ليون بينسكر، يهودي بولندي روسي، يطرح نظرية “تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين أو مكان آخر”، في كتابه “الانعتاق الذاتي” الصادر عام 1882، ويؤسس حركة “محبي صهيون”، أي محبي الوطن القومي لليهود، عام 1884، لتكون النواة الأولى الداعمة للهجرات اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين.
وعلى خطى بينسكر، يتولى “ثيودر هرتزل”، يهودي نمساوي مجري، لواء القيادة الفكرية والعملية، منطلقًا نحو إصدار كتابه “الدولة اليهودية” عام 1896، والذي يرفض فيه فكرة الاندماج مع المجتمعات الغربية، ويدعو إلى إقامة دولةٍ قوميةٍ في فلسطين تحتضن اليهود المتعرضين للقهر والأذى في الدول الأوروبية “المعادية للسامية”.
دشن هذا الكتاب حجر الأساس لبروز الحركة الصهيونية السياسية المنتظمة التي حملت اسم “الحركة الصهيونية” التي تحولت إلى المنظمة الصهيونية العالمية خلال المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة “بازل” السويسرية بين 29 و31 من أغسطس 1897.
ربما لم يمنحه عمره الفرصة لإكمال مشواره في تأسيس الدولة اليهودية، ولكن مشروعه الخطير لم يتحول إلى هشيم تذره الرياح، بل هيأ لليهود المتناثرين من أمرهم رشدًا يسيرون عليه في تحويل فلسطين، وطن الشعب الفلسطيني منذ فجر التاريخ، إلى وطنٍ للشعب اليهودي الذي لا وطن له.
ولم يكد يخبو ظل هرتزل، حتى بزغ شعاع “حاييم وايزمان” الذي شارك عام 1903 في تأسيس “الكتلة الديمقراطية” التي دعت إلى “الصهيونية العملية”، وساهم في المناقشات التي أدت إلى صدور “وعد بلفور” البريطاني عام 1917.
منذ عام 1884، كانت القيادة الفلسطينية تعيش حالةً من التشظي الذي آل بفلسطين وشعبها إلى التيه الذي لم يستطع الشعب الفلسطيني التخلص من آثاره السلبية حتى يومنا هذا
وفي خضم هذه المخاطر الماحقة المتسارعة التي باتت ملحوظة بالنسبة للقيادة الفلسطينية منذ عام 1884، كانت القيادة الفلسطينية تعيش حالةً من التشظي الذي آل بفلسطين وشعبها إلى التيه الذي لم يستطع الشعب الفلسطيني التخلص من آثاره السلبية حتى يومنا هذا.
تحت وطأة استمرار أوجه النظام السياسي الاجتماعي التي كانت سائدة إبان سيطرة الدولة العثمانية، مهيمنةً على الإطار السياسي والاجتماعي للمجتمع الفلسطيني، بقيت زمام الأمور في أيدي الأعيان والأشراف الذين يتألفون من أصحاب الأراضي والإقطاعيين ورؤساء البلديات وذوي المقام الديني المرموق، وكما هو الحال في الدول المجاورة لفلسطين، اتجه الأعيان والأشراف الذين كانوا يمثلون الشعب الفلسطيني سياسيًا أمام الانتداب البريطاني، صوب إظهار معارضة معتدلة على الأمور التي لا تتوافق مع طموح الشعب الفلسطيني، ولأن الانتداب البريطاني كان بحاجةٍ إلى جسرٍ يصل بينه وبين أفلاك الشعب الفلسطيني المتشعبة، أبقى على هيمنة الأعيان على المجتمع.
في ظل تنامي البؤر الاستيطانية لليهود في فلسطين، ارتأى الأعيان ضرورةَ تأسيس كيانٍ سياسيٍ عربيٍ يقارع نفوذ اللوبي الصهيوني المتنفذ في أروقة مؤسسات صناعة القرار في بريطانيا، فعقدوا عام 1919، المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس، وفي المؤتمر الثالث المنقعد عام 1920، تقرر تأسيس “اللجنة التنفيذية العربية” بقيادة رئيس بلدية القدس الأسبق “موسى كاظم الحسيني”، إلا أن الانشقاق الإداري الداخلي بين الأعيان المؤسسين للجنة، إلى جانب عدم الاعتراف البريطاني بشرعية هذه اللجنة، أديا في نهاية المطاف إلى فنائها بعد موت رئيسها “الحسيني” عام 1934.
