لا شيء يشغل العالم منذ أعوام وحتى اليوم سوى محاربة ما يمكن وصفها بالحركات والمنظمات المتطرفة، دون تشخيصٍ منطقي لأسباب هذه الظاهرة التي تتسع يومًا بعد يوم شريحة المؤمنين بها، والساعين إلى الانضمام إلى قوافلها في كل عواصم الكرة الأرضية، خصوصًا أن الأمر لم يعد مقتصرًا على عدد من البلدان التي لا يهتم العالم كثيرًا بعدد القتلى فيها، وأصبح الأمر متجاوزًا كل الحدود الجغرافية.
فكما تُضرب الