تتزامن التطورات الدرامية في منطقة الشرق الأوسط، بسبب عدوان “إسرائيل” الغاشم على قطاع غزة، مع خطوات مهمة في تركيا، لإعادة هيكلة حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يواصل تعزيز القوة الشاملة للبلاد طوال الـ 22 عامًا الماضية.
ومنذ ولادة الحزب قسريًّا من رحم حزب الفضيلة، إثر انشقاق مجموعة من شباب الحزب الإسلامي، الذي بادرت المحكمة الدستورية التركية بحلّه في 22 يونيو/ حزيران 2001، ومبادرتهم بتشكيل حزب العدالة والتنمية، أصبح ملء السمع والبصر.
خلال مسيرته منذ التأسيس في 14 أغسطس/ آب 2001، ونجاحه في تصدر المشهد السياسي في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 وحتى الآن، يواصل زعيم حزب العدالة والتنمية منذ 9 مارس/ آذار 2003، الرئيس رجب طيب أردوغان، هندسة سياسته الداخلية.
عاد أردوغان لرئاسة الحزب بموجب نص دستوري، يلزم رئيس البلاد بالانتماء إلى أحد الأحزاب السياسية، في مايو/ أيار 2018، حيث وقّع استمارة عضوية مجددًا، ولاحقًا تم انتخابه رئيسًا للحزب المتفرد بمكانة غير مسبوقة في تاريخ الحياة السياسية التركية.
انتقل حزب العدالة والتنمية وفق استراتيجيته الداخلية، من مربع مدّ الجسور سياسيًّا وشعبيًّا، إلى العمل الجاد على إعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية، جنبًا إلى جنب مع المزاوجة بين واقع ثقافي وتاريخي، يخدم أهداف الحزب ويعزز أجندته الشاملة.
لم يتخلَّ حزب العدالة والتنمية منذ نشأته عن الترسيخ لمفهوم الديمقراطية المحافظة كمرجعية أيديولوجية، تجمع بين ديمقراطية تحاول تحقيق إرادة الشعب بشكل قانوني والنهج المحافظ، ما يواصل الترسيخ لتقاليد وقيم المجتمع التركي العريق.
وتعبّر توجهات الحزب عن قومية أردوغان العلمانية المحايدة، الجامعة للقومية التركية والمشروع الإسلامي، بحيث يكون الدين أحد مظاهر الحريات دون تحكمه في إدارة السياسات، كبديل للقومية العلمانية التي أسّست للجمهورية، وكانت من سمات مطلع المئوية الأولى.
لا يخفي أردوغان رؤيته التي يتم الترسيخ لها طوال ما يقرب من ربع قرن: “جمهوريتنا الحديثة ولدت من رحم الدولة العثمانية، ونحن استمرار لها”، عبر سياسات تؤكد الحضور التركي الفاعل على المسرح الإقليمي والعالمي، ومكانتها في مجموعة الـ 20 الاقتصادية الكبرى.
تفاعلات العدالة والتنمية
حزب العدالة والتنمية، كغيره من الأحزاب، يضم عدة تيارات بعضها متنافس، تعبيرًا عن التنوع الاجتماعي الثقافي في تركيا، وطوال مسيرته يحاول الموازنة بين هذه التيارات، ومع ذلك لم يسلم من الانشقاقات، على الأقل منذ ديسمبر/ كانون الأول 2013، والتي تطورت في يونيو/ حزيران 2015، بين أردوغان وأحمد داوود أغلو.
تفاقمت الخلافات الداخلية في حزب العدالة والتنمية في خريف 2019، بخروج أحمد داود أوغلو من الحزب، وطالت الانشقاقات شخصيات مهمة منها الرئيس السابق عبد الله غول، ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان، ووزراء سابقين شغلوا حقائب العدل والداخلية والمالية والصناعة والتجارة وغيرها.
الانشقاقات الحزبية (خروج فرد أو مجموعة أو فصيل من حزب لتأسيس حزب جديد أو الانضمام إلى حزب آخر) على عكس اعتزال العمل السياسي، كحالة عبد الله غول وغيره ممّن خرجوا من الحزب لكنهم لم ينضموا إلى أحزاب أخرى، سواء تحت التأسيس أو موجودة بالفعل.
تتعدد التفسيرات في حدوث الانشقاقات الحزبية، عمومًا بسبب أجواء النشأة والتأسيس، الهياكل التنظيمية والأفكار الأيديولوجية، طريقة الإدارة، صراع الأجيال، طبيعة النظام السياسي ورؤيته لدور الأحزاب، وتهديد بعض القيادات الحزبية للاستقرار الداخلي، أو قيادته التاريخية.
في تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم، كانت الخلافات حول ترتيب أولويات العمل السياسي، تفسير المفاهيم المتعلقة بظروف وتطورات المشهد السياسي، تنظّم الممارسة الديمقراطية، لكنها تصل إلى مرحلة إفلاس البرنامج السياسي للحزب، أو الجمود الفكري والتنظيمي.
لم يصل تبايُن الرؤى داخل حزب العدالة والتنمية حدّ الانقسام الحزبي، رغم وجود فصائل وأجنحة داخل الحزب نتيجة للاختلاف الفكري والأيديولوجي، ومع ذلك لم تصل حد الصراع على السلطة، ولم تتحول إلى تمرد في صفوف الحزب، بل نجحت قيادته في تحويلها إلى تنافس وتعاون يستوعبان تباين الرؤى والأفكار.
ظلَّ أردوغان ومساعدوه يتصدون للانشقاقات الحزبية، خاصة الموسمية المرتبطة بفترات الانتخابات، وتؤثر أحيانًا على الهياكل التنظيمية، وعلى الأصوات الانتخابية، والمرشحين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية، نتيجة تأثر الكتل التصويتية الموالية لها بالانقسام الداخلي.
إعادة ترتيب البيت
لم يتأخر أردوغان في المبادرة بتشكيل لجان داخلية لتجاوز الخلل الداخلي، وتبنّي سياسات تعيد تماسك الحزب وتحافظ على رموزه، عبر مدّ الجسور مع المخالفين والغاضبين داخل الحزب الحاكم، وفق نهج احتواء داخلي واضح طوال الـ 5 سنوات الماضية على الأقل.
استراتيجية حزب العدالة والتنمية تكشف عن محاصرة الخلافات حتى لا تؤثر على التماسك الداخلي، مع استجابة متواصلة للتحديات تتبدّى في عملية تغيير وتجديد الهياكل القيادية، وفق ما يتم حاليًّا، ليس فقط استعدادًا للانتخابات المحلية المرتقبة في 31 مارس/ آذار 2024، بل ترجمة الرؤية المتواصلة لإعادة ترتيب البيت من الداخل.
تحاول قيادة الحزب مجابهة أي مغامرات سياسية داخلية تضرّ بتجربته الشاملة، أو تعرقل تعهُّداته بإنجاز المزيد من المكتسبات، ومن ثم لا تقتصر التغييرات الداخلية على أعضاء المجلس المركزي للحزب (إجمالي منتسبيه حوالي 75 عضوًا)، أو المجلس التنفيذي (القيادة العليا للحزب المكونة من 19 عضوًا) برئاسة أردوغان.
عمليات الهيكلة الداخلية التي يمرّ بها العدالة والتنمية، تقطع الطريق على كل ما يؤثر على الأداء العام للحزب، وفروعه في الولايات الـ 81، وتحاول صناعة حالة توافق بين تيارات من خلال تعديلات النظام الداخلي والصلاحيات القيادية، خاصة مجلس إدارة القرار المركزي وغيره من الأطر القيادية.
ورغم نجاح التحالف الحزبي الذي يقوده الحزب (تحالف الشعب الحاكم) في حسم الانتخابات التركية في مايو/ أيار الماضي، لكن التغييرات الجارية في الهيكل التنظيمي للعدالة والتنمية ودوائر صنع القرار فيه، كانت ضرورية لتفعيل رؤية للمئوية الثانية من عمر الجمهورية التركية.
ووفق آخر هيكلة، خرج من الهيئة القيادية لحزب العدالة والتنمية رئيس الحكومة السابق بن علي يلدريم، بعدما كان يشغل موقع نائب رئيس الحزب، وتم تصعيد مصطفى أليطاش بدلًا منه، ووزير الداخلية الأسبق إفكان آلا نائبًا لرئيس الحزب، حرصًا على الجدارة السياسية بمقوماتها الحازمة الحاسمة.