لا جرم أن الانتداب البريطاني لعب، بشكلٍ أو بآخر، دورًا أساسيًا في إفشال اللجنة التنفيذية العربية في تحقيق أهدافها، لكن لا شك أن الانقسام الفلسطيني الداخلي هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الانتداب البريطاني للقيام بذلك، وقد ظهر الانقسام الفلسطيني الداخلي من خلال التنافس بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي، وتعود جذور التنافس بين العائلتين إلى القرن التاسع عشر، إلا أنه أصبح أكثر خشونةً وبروزًا بعد قدوم الانتداب البريطاني.
ربما لم يوقن النشاشيبي أو الحسيني حينها أنهما أخطر على قضية الفلسطينية من تحيز الانتداب البريطاني لصالح اليهود، إلا أن التاريخ كشف أنهم كذلك بالفعل
هذا التنافس البارز بين الطرفين، منح بريطانيا فرصة تطبيق سياسة “فرق تسُد”، حيث ظهرت هذه السياسة من خلال تعيينها “راغب النشاشيبي” كرئيسٍ لبلدية القدس عام 1920، ومنحها منصب “مفتي القدس” المرموق وذي النفوذ السياسي الاجتماعي الملموس إلى “الحاج أمين الحسيني” عام 1921، وبدت ملامح الانقسام المؤلم بالظهور للسطح عبر تصريح راغب النشاشيبي بأنه ومؤيديه سيعترضون على كل قرار يصدره الحاج أمين الحسيني.
ربما لم يوقن النشاشيبي أو الحسيني حينها أنهما أخطر على قضية الفلسطينية من تحيز الانتداب البريطاني لصالح اليهود، إلا أن التاريخ كشف أنهم كذلك فعلًا.
بعد توليه أكثر المناصب هيبةً ونفوذًا في فلسطين، اتجه الحاج أمين الحسيني نحو تطويع هذا المنصب لصالح تأسيس شبكة سياسية ترعى حقوق الفلسطينيين ومطالبهم سياسية تحت قيادته، وقد زادت صلاحياته، غداة تأسيس المندوب السامي في فلسطين “هربرت صموئيل” عام 1922 “المجلس الإسلامي الأعلى”، الذي تبوأ منصب رئاسته الحسيني، بعد اختياره من قبل الهيئة العليا له.
تشهد عدة مصادر تاريخية متطابقة أن الحسيني استغل منصبَيه كمفتي للقدس ورئيسٍ للمجلس الإسلامي الأعلى، في تعزيز سيطرته وعائلته على المؤسسات الدينية، وبالتالي المجتمع والمسار السياسي له، عبر تعيين الموالين، والحيلولة دون حصول عائلة النشاشيبي والموالين لها على مناصب.
بيد أن التنافس السياسي بين العائلتين استمر في تخييم ظلاله السلبية على القضية الفلسطينية ومصالح الشعب الفلسطيني ضد الخطر الصهيوني المداهم لأرضه وسيادته، كان المجتمع اليهودي يستفحل يومًا بعد يوم في تنظيم وجوده السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري في فلسطين، وقد تجلى العمل التنظيمي الأول للمجتمع اليهودي في فلسطين عبر تأسيس “المجلس القومي” عام 1920، والذي يقابل مؤسسة “الكنيست” في وقتنا الحالي.
ومن ثم من خلال تحويل “مكتب فلسطين” الذي تم تأسيسه عام 1908، إلى “التنفيذية الصهيونية لفلسطين” عام 1921، والتي أصبحت تُعرف باسم “الوكالة اليهودية” عام 1929، وتنوعت مهامها لتي كانت تعمل بالتنسيق مع الانتداب البريطاني، ما بين تنظيم عمليات الهجرة وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والمصرفية لليهود المستوطنين في فلسطين.
وعلى صعيد تنظيم الحياة الاقتصادية، تم تأسيس الاتحاد العام للعمال اليهود “هستدروت” عام 1920، والذي عمل على تنفيذ المشاريع الاقتصادية للمستوطنين اليهود في مجال الخدمات والصناعة، وبات هناك “كيبوتسات”، مستوطنة زراعية وعسكرية يقطنها اليهود فقط.
وبموازاة بناء الحياة الاقتصادية، تم تأسيس الجيش الإسرائيلي “الهاغاناه” عام 1920، والذي يُطلق عليه في يومنا الحالي اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”.
حين كان يبذل اليهود جهودًا حثيثةً للبقاء على كلمةٍ سواء تهيئ لهم سبيل الوصول إلى تأسيس وطنٍ قوميٍ في فلسطين، كان الفلسطنيون، للأسف، منغمسين في خلافاتهم الداخلية
في حين كان يبذل اليهود جهودًا حثيثةً للبقاء على كلمةٍ سواء تهيئ لهم سبيل الوصول إلى تأسيس وطنٍ قوميٍ في فلسطين، كان الفلسطنيون، للأسف، منغمسين في خلافاتهم الداخلية، ولعل تشبيهنا الحسيني بحركة فتح، بإطارها الحالي المسالم شديد الاعتدال، هو الأقرب للواقع.
فمنذ تسلُم الحسيني لهذه المناصب، وهو يدعو مناصريه والشعب الفلسطيني إلى الاعتدال، واتباع طريق الحل السلمي لإنهاء الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، وقد بان إقصاء الحسيني للآخرين بعد اتخاذه إجراءات متنوعة لإغلاق “حزب الاستقلال” الذي أسسه الأعيان المعارضون لسياسته المعتدلة، والممتعضون من “المكتوب الأبيض” الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1930 لإخماد لهيب “ثورة البراق” التي حدثت عام 1929، والذي أطلق عليه الفلسطينيون اسم “المكتوب الأسود” لعدم انصاف مطالبهم التي دعت لوقف الهجرة اليهودية بحزم، وإنصاف الفلسطينيين في معدلات الضرائب المفروضة، والفرص الاقتصادية المناسبة.
وفيما أعلنت لجان المقاومة العربية المحلية التي طفت على السطح عام 1936، الإضراب العام، واستمرار المقاومة حتى إيقاف الهجرة اليهودية وتأسيس حكومة ديمقراطية، اكتفى الحاج أمين بتأسيس “اللجنة العربية العليا”.
لقد ضمت اللجنة العربية عائلتي الحسيني والنشاشيبي، والمسلمين والمسيحيين، وأعضاء حزب الاستقلال، ولكن بعد تلك السنوات الطويلة من الفرقة والخلاف كانت الفأس قد وقعت في الرأس، فالشعب الفلسطيني لم يأبه لمحاولات اللجنة تنظيم الإضراب العام، ولم يقبل بها كممثلٍ له، وبدلًا من مواصلة اللجنة مساندتها للإضراب، دعت إلى إيقافه.
في النهاية، نشرت الحكومة البريطانية عام 1937، تقرير “لجنة بيل” القاضي بتقسيم فلسطين إلى قسمين يتم عليهما إنشاء وطنًا لليهود، وآخر للعرب، ورد الفلسطينيون عليه بتشديد عمليات المقاومة التي طالت بعض الضباط الإنجليز، ردة فعل السلطات البريطانية ضد العصيان كانت قوية، ووصلت حدتها إلى مستوى تفكيك اللجنة العربية واعتقال بعض قادتها، وانتهى الأمر بفرار الحج أمين إلى دمشق.
نحن أمام مسلسلٍ تاريخيٍ يتكرر بحذافيره في يومنا الحالي، فالحسيني هو فتح، والنشاشيبي هو حماس
إذًا، نحن أمام مسلسلٍ تاريخيٍ يتكرر بحذافيره في يومنا الحالي، فالحسيني هو فتح، والنشاشيبي هو حماس، وإن كان هناك اختلافًا في تفاصيل برامج الحسيني وفتح، إلا أن الطرفين يلتقيان في نقطة المهادنة والقوة الناعمة لحل القضية الفلسطينية، والنشاشيبي وحماس يلتقيان في نقطة تفضيل الحلول الواقعية، ولكن يعارضون المشروع المنتهج من قبل السلطة الحاكم بشكل تعصبي يؤدي إلى التشظي، وبالتالي يؤثر سلبًا في المسار العام للقضية الفلسطينية.
في الختام، عرضت سردًا تاريخيًا طويلًا، ولكن عِبر هذا المسلسل وافرة، وتدلنا على أسباب ونتائج انقسام البيت الفلسطيني التاريخي الحالي، بإيجاز، من دون استقلالية القرار الفلسطيني الذي يمكن تحقيقها عبر تنويع مصادر التمويل، وتحقيق انتصارات سياسية وميدانية، ومن دون وجود لإرادةٍ سياسيةٍ تعتمد على برنامج مؤسسي موحد بغض النظر عن البرامج السياسية المتباينة لشرائح الشعب، ستبقى القضية الفلسطينية تائهة وضائعة في خضم الجهود الحثيثة التي يبذلها “المجتمع اليهودي” للاستئثار بأرض فلسطين كلها.