيما بعد التقارب الإيراني السعودي الذي يعدّ إنجازًا دبلوماسيًّا للصين، ما كان ليحدث لولا علاقات الصين السياسية والتجارية التي زادت إثر مبادرة “الحزام والطريق”.
- الاصطفاف السياسي العربي خلف “إسرائيل”، وتغلغل الأخيرة في الجسم العربي من خلال جعلها محورًا مركزيًّا لكل المشاريع الإقليمية بالمنطقة، أي أنه في هذه الحالة سيكون التطبيع مع الدول العربية والعلاقات الدبلوماسية الرسمية أمرًا لا مفرّ منه، ودون أن تقدم “إسرائيل” ثمنًا أو أي تنازلات لإقامة الدولة الفلسطينية التي كانت الدول العربية تضعها كشرط لتطبيع العلاقات.
ولأجل تحقيق هذه الأهداف الأربعة، دشّنت إدارة بايدن المشروع الضخم “الممر الهندي الأوروبي”، والذي تجاوز العديد من الدول والتفّ حولها ليضع “إسرائيل” في قلب المشروع.
يمتد الممر من الهند عبر الخليج والأردن و”إسرائيل” إلى أوروبا، ومثلما أُعلن منذ أكثر من شهر، فمن المقرر أن خطة العمل الشاملة لهذا المشروع تبدأ خلال هذه الأيام، لذا وبشكل متفائل للغاية بشأن المستقبل، اعتبر نتنياهو الذي تعامل ساعتها مع مشروع الممر بأمل ولهفة كبيرة، أنه أهم مشروع في التاريخ وسيغيّر وجه المنطقة، كما تباهى بأنه على وشك تطبيع العلاقات مع السعودية.
لكن سباقًا عكس عقارب الساعة ثبت أن النشوة كانت سابقة لأوانها، وأتت صفعة “طوفان الأقصى” لتقلب المعادلة، وتوقف الطريق المأمول لمزيد من النفوذ لأمريكا و”إسرائيل”، ودُفعت القضية الفلسطينية بقوة إلى الواجهة بعد أن ظنَّ نتنياهو أنه على وشك تصفيتها.
وبالتالي، نجاح تحالف الولايات المتحدة التكتيكي مع الهند وحصار الصين، وفرض ترتيبات اقتصادية جديدة في المنطقة لا بدَّ أن يصطدم بغزة، ليس لأنها تُفشل فقط مشاريع إدماج “إسرائيل” في المنطقة وتقوّض عملية السلام التي تبنّتها الأنظمة العربية، إنما لأنها تعدّ بداية اختبار حقيقي للاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي علّقت آمالها على “الممر الهندي الأوروبي”.
التقاء المسارات
من خلال “الممر الهندي الأوروبي”، نستطيع فهم كيف أصبحت غزة مركزية لهذه الدرجة في العالم والتكالب الشرس عليها هذه المرة من كل طرف، فعلى سبيل المثال الهند التي لا تربطها علاقة بغزة، دخلت على خط المواجهة واعتبرت نفسها الخاسر الأكبر من “طوفان الأقصى”، وشنّ إعلامها هجومًا قاسيًا على غزة، وكذلك الصين وروسيا تبحثان عن صيغة للوجود والتأثير.
في حين أن تواطؤ الدول الأوروبية في غزة متعدد الجوانب، وراؤه حسابات براغماتية استراتيجية واقتصادية بالدرجة الأولى، خصوصًا أن الاتحاد الأوروبي شريك رئيسي في مشروع “الممر الهندي الأوروبي”.
ولذا في لحظة فريدة هذه المرة، تخلت الدول الأوروبية عن النفاق المعتاد والتخفي وراء عباءة المصطلحات، لتظهر على السطح كل أنواع النفاق الصريح بلا خجل في الدفاع عن الإبادة وإنكار المذابح الإسرائيلية، وإنكار حتى الاعتراف بعدد القتلى الفلسطينيين، بجانب السردية المتكررة عن حقّ “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها ضد الأشخاص الذين احتلتهم، وبالتالي استجابة الدول الأوروبية لمثل هذه الإبادة العلنية في غزة له علاقة بالاستثمارات في الاقتصاد العالمي والاستفادة من مشروع “الممر الهندي الأوروبي”.
أما بعض الأنظمة العربية لديها عدة أسباب للاصطفاف خلف “إسرائيل”، حتى وإن أطلقت بعض التصريحات والقوافل المحدودة التي تدخل بعد موافقة الجانب الإسرائيلي، فهي لا تشعر بالارتياح من هيمنة حماس على المشهد، لأن النتائج والتداعيات سوف تكون عكسية لمصالحها، التي لا يناسبها سوى استمرار مشروع الاستسلام والتنازلات للولايات المتحدة و”إسرائيل”، خصوصًا مع ضخّها المليارات في مشروع الممر الجديد، والمكاسب التي ستعود عليها، وبالتالي تدرك جيدًا التداعيات المستقبلية عليها من وجود حماس.
وهذا العداء المشترك لحماس سعى بلينكن لاستثماره بمهارة، ولذا يمكن الجزم بأن القوى العربية ستتماشى مع السياسة الأمريكية، وهذا واضح في خطاب نتنياهو عن وقوف الأصدقاء العرب بصفّه والتزامهم بالتعليمات الإسرائيلية، لكن يبدو أن نقطة الاختلاف هي حول مصير غزة ما بعد حماس.