معايير عمليات الهيكلة
تتحرك القيادة العليا لحزب العدالة والتنمية في طريق الهيكلة الشاملة محكومة بعدة معطيات، ووفق مستهدفات كثيرة داخلية وخارجية، حتى تعيد تقديم الحزب لأنصاره، وتمد الجسور مع الشرائح المتلكّئة والمترددة، فضلًا عن دغدغة مشاعر الطيور المهاجرة منه، على النحو التالي:
– تعبّر عمليات الهيكلة التي تشهدها الأحزاب والكيانات السياسية عن رغبة حقيقية في علاج أي ملامح للترهل القيادي التنظيمي، وضخّ دماء جديدة تساعد في استكمال المسيرة، وتمثل أحد أشكال المراجعات المهمة التي تساعد في عملية استرضاء الجماعات الشعبية، وإعادة الثقة لها.
– يحاول الحزب (عبر ملف الهيكلة الداخلية) تأكيد صموده طوال 22 عامًا، وأنه لايزال خيار الحاضر من واقع حسمه للانتخابات التشريعية الأخيرة (حصل تحالفه الحزبي على 326 مقعدًا برلمانيًّا، بعد مشاركة 88.92% من الناخبين الأتراك)، وأنه يستحق الرهان عليه مستقبلًا.
– يرغب الحزب في أن تعبّر هياكله القيادية عن عمق تجربة الحزب، خلال العقد الثالث من عمره السياسي، ونجاحه خلال العقدَين السابقَين في إعادة تشكيل وجه الحياة السياسية والاقتصادية التركية، وقيادات قادرة على تفعيل برنامجه خاصة في القضايا الجوهرية وذات الطبيعة الخاصة، وتوسيع مظلة الخدمات.
– عكس عمليات الهيكلة التي يشهدها الحزب، الحرص على دراسة النتائج ورسائل الناخبين التي تعبّر عنها اتجاهات التصويت، وقياس حجم الرضا والاعتراض، وضرورة إحداث تغيير حقيقي، تؤكد استيعابه لأي أخطاء خلال الممارسة السياسية وتعزيز الثقة الشعبية.
– يردّ الحزب بطريق مباشر على الانتقادات التي تتحدث عن تآكُل شعبيته، وأنه منذ عام 2019 يواجه تصدعات داخلية، عبر عملية إعادة ترتيب الأوراق، وإعادة تقييم مسيرته، وتصويب بوصلته، وتحسين تكتيكاته عبر ضخّ دماء جديدة، بحكم طبيعة المشهد خلال الفترة المقبلة التي تتطلب كفاءات حزبية.
– تبحث قيادة الحزب منذ نشأته عن الشخصيات القادرة على ترجمة سياساته والتحدث بلغة خطابه، حتى تتناغم مع القاعدة القانونية والسياسية والنفسية للدولة والمجتمع محليًّا وخارجيًّا ودفاعيًّا، والانخراط الفاعل وسط الجمهور، ومن ثم جذب أكبر عدد ممكن من الناخبين.
– عمليات الهيكلة الداخلية المتواصلة منذ انتخابات المحليات الماضية في مارس/ آذار 2019، لا تركز فقط على استحقاقات الحاضر بل ملفات المستقبل، من خلال رفع سقف النقاش الداخلي (تقييم أداء القيادات والسياسات) لتحصين الجبهة الداخلية للحزب الذي يقود المشهد العام في البلاد، في ظل تحولات داخلية وخارجية.
– تمثل مبادرة الحزب بمعالجة نقاط الضعف الداخلية، وفق رؤية استراتيجية وخطط مرحلية وتكتيكات إجرائية، جزءًا من رهانات أردوغان على مواصلة تحقيق أرقام قياسية في المشهد السياسي التركي منذ تسعينيات القرن الماضي (تصدر نتائج 13 استحقاقًا انتخابيًّا، و3 استفتاءات شعبية).
– يدرك أردوغان (الرئيس التاريخي للحزب) أن الهيكلة المستمرة تسهم في تحصين منظومته الفكرية، وتنعكس على إدارته للملفات عامة، ودورها في الترسيخ للتنوع الثقافي الذي تأثر بعنف الحركات القومية المتشددة، والنزعة العسكرية المرتبطة بالنظام القومي التقليدي.
– يعمل أردوغان على مجابهة المخاطر التي تدقّ باب المجتمع التركي، كتنامي القومية المتطرفة، خلال السنوات الأخيرة، التي تتبدّى من واقع تعاطيها مع قضايا الهجرة واللاجئين وغيرها، ويرغب في إنهاء الصورة الذهنية العالقة بالعقول، حول الاستبداد والوصاية والاحتكار السياسي داخل الأحزاب السلطوية.
– يعرف حزب العدالة والتنمية أن الاستقرار السياسي الذي تعيشه تركيا منذ وصوله لحكم البلاد، مرتبط باستمرار قوته المدعومة بمستويات التأييد الشعبي، خاصة مع تأسيس عدد كبير من الأحزاب السياسية الجديدة، ما يتطلب تغييرات جادة داخل الحزب تبقيه في الصدارة.
– لا يخفي أردوغان (المتمتع بحضور وتأثير كبيرَين داخل الحزب وخارجه) الانتقادات التي تبديها بعض قواعد الحزب التصويتية التي تواصل دعمه، أو الشريحة المنشقة، حتى أنه قال ذات مرة: “يبدو أننا أخفقنا في إقناع البعض”، ومن ثم يحاول علاج المنغصات السياسية التي تؤثر على صورة الحزب وبنيته التنظيمية.
– يستهدف الحزب إقناع قوى وفئات وأعمار مترددة ومتشككة بقدرته على مواصلة التعامل مع قضايا داخلية وخارجية شائكة، مثل البطالة والحجاب والتعليم والرعاية الصحية والسياسات الزراعية ومكافحة الفساد والإصلاحات الاقتصادية والتهديدات عامة، وألا يقتصر جمهور الحزب على التيار المحافظ فقط.
– يراهن الحزب خلال الفترة الوسيطة بين الانتخابات العامة الصيف الماضي والمحلية، على طرق باب معاقل المعارضة في المدن الكبرى لا سيما الحضرية، خاصة الساحلية والجنوبية والغربية، وإعادة مناصريه ممّن التحقوا بتجارب حزبية جديدة، كحزبَي الديمقراطية والتقدم والمستقبل.
– تتبدى هذه الجهود والحزب على أبواب الانتخابات المحلية (البلديات) التي تمثل له أولوية خاصة جدًّا، بعد النتائج التي شهدتها الانتخابات السابقة عام 2019، خاصة خسارته لمدن كبرى وذات رمزية خاصة (إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا وأضنة ومرسين)، والعمل على استعادتها من المعارضة.
– يرغب الحزب في تجديد ثقة أتباعه، والأهم تعزيز شعبيته في المشهد السياسي التركي، في مواجهة أحزاب المعارضة التي نجح مرشحها الرئيسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كمال كليجدار أوغلو، في الحصول على حوالي 48% من الأصوات.
– يعمل الحزب على الاستفادة من عمق خلافات بين المعارضة (أحزاب وتكتلات)، التي تعاني من وحدة الموقف والتوجهات الأيديولوجية، والتباين التاريخي والسياسي، ومعاركها البينية التي خرجت للعلن قبل شهور، وتعهداتها شبه الإنشائية التي لا تلبّي طموحات الأتراك.
– لم تعد المعارك الحزبية في تركيا قاصرة على إقناع الأنصار بـ”عدالة موقفها”، بعدما بادرت كيانات في المعارضة بمدّ الجسور مع عواصم غربية (في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) ضمن حالة استقطاب سياسي، تدفع بقيادته لوضع رؤية داخلية تعزز مكانة الحزب في المشهد السياسي التركي.
خارطة طريق واضحة
لا تتوقف الأزمات والمحطات الدرامية التي مرَّ بها حزب العدالة والتنمية الحاكم عند محاولات التشويه والحظر والإسقاط، عبر محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، بل بما شهده من خلافات داخلية حول الأفكار والقرارات، دون أن تتخلى قيادة الحزب عن توجيه رسائل تصالحية للمجتمع التركي.
إحدى أهم الرسائل العملية لحزب العدالة والتنمية، تتعلق بالتغييرات التي تشهدها البنية التنظيمية له على المستويين المركزي والفرعي في الولايات التركية، ارتباطًا بالأدوار المنوطة به وبقياداته، على صعيد ترتيب الأوراق وتصحيح المسار وتفعيل دوره السياسي.
يحاول حزب العدالة والتنمية بمصباحه الكهربائي المضيء طوال العقدَين الماضيَين، تبنّي سياسة التغيير التي تخدم توجهاته التقليدية (والمستجدة)، وسواء كان الحزب “مصباحًا مضيئًا” أو “شمسًا أشرقت على تركيا عام 2001” بحسب أردوغان خلال الاحتفال بالذكرى الـ 22 للتأسيس، فالمؤكد أنه حالة فريدة في تركيا خلال الـ 100 عام الماضية.