نسأل دون الحاجة إلى لينين آخر لقد اتضحت الرؤية بعض الشيء ولكن الطريق ليست سالكة بعد، لقد بذل الرئيس جهدًا كبيرًا ليكون طيبًا معنا في لحظاته الأخيرة لكنه لم يقنع أحدًا، أول وضوح الطريق فقدان الثقة في شخصه، ثم البناء على ذلك بديلاً، لكن بناة البديل يعرفون فقط أن يفقدوا الثقة في كل شيء ثم يتباكون على أطلال لينين “ما العمل؟”، هذه ليست مقدمة رواية، هذه حال تونس بعد خطاب الرئيس في 10 من مايو 2017.
خيبة عامة في كل النخبة، لقد حشروا الناس في زاوية ضيقة، وكشفوا وجوههم إنهم حكومة الشركات، ومعارضة تنتظر قسطها من الشركات، ومدونون ينتظرون معجزة ويقرأون لينين الكافر بالمعجزات، أنا أحد الذين يزعمون معرفة الطريق ولكني ممن ينتظرون معجزة، وهذا نقد ذاتي قد ينتهي بالانسحاب من الحياة العامة للحفاظ على بقية من ماء الوجه، وهذا أفضل من إلقاء الملامة على الشعب الغبي ناكر الجميل.
الرئيس يحب الديمقراطية حبا جمًّا
قال بأنه ملتزم بالحفاظ على المسار الديمقراطي، بل رجع إلى تمجيد الثورة المباركة صانعة المعجزات قاصفة رؤوس الدكتاتورية والاستبداد، إنه يمنّ ذلك علينا، كأنه قادر فعلاً على قصف المسار وإعادة القهر، لقد فاته أن ذلك صار وراء التونسيين وإلا ما كان هو أصلاً قد وصل إلى القصر، تفضّل على أهل الفضل من غير أهله، لو قدر على نقض المسار ما احتاج الخطاب، لكنه كشف عن عقل مريض يعامل الشعب كأطفال غير رشداء، من أجل أن يبيعهم سلعة مضروبة (قانون المصالحة وعسكرة الشارع) يمجد ذكاءهم في الاختيار.
النكتة في هذا السياق السخيف أنه لا توجد لدينا ثروات نفطية، لكن نحرك الجيش لحماية المنابع
الشعب أقرب إلى الديمقراطية من رئيسه والبارحة قدم الرئيس الدليل على تخلفه بمسافة زمنية، فالشعب الذي يتظاهر سلميًا مطالبًا بالتنمية دون كسر كأس واحدة، بنى ديمقراطيته بعد ويعرف طريقه، لا حاجة إلى لينين ولا إلى الرئيس، ولا إلى نخبة أمست وباتت وأصبحت وأضحت تمجد رئيسًا ضحك على أذقان الجميع ليخدم شخصه وأسرته ويموه احتقاره لشعبه في فذلكة رديئة بدأها بالخطأ في قراءة القرآن ورب خطأ يكشف نية “إن الحق كان زهوقا” هكذا قال وقد خانته الذاكرة ولم تخنه النية.
ما ثمن اعترافه لنا بحق افتككناه بالدم والدموع إنزال الجيش الوطني الشريف إلى مهام ميليشيا بلاك واتر، والنكتة في هذا السياق السخيف أنه لا توجد لدينا ثروات نفطية لكن نحرك الجيش لحماية المنابع.
لكنه منهزم رغم ذلك
خطاب الرئيس كان خطاب مُدبر لا مقبل، خطاب نظام منهزم يولي الأدبار أمام شارع صامد بذكاء، لا داعي أن تحارب السلطة يكفي ألا تواليها لتسقط، لقد طبق الشارع التونسي مقولة جذرية “لا للحرب ولا للطاعة العمياء” وها نرى النظام يسقط بالتدريج.
الجميع يعرف أن غاية الخطاب كانت فرض قانون المصالحة مع الفاسدين الذين مولوا الرئيس في حملته الانتخابية الرئاسية مقابل وعد بتبييضهم، لكنه يعجز ويناور ولا يجد سندًا من شريكه الذي ظن أنه قد وضعه في جيب معطفه ليصادق على كل شيء، فتبين أنه يحسن المناورة في المربعات الضيقة، ويخرج بمكاسب تجعل الرئيس يستجدي شيخ الحزب في الاجتماع ويوشك أن ينزل مقبلاً يديه أن ساعدني على البقاء.
خطاب الوطنية الذي غلف خطاب الرئيس لا يصدقه التونسيون، وخاصة إذا انطلق إعلاميون معروفون بمعاداتهم للثورة في تمجيد الخطاب وتفكيك عبقريته إلى فقرات رومنسية
حزب النهضة يناور فيقلص خساراته الشخصية ويخرج من منطقة الحزب المهدد بالمحو من الخريطة (لقد صار الخوف وراءه الآن على الأقل لهذه المعطيات الميدانية الداخلية ما لم تنزل صاعقة خارجية مجهولة المصدر) ويربح على صعيد تفكيك خصمه اللدود حزب النداء، فدون المال الفاسد لن يجد النداء مموّلاً لبقية الاستحقاقات الانتخابية وخاصة البلدية القريبة (آخر 2017).
التونسيون يعرفون (والنهضويون جزء منهم) أن حزب النداء ليس إلا التقاء انتهازيين يبحثون عن مصالحهم الفردية، لا فكر ولا مشروع ولا أيديولوجيا تقوده وتنظم عمله بما في ذلك فكرة محاربة الفكر الديني الرجعي الإرهابي القروسطي الظلامي إلخ من مفردات المعزوفة اليسارية الفرانكفونية التي لم تكن يومًا أيديولوجيا التجمعيين غير اليساريين ودون خدمة التبييض المطلوبة من الرئيس وابنه (القيادة المتبقية في حزب النداء) سيفشل الانتهازيون في تمويل حزبهم فهم أبخل بالمال عن كل مكرمة.
خطاب الوطنية الذي غلف خطاب الرئيس لا يصدقه التونسيون، وخاصة إذا انطلق إعلاميون معروفون بمعاداتهم للثورة في تمجيد الخطاب وتفكيك عبقريته إلى فقرات رومنسية، هناك إعلاميون استنجد الرئيس بخدماتهم متوسلاً لو قالوا للتونسيين إن البحر مالح لذهب التونسيون وشربوا منه، إنهم سبب في أزمة الثقة وسبب في القطيعة المستفحلة بين مؤسسة الرئاسة والشارع، يسمونهم في تونس جوقة ابن علي وهي نفسها جوقة الباجي العائدة بمقابل من الغنائم الذي لم يبق منها الكثير للتوزيع.
عودة حمة بطل الكرتون السياسي
في خضم ردات الفعل على الخطاب برز فجأة حمة الهمامي القائد الأزلي لحزب العمال (الشيوعي سابقًا) وهو حزب قانوني يملك جريدة (البديل) وله أصدقاء في كل وسائل الإعلام العمومية والخاصة، لكنه فضل الظهور بمظهر مناضل الشارع الذي يوزع بيانات خارج القانون لاستثارة الأمن وخلق وضع ضحية مفيد سياسيًا وعاطفيًا خاصة بالصعيد ضد الرئيس الذي أعلن الحرب على التونسيين.
فكرة أثارت سخرية السوشيال ميديا المحلية، فحمة الهمامي وضع في رصيد الباجي أكثر من ربع مليون صوت في انتخابات 2014 معلنًا قطع الطريق على منافسه (كان فارق الأصوات بين المرزوقي والباجي أقل من ربع مليون صوت، هم من وضع حمة أصواتهم في صندوق الباجي)، خرج إذًا معلنًا الحرب على الرئيس في الشارع ومدافعًا عن الثروات ورافضًا لعسكرة الجنوب موظفًا في ذلك رابطة حقوق الإنسان التي سيطر على مكتبها في المؤتمر الأخير وظهرت الآن كذراع حزبية بخطاب سياسي مخالف لنضالاتها القانونية السابقة.
حزب النهضة لم يحسم نهائيًا موقفه من قانون المصالحة ولم يعترض على استخدام الجيش في الجنوب لحماية منابع النفط
عودة انتهازية تتجاهل ما سبق وتحاول المزايدة على موقف العدو اللدود (حزب النهضة) الذي لم يحسم نهائيًا موقفه من قانون المصالحة ولم يعترض على استخدام الجيش في الجنوب لحماية منابع النفط، ومزايدة على/ واستباقًا لمظاهرات يوم السبت (13-5) التي تبنتها جهات عديدة منها حزب حراك تونس الإرادة (حزب الرئيس المرزوقي)، وسيلة معروفة لحمة وحزبه منذ ظهر للوجود، لم يعد يصدقها الكثير في الشارع، إذ لا يمكن القبول بحزب قطع الطريق من أجل الرئيس، أن يظهر الآن بلا مقدامات ولا مراجعات ودون تقديم أدنى نقد ذاتي لموقفه وسياساته ليعلن الحرب على الرئيس الذي أعلن الحرب على الشعب (هكذا).
عودة إلى السؤال الأول
هنا نعود إلى السؤال الأول، ما العمل؟ فهؤلاء المزايدون والمناورون لن يحلوا المشكل فعلاً، بل إنهم يغتنمون الاضطراب المحتمل وردات الفعل العنيفة المتوقعة في الجنوب على توظيف الجيش ليغنموا منها في العاصمة مكاسب من الرئيس المختنق في قصره يتوسل الإعلام والأحزاب.
إن ضعف الرئيس وهشاشة موقفه سياسيًا وأخلاقيًا (كما ظهر في خطابه) ليس فرصة ليدفعوا التحركات إلى مدى ديمقراطي اجتماعي يقطع مع الفساد ويؤسس للحكم المحلي الذي فيه تعالج المشاكل المحلية بوسائط محلية، بل إنهم يستعيدون تكتيكات ما قبل الثورة أي ابتزاز السلطة (في شخص الرئيس) من أجل مكاسب محدودة للأشخاص والأحزاب.
الصورة الآن واضحة، الرئيس وحزبه في أضعف حالاتهم السياسية وليس لهم من مخرج إلا دفع قانون تبييض الفاسدين ليسندوهم ماليًا في الأيام القادمة وهذا مخرج يسده شارع متوتر ويزداد وعيًا بمأزق السلطة
الصورة الآن واضحة، الرئيس وحزبه في أضعف حالاتهم السياسية وليس لهم من مخرج إلا دفع قانون تبييض الفاسدين ليسندوهم ماليًا في الأيام القادمة وهذا مخرج يسده شارع متوتر ويزداد وعيًا بمأزق السلطة، والجانب الآخر من الصورة الذي يتضح أيضًا أن الأحزاب (الصغيرة) لا يعول عليها للإجهاز على منظومة الفساد المترنحة (بل لعلها قد تفسد على الشارع احتجاجه السلمي لتقدم خدمة للمنظومة).
فالأغلب على الظن أن هناك من يناور مع منظومة الفساد وهو يحرض الشارع ومن وراء الرئيس أيضًا ولعله يعد بمخارج أفضل مما قد يقدم الرئيس، ولكن يفوته أن المنظومة تعرف مواقع القوة ولا تثق في حزيبات وزعامات لا تسيّر ألف رجل في الشارع (وبعضها تمول من الفساد).
يوم السبت (وقت صدور المقال) سيكون حاسمًا، فإذا تجرأت السلطة على قمع المظاهرات (التي ستكون في أكثر من مدينة، فإنها تكون قد أعلنت نهايتها قبل مواعيدها، الشارع يصرخ “مانيش مسامح” وقد وصلت الرسالة إلى الرئيس لكنه ما زال يحتقر قائليها لأنه لا يمكن أن يفكر بطريقة مختلفة سوى احتقار الشارع وهنا مفتاح فهم سياسته، وهنا يمكن توقع مصيره.