تدخل الحرب على غزة يومها الـ34 وسط قصف مستمر لا يتوقف من قوات الاحتلال، التي ترتكبت مئات المجازر بين الساعة والأخرى، وخلّفت ما يقرب من 11 ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، فيما كبدتها المقاومة خسائر فادحة، حيث دمرت العشرات من آلياتها العسكرية وقتلت المزيد من جنودها وضباطها.
وبات قطاع غزة على مشارف كارثة إنسانية محققة، إن لم يكن غارقًا فيها حاليًّا، حيث لا طعام ولا شراب ولا وقود ولا مأوى، فضلًا عن تدمير شبه كامل للبنية الصحية بما يهدد حياة عشرات الآلاف من الجرحى والمشردين، وسط صمت وخذلان عربي ودولي فاضح.
وتتجه أنظار الجميع داخل غزة وخارجها إلى القوى ذات الثقل الإقليمي والدولي، وفي المقدمة منها دول الخليج، التي تتمتع بنفوذ نفطي اقتصادي قوي وعلاقات جيدة بالمعسكر الغربي الداعم للكيان المحتل في تلك الحرب التي يشنها على غزة.
وبينما تضع عواصم النفط العربية مئات الاعتبارات والحسابات السياسية والاقتصادية والأمنية أمام أي تحرك عملي لإنقاذ غزة والقضية الفلسطينية برمتها، ما أسقطها من حسابات الشارع الغزاوي، فإن التعويل الأهم هنا كان على الشارع الخليجي، أن ينتفض دعمًا للأشقاء في فلسطين ويمارس ضغوطه القوية على الحكومات والأنظمة للتحرك من أجل القيام بمسؤوليتها إزاء القضية التي يتم تصفيتها على مرأى ومسمع من الجميع دون أن يحرك أحد ساكنًا.
حراك خجول
كان المشهد الخليجي هو الأضعف على الإطلاق في تعاطيه مع الحرب منذ انطلاقها، صمت مريب وتجاهل مثير للجدل، وغياب شبه تام عما يدور، بل وصل الأمر إلى شبه افتقاد للإنسانية حين أصرت بعض العواصم على إقامة مواسم الرقص والغناء بينما أشلاء الأطفال والنساء في غزة تتطاير يمينًا ويسارًا، وأصوات المكلومين والخدج تزلزل الأرض وترج السماء.
الحديث هنا ليس على المستوى الرسمي، المتخاذل بطبيعة الحال والمستند إلى مبررات واهية، لكن الرسالة موجهة للمواطن الخليجي، الذي لم تحرك مشاعره كل تلك المقاطع المصورة المنقولة من قطاع غزة، والكفيلة بأن تُدخل أسوياء العالم، ممن يملكون قلوبًا نقيةً، في نوبة اضطرابات نفسية وبكاء هستيري لسنوات وسنوات.
ورغم زلزال التظاهرات والاحتجاجات الذي ضرب معظم دول العالم، حتى تلك التي تدعم حكوماتها الكيان المحتل، كبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، فإن تأثيره لم يصل بعد إلى الجيران الخليجيين، حيث غابت الوقفات والاحتجاجات عن الساحة الخليجية إلا فيما ندر.
وقفة أمام السفارة الأميركية في قطر للتنديد بمجـ ـزرة مستشفى المعمداني بغزة pic.twitter.com/4eunbbNUla
— شبكة رصد (@RassdNewsN) October 17, 2023
وفي الوقت الذي خرج فيه الملايين من المحتجين الغاضبين في جميع بلدان العالم، شارك المئات من القطريين في وقفة احتجاجية أمام مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب في الدوحة دعمًا لغزة، وأخرى أكبر نسبيًا في العاصمة العمانية مسقط، وثالثة بمنطقة الدراز بالعاصمة البحرينية المنامة، حيث رددوا هتافات داعمة لغزة وللشعب الفلسطيني.
فيما خلت شوارع السعودية والإمارات من أي فعاليات من هذا النوع، فكان الكثير من السعوديين مشغولين بموسم الرياض ووصلات الرقص والغناء الصاخبة، فيما اكتفى بعض الإماراتيين ولجان الذباب الإلكتروني بالجلوس على منصات التواصل الاجتماعي للرد على الهجوم والانتقادات التي تعرضت لها بلادهم وحكومتها، مرددين السردية الإسرائيلية الكاذبة، ومشككين في المقاومة وما تقوم به من انتصارات، ومحملين إياها مسؤولية ما حدث.
مبررات واهية للخذلان
تعزف جيوش اللجان الإلكترونية الجرارة – التي تديرها في الغالب جهات استخباراتية خليجية – على منصات التواصل الاجتماعي، لتبرير هذا الخذلان والانبطاح إزاء نصرة غزة، على وترين أساسيين:
الأول: الحيلولة دون توسيع دائرة الصراع ومنع العنف في منطقة الشرق الأوسط، وعليه فإن الدبلوماسية هي الخيار الأول والأخير للخروج بالأزمة إلى بر الأمان وإحلال السلام، وأنه لو صعّدت تلك البلدان من مواقفها فإن الأمر سيزداد تعقيدًا وربما يخرج عن السيطرة.
الثاني: انتماء المقاومة الفلسطينية لإيران الداعمة لها، واتهام حماس والجهاد بأنهما ينفذان أجندة طهران في المنطقة، وليس من أهدافها فلسطين ولا القضية، وأن الهدف الأبرز من وراء “طوفان الأقصى” حصول قادة المقاومة على مكاسب مالية وسياسية، وبالتالي فإنهما لا يمثلان الشعب الفلسطيني ولا يتحركان إلا بأوامر إيرانية، وعليه فإن عدم دعمهما ليس خيانة للفلسطينيين.
وحول هذين الوترين عزف الكثير من مواطني الخليج والذباب الإلكتروني عشرات الألحان التي أطربت البعض ونفت عنهم إحساس تأنيب الضمير أمام الجرائم التي ترتكب بحق آلاف الأطفال، الذين يُمزقون بسبب القصف الوحشي الإسرائيلي، كما برّأت ساحة الأنظمة أمام شعوبها بأنها لم تخذل الفلسطينيين إنما أوقفت الدعم للمقاومة المدعومة من إيران، العدو التقليدي للخليجيين، رغم العلاقات الدبلوماسية المتطورة بين الطرفين خلال الآونة الأخيرة.
https://twitter.com/AlMayadeenNews/status/1722314411191255382
الشارع الخليجي.. متى يتحرك؟
لم تكن تلك المبررات التي ساقتها الأنظمة الخليجية ولجانها الإلكترونية بالمقنعة، كما أنها لا يمكن أن تكون مبررًا لخذلان الشارع الخليجي وتقاعسه عن نصرة غزة وأهلها، الذي بات فرض عين على كل مسلم وعربي، بعدما أعلنها المحتل وأعوانه أنها حرب عقائدية في المقام الأول.
وإن كان للحكام والأنظمة حساباتهم الخاصة، فللشعب الخليجي هو الآخر حساباته الخاصة، حسابات العروبة والقومية والإسلام والهوية، حسابات التاريخ والإنسانية، حسابات الإخاء والدم الواحد، وكلها تفرض على الجميع مسؤولية عليه القيام بها.
والهبة لنصرة القضية الفلسطينية ليست بالأمر الجديد على الشعوب الخليجية التي قدمت في وقت من الأوقات لوحات فنية مبهرة من النضال والدعم، حين انتفضت عن بكرة أبيها دعمًا للفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية عام 2000 ومارست دورًا محوريًا في دعم الأشقاء في الأرض المحتلة.
في تلك الأثناء كانت شوارع الرياض والدوحة وأبو ظبي والمنامة ومسقط تتزلزل بالتظاهرات والوقفات التي تطالب باتخاذ موقف حازم ضد المحتل، وفتح كل نوافذ الدعم للفلسطينيين، ودُشنت عشرات اللجان لجمع التبرعات وتقديمها للشعب الفلسطيني.
https://twitter.com/hureyaksa/status/1720127379002073368
وليس اليوم من الأمس ببعيد، وإن كان ما فعله المواطن الخليجي قبل 23 عامًا أمرًا مستحبًا، فإن واجبه اليوم فرض عين في ظل الحملة الغربية الشرسة التي يشنها معسكر الغرب لإبادة القضية الفلسطينية واقتلاعها من جذورها.
لا شك أن القبضة الأمنية محكمة، والضغوط السلطوية على أشدها، والتنكيل هو مصير كل من يغرد خارج السرب، والكثير يحبس القضية في صدره دون أن يجرؤ على الإعلان عن دعمها علانية، لكن كل هذا ليس مبررًا للصمت ولا الوقوف على حافة المنطقة الرمادية، والجلوس على مقاعد المتفرجين في انتظار المشهد الأخير من تراجيديا إبادة غزة وأكثر من مليوني شخص بها.
يمكن للشارع الخليجي بما يمتلكه من حضور ونفوذ قوي أن يمارس ضغوطه على الأنظمة والحكومات، خاصة أن لدول الخليج ثقلًا إقليميًا ودوليًا، وما تمتلكه من أوراق ضغط نفطية وشبكة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وبالتالي من الممكن إذا ما تحركت أن تحدث الفارق، الأمر فقط يتوقف على الإرادة.
وبعيدًا عن خطابات شيطنة المقاومة التي تبث ليلًا نهارًا على منصات التواصل الاجتماعي، فإن المسؤولية ملقاة هنا على كاهل كل مواطن عربي ومسلم، فالقضية لم تعد حماس ولا المقاومة، لم تعد إيران ولا السعودية، القضية باتت إما بقاء فلسطين على خريطة العالم وإما إزاحتها بشكل كامل، إما الحفاظ على كرامة وعزة العرب وإما لا للأبد، إما الإبقاء على معادلة توازن القوى بين العرب ودولة الاحتلال وإما التفوق المطلق للكيان الذي ما غاب عنه يومًا حلم دولته الممتدة من النهر إلى البحر.