من الضرورة القول إن المقترح الروسي بإنشاء مناطق تخفيف التصعيد لن يُكتب له النجاح، ولن يُكتب لأن غايته نسف جهود المنظمة الدولية ونسف بنود جنيف 1 والالتفاف على كامل الوعود والالتزامات الروسية وأهمها القرار الأممي 2254.
لقد كان مطلب المناطق الآمنة استحقاقٌ سوري بالدرجة الأولى منذ 2013، وهو استحقاق تبنته الجارة تركيا، لتشكيل ملاذ آمن للسوريين، يحميهم من ثقافة الموت المفروضة عليهم بفعل إجرام الأسد وحلفائه، إلا أنّ خطوط أوباما الحمراء أبت آنذاك دون تحقيقها، ومع قدوم ترامب في حلته الجديدة كان قد صرح في حملته الانتخابية بكسر الخط الأحمر عن هذا المطلب.
جاءت المبادرة الروسية بعد أسابيع قليلة من الضربة الأمريكية لمطار الشعيرات، التي غيرت قواعد اللعب كليًا ووضعت موسكو في مأزقِ وعزلة دولية، جعلتها تُفكر بشكل جدي بحلول مناسبة تنقذها من الاتهامات الموجهة ضدها
بعد تلاقي الثنائية التركية الأمريكية في ملاذ المناطق الآمنة، تم طي هذا الملف بعيدًا عن الإعلام، لكنه بقي حاضرًا في موسكو، التي أعادت إحياءه كضربة استباقية بما بات يُعرف بمناطق مخففة من التصعيد، أو مناطق قليلة التوتر، استعملت موسكو هذه المصطلحات عبر بوابة الأستانة بعقد جولة جديدة في الثالث من شهر أبريل الحالي.
جاءت المبادرة الروسية بعد أسابيع قليلة من الضربة الأمريكية لمطار الشعيرات، التي غيرت قواعد اللعب كليًا ووضعت موسكو في مأزقِ وعزلة دولية، جعلتها تُفكر بشكل جدي بحلول مناسبة تنقذها من الاتهامات الموجهة ضدها، وأبرزها ما جاء على لسان تيلرسون عقب لقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في أواخر شهر نيسان المنصرم، وبكلام صريح لبوتين اعتبر أن موسكو فشلت في إدارة الملف السوري.
الوضع الحرج لموسكو قد تفاقم ولأول مرة منذ تدخلها في سوريا في 30 من سبتمبر 2015، فالسلوك الأمريكي وجه رياحهُ باتجاه لا تشتيه زوارق موسكو، وبالأخص بعد التدخل المباشر والتحضير الدولي لمواجهة إيران وتقليم أظافرها في المنطقة ككل.
في خضم ذلك، أعلن ترامب نيته في إسقاط الأسد بخطة لم تتضح ملامحها بعد وذلك بعد ارتكاب الأخير مجزرة خان شيخون في الرابع من نيسان، وهي الضربة التي قسمت ظهر روسيا التي شعرت بشكل جدي أنها لم تعد تستطيع الاستمرار بالكذبة التي دخلت بها لحماية الأسد، يُضاف لها ضرورة الخروج من المستنقع السوري قبل الغرق، وخسران الاستثمارات التي حققتها في الساحل السوري وحلب وطرطوس.
انطلاقًا من المتغيرات الدولية في سوريا، وفجأةً أوزعت موسكو لعقد جولة جديدة من أستانة 4 لإثبات حسن نواياها في تحقيق السلام السوري، وإنقاذ موكب أستانة في اللحظات الأخيرة ما قبل السقوط.
والسؤال المطروح: هل فعلًا روسيا جدية بتغير قناعتها في سوريا، وهل سيكون بداية تخفيف التصعيد تمهيدًا لتسوية سورية متكاملة، بالتعاون مع واشطن، فيما يبقى السؤال الأهم هل المناطق الروسية الآمنة هي ذاتها مناطق تركيا وواشنطن الآمنة؟
وماذا عن اتفاق وقف النار الذي أُقًّر في كانون الثاني الماضي، حيث عُقد الاجتماع الأول في أستانة، برعاية تركية روسية، ومشاركة إيران والولايات المتحدة ونظام بشار الأسد والمعارضة السورية، لبحث التدابير اللازمة لترسيخ وقف إطلاق النار في سوريا، المتفق عليه في العاصمة التركية أنقرة في 29 من كانون الأول من العام الماضي؟
وفي اجتماع “أستانة 2″، شباط الماضي، جرى الاتفاق بين روسيا وإيران وتركيا على إنشاء آلية حازمة لمراقبة وقف إطلاق النار، لكن المحادثات انتهت حينها دون صدور بيان ختامي.
واختتمت الجولة الثالثة من محادثات “أستانة 3″، منتصف آذار الماضي، في العاصمة الكازاخية، بالاتفاق على تشكيل لجنة ثلاثية تضم كلا من روسيا وتركيا وإيران لمراقبة الهدنة المخترقة حتى الآن.
ما حققته روسيا بالجولات الثلاثة كان كارثيًا على الثورة السورية، فقد نجحت في الالتفاف على كامل القرارات الدولية المُوقعة عليها، والتملص منها، واستفردت بالملف السوري واحكمت قبضتها على كامل مفاصل الحكم في دمشق
ولكن ما حققته روسيا بالجولات الثلاثة كان كارثيًا على الثورة السورية، فقد نجحت في الالتفاف على كامل القرارات الدولية المُوقعة عليها، والتملص منها، واستفردت بالملف السوري واحكمت قبضتها على كامل مفاصل الحكم في دمشق، وصادرت قرار الفصائل، وأحدثت شرخًا بينها وجعلتها تفني نفسها باقتتال داخلي، أسفرت الانقسامات والنزاعات عن تهجير الآلاف من السوريين من مناطق وادي بردى والمعضمية وحي الوعر وحلب في جزئها الشرقي، كما نجحت في تلغيم المعارضة السياسية بمنصات وهمية غايتها التشويش على مؤتمرات جنيف بل ونسفها إلى أبعد نقطة ممكنة.
وبالأمس القريب وقعت الدول الضامنة في أستانة 4 مقترحًا روسيًا تكون فيه إدلب وأجزاء من حمص وحلب والمنطقة الجنوبية في درعا مناطق مخففة من القتال لمدة 6 أشهر، بالتزامن مع نشر قوات دولية محايدة مهمتها فصل ومراقبة المناطق الساخنة عن الهادئة، ووضع نقاط تفتيش تتولى تيسير أمور المدنيين وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، ومواصلة الحرب على الإرهاب خارج مناطق التصعيد.
ثغراتٌ كبيرة ومطبات سياسية كثيرة ذُكرت بالوثيقة الروسية والغاية بالدرجة الأولى خروج روسيا وشريكتها إيران من الحرج الدولي الذي سببه ترامب لهما، ولتأمين المصالح المشتركة في سوريا، عبر تثبيت مناطق النفوذ الروسية الإيرانية في الساحل وطوق العاصمة دمشق، وتبديل الحالة من دول احتلال إلى دول راعية للسلام.
كما جاء المقترح كخطوة تلاقي وتماهي مع الرغبة الأمريكية في المناطق الآمنة كبادرة حسن نية من روسيا، ورسالة روسية مفادها أنها تنازلت وغيرت قناعتها في الملف السوري، وحذت حذو ترامب في رؤيته للحل السوري، إلا أن موسكو جرًّت معها إيران لخروجها هي الأخرى من العزلة الدولية، خصوصًا أن ترامب بدأ يعد العدة بشكل عملياتي مع السعودية لتطبيق خطة متكاملة لتقطيع أوصال إيران في اليمن وسوريا والعراق.
وبالعودة إلى ثغرات مناطق التصعيد الروسي، فإن بند الاستمرار في محاربة الإرهاب يمنح النظام شرعية استمرار في الأعمال العسكرية ضد مناطق المعارضة المعتدلة، وهذا ما اتضح عقب دخول الاتفاق حيز التنفيذ، في خروقات واضحة للنظام لريف حماه ودرعا وحمص.
من شأن الخطة حرمان المعارضة من إحدى أهم وسائل الضغط على النظام من خلال بند تحديد سلاح القتال أو تقييده في مناطق التصعيد، بينما المناطق غير المشمولة في الاتفاق كدير الزور والرقة والحسكة والبادية وتدمر، مسموح لروسيا وللنظام وللتحالف الدولي تحقيق طلعات جوية واستخدام ما يشاءون من السلاح.
من شأن الاتفاق أيضًا السماح للقوات الروسية ولإيران بالانتشار كقوات راعية للسلام باعتبارهما دول ضامنة للاتفاق، وهما بنفس الوقت يقومان بإجرام دموي بحق الشعب السوري، ويحرمونه من أدنى حقوقه في حق العيش والتنقل بأريحية من منطقة إلى أخرى، ناهيك عن التعرض للإهانة والإذلال والاعتقالات، وهي مفارقة غريبة أن يضع القاتل نفسه في نفس الوقت مع المكان المخصص للسلام.
أخيرًا من شأن الاتفاق تثبيت مناطق النفوذ الإيرانية الروسية والمضي قدمًا مع النظام في الاستفراد بما تبقى من مناطق الثوار للقضاء على آخر معارض سوري.، وهو سيناريو ليس بغريب لدولِ تستوحي تجاربها من التاريخ كما حدث في سيربينتشا 1995.
الحقيقة روسيا تريد مجددًا خداع الشعب السوري وخداع أمريكا، بالغزل والتماهي، إلا أن ما يرمي له بوتين يتعارض مع حلول ترامب السورية، فقد تلقت الإدارة الأمريكية الخطة الروسية بعين الحذر والقلق معربةً عن رفضها للدورالإيراني كضامن وشريك في الاتفاق، اتضح ذلك على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر ناورت إذ قالت: “الولايات المتحدة لديها الأسباب لتكون حذرة فيما يتعلق بالاتفاقية التي تم التوقيع عليها من قبل روسيا وتركيا وإيران، والتي تدعو إلى مناطق تخفيف التصعيد في سورية”، وأضافت ناورت أن الولايات المتحدة تقدر الجهود المبذولة من قبل تركيا وروسيا لتخفيف التوتر في سورية، ولكن لديها مخاوف من بينها دور إيران كضامنة للإتفاق.
التصريحات الأمريكية تشير بمدلولها عن رفض واشنطن لما ترمي له روسيا، وعلى الرغم من وجود ممثل لها في أستانة، فقد اكتفت بمراقب للأوضاع وربما هي تنتظر السقوط الروسي الأخير، لتطبيق مخططها بالحرب على الإرهاب وترتيب المنطقة الجنوبية بدخول أردني بريطاني وتقارب سعودي مع محمد بن سلمان لإعلان الحرب على إيران وعزلها عن روسيا.
لن يكون هناك حل في سوريا إلا بخروج إيران والإطاحة بالأسد، فهذان المطلبان يشغلان الأولوية للشعب السوري وهما مطلبان يغنيان عن مناطق آمنة
مما لا شك فيه أن ترامب يريد من بوتين أن يُعلن فشله بشكل كامل في سوريا، وغير ذلك لن يكتب لأي محاولة روسية النجاح، الثابت في المقترح الروسي أن السجال سيبقى قائمًا مع عدم اقتران الاتفاق بعملية سياسية متكاملة تكون على أساس جنيف واحد وتنقل السلطة من دون وجود الأسد.
يُضاف إلى ذلك غياب أي ضمانات لوقف النار بعد نسف اتفاقية وقف النار التي كانت مخصصة لكامل الجغرافية السورية، والاستعاضة عنها بأربع مناطق يخفف فيها النار ولا يقف، كما سُيكتب للاتفاق الفشل مع غياب ذكر أي حديث لأكثر من 66 مليشيا إيرانية تجول في عرض البلاد وطولها وتقتل نهارًا جهارًا السوريين وتسلب منهم أرضهم.
لا يعدو هذا الاتفاق أن يكون سوى محاولة للالتفاف على جنيف القادم وربما نسفه من خلال أخبث مناورة روسية التي تمخضت بحسب تقرير صادر عن وكالة أرنا بعد عقد تسع جولات قمة بين روحاني وبوتين.
وليس أخيرًا لن يكون هناك حل في سوريا إلا بخروج إيران والإطاحة بالأسد، فهذان المطلبان يشغلان الأولوية للشعب السوري وهما مطلبان يغنيان عن مناطق آمنة فما بالكم إذا كانت حتى هذه المناطق ليست سوى كذبة روسية ستنقلب لاحقًا كسلاح عليها وتجعلها تعلن السقوط الأخير، عقب البدء في مخطط ترامب بالتدخل الدولي العربي المباشر لاقتلاع إيران.