وأمام هذه الخريطة المتشابكة من المخاطر والمصالح، لا يبدو أن كتائب القسام ستتنازل عن ثوابتها مهما كان ميزان القوة في غير صالح الشعب الفلسطيني، لأن هذه الثوابت هي التي تدعم وجودهم على الأرض.
السحق الشامل: الموت أو التهجير
لقد أثبتت غزة أنها رأس الأفعى المهيمن على عقل الإدارة الأمريكية التي نظرت إليها كمسألة حياة أو موت، لذا هذه المرة تحديدًا دخلت بكامل ثقلها، مهما كلفها ذلك من دبلوماسية وخسائر اقتصادية وبشرية وتآكُل أسرع لشرعية “إسرائيل” وإرث هائل من المظالم، فهي وصلت إلى مرحلة أنها لا تُلقي بالًا لكل ذلك، وتبحث فقط عن النتيجة النهائية.
إن “إسرائيل” غير قادرة وحدها على الحفاظ على الوقت الذي تحتاجه لمواصلة القتال، خاصة مع استمرار الخسائر في الاقتصاد الإسرائيلي، ولذا إن شئنا الدقة فإدارة بايدن هي من تدير الآن الحرب على غزة، من خلال خبرائها وجنودها وأسطول غواصاتها وسفنها الحربية التي مرّت عبر قناة السويس، والأسلحة الأمريكية التي مرّت عبر الأردن.
وفي مشهد لافت، أعلن الجيش الأمريكي وصول غواصة نووية من طراز أوهايو إلى الشرق الأوسط، وما زالت الإدارة الأمريكية تخطط لنقل المزيد من الأسلحة، وكل ذلك ليس بغرض الاستعراض بقدر ما هو إثبات الجدّية في اجتثاث حماس مرة واحدة وإلى الأبد، وضمان ألّا تعود الأوضاع إلى السباق.
من هذا المنطلق، استبعدت الولايات المتحدة أي فكرة عن هدنة لوقف إراقة الدماء في غزة، والواقع إنها لا تريد السماح بأي مساحة للتنفُّس، وتسعى لتشديد الحصار حتى يستنفَد المخزون الموجود من الاحتياجات المعيشية، رغم أن هذا الحصار هو شكل من أشكال العقاب الجماعي الذي يرفضه القانون الدولي.
كذلك توقّع وزير الدفاع الإسرائيلي أن الحرب على غزة ستطول، لدرجة أنه ذكر أن الحرب قد تستمر لسنة، وتوضّح هذه التصريحات أن هذه الحرب لن تكون قصيرة، وأن الإدارة الأمريكية تستعد بما تمتلكه من إمكانات مادية وأدوات خاصة، لخوض معركة طويلة غير متكافئة لكن محسوبة.
والواقع أن هذا الصراع لا ترى فيه الولايات المتحدة و”إسرائيل” حلًّا سوى المزيد من القتل أو التهجير، ولذا تركّز هذه المستويات المتطرفة من أشكال العقاب الجماعي التي لجأوا إليها، على غرس خوف هائل في نفوس السكان، على أمل أن يؤدي الضغط المتزايد من الإرهاب إلى إرغام أهل غزة على الرحيل، والنهج نفسه (القصف حتى الإبادة) نفّذته أمريكا في الموصل.
ولذا اعتبر الضابط السابق بمشاة البحرية الأمريكية، سكوت ريتر، أن مطالبة أهل غزة ترك منازلهم هو جريمة حرب، وقد استخدمت القوات الصهيونية كل الوسائل لذلك، بما فيها إرسال رسائل نصية إلى الآلاف من أصحاب الهواتف لتحذيرهم من الهجمات الوشيكة، أو إسقاط مناشير بالطائرات طالبة من سكان الحي مغادرة منازلهم لأنها ستقصف المكان، وقد نزح بالفعل مئات الآلاف، والكثير منهم ليس لديهم منزل يعودون إليه، بينما تقوم “إسرائيل” بتسوية جزء كبير من شمال ووسط غزة بالأرض.
ومع هذا النزوح الجماعي، هناك الكثيرون يموتون قبل التحرك، وما زالت “إسرائيل” مستمرة بشكل رئيسي في استراتيجية “قصف – حصار – تجويع – تهجير”، وهي حقيقة السياسة نفسها التي سار عليها النظام السوري وأثبتت نجاحها، واليوم تسير عليها الإدارة الأمريكية و”إسرائيل”.
لا تزال غزة تنزف الدماء وسط تخلي القريب وغياب الحلول الدولية، إن وحشية الإدارة الأمريكية و”إسرائيل” تمتد أيضًا إلى أنظمة عربية متورّطة وبعضها يسعى للاستفادة من الصراع، فضلًا عن متاجرتها بالقضية، فبعد أكثر من شهر على اتساع دائرة الموت قتلًا وقصفًا، وفصول من الألم والتشرد يعيش فيها سكان غزة كل أصناف الموت والحصار والجوع، فقط إدانات عربية شكلية مقابل آلة لا تشبع من القتل.
تبدو غزة اليوم كمدينة تقطعت بها السبل، محصورة في بيئة استراتيجية معادية، تقاوم وحدها المخططات الأمريكية الإسرائيلية، لكنها بأهلها الصامدين ستدافع عن الحقيقة والتاريخ.