على امتداد عقود من الزمن، استطاع الإنسان أن يرسم ملامح وجوده ويبرز قدرته على تسخير الطبيعة مهما كانت صعبة وقاسية ليصنع ظروفًا ملائمة للعيش والسكن والإعمار، ليخلف بذلك أثرًا معماريًا مميزًا وهو ما سنشهده ونحن نكتشف مدينة تحت الأرض، في إحدى مدن الجنوب التونسي.
على بعد 450 كيلومترًا من العاصمة التونسية وفي قلب صحراء الجنوب الملتهبة بحر ووهج الشمس الساطعة والحارقة، تجذبك لافتة مدينة مطمامة، مدينة الكهوف والقصور تحت الأرضية، هذه القرية التي تقع في الجنوب الشرقي التونسي، غرب مدينة “قابس” وتعرف بـ”مطماطة القديمة”، التي تبعد نحو 42 كيلومترًا غربي “خليج قابس” و60 كيلومترًا جنوبًا عن ولاية “مدنين”.
وحين تحط الرحال على أرض مطماطة أو “أَثْوَبْ”، وهو اسمها الأمازيغي ويعني “أرض السعادة والهناء”، تحيط بك التلال والتضاريس الصعبة والصخور الرملية من كل حدب وصوب حتى تصل إلى حفرة غائرة تحت الأرض، قرية كاملة تعيش في باطن الصخور الرملية، وتتساءل في صمت وذهول عن العوامل والأسباب القاهرة التي دفعت بالإنسان إلى اتخاذ باطن الأرض سكنًا له.
حفرة كبيرة في باطن الأرض، وحول محيط هذه الحفرة توجد كهوف محفورة بشكل هندسي منمق، وقع استخدامها كغرف أو أماكن لتخزين الحبوب والقمح والشعير وبيوت “المونة” تحسبًا لكل طارئ، كما توجد بعض المنازل التي تضم حفرًا متعددة ويربط بينها خندق أو ممر تحت الأرض يسمى “السقيفة”، والظاهر لعين الرائي أن كل منزل مكون من باحة منزل رئيسية واسعة تزينها الرسوم، وتتفرع منها حفر أخرى هي بقية غرف المنزل.
ومن الداخل فإن هذه البيوت الصخرية مدهونة جدرانها باللون الأبيض الخالص وهي مادة “الجير”، ومن مميزات هذه الغرف المنحوتة في الصخور والجبال الصحراوية، أنها رطبة وباردة في فصل الصيف ودافئة شتاءً.
بالإضافة إلى المنازل، يوجد في مدينة مطماطة كذلك “قلعة قصر جمعة الشامخة” والتي تطل على المنطقة الداخلية للمدينة تليها الانحدارات الصخرية القاسية.
تقول الروايات والحكايا إن هذه المدينة تحت الأرض سميت مدينة مطماطة نسبة إلى قبيلة أمازيغية قديمة، لم تستطع أن تقاوم جحافل بني هلال وهي من أشهر الهجرات العربية إلى شمال إفريقيا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وتعرف “بالهجرة الهلالية” في التراث الشعبي العربي، فيما يصفها ابن خلدون بانتقال العرب إلى إفريقيا، وتعرف كذلك “بالهجرة القيسية” نسبة إلى أن أغلب القبائل المهاجرة تندرج تحت الفرع القيسي من العرب العدنانية، وكانت الجازية الهلالية من الفاعلين الأساسيين في تغريبة بني هلال المشهورة.
واستقرت هذه القبائل في شمال إفريقيا، وشاركت في الحروب والفتوحات والصراعات السياسية والعسكرية التي قامت في المنطقة وفي حوض المتوسط، وكان لها الأثر الحاسم في تعريب شمال إفريقيا.
وقد عجزت هذه القبيلة البربرية على التأقلم مع بني هلال، فهاجر أهلها إلى هذه المنطقة الوعرة، من مدينة قابس واتخذوا من باطن الأرض والصخور الرملية سكنًا لهم فحفروا مأواهم في باطنها تفاديًا لخطر العدو، وقد لجأوا إلى استخدام الأنفاق والسلالم والتي تُزال عند الشعور بالخطر، للوصول إلى هذه المدينة الكهف.
وإلى يومنا هذا رغم زحف السنون والتحولات المناخية والتضاريسية وانتقال العديد من السكان للسكن في مطماطة الجديدة ، لا تزال هذه الكهوف والمنازل البربرية تحافظ على ذات الطابع المعماري الذي يكشف قدرة الكائن البشري على التكيف مع الصعوبات القاهرة والصعبة في أي زمان ومكان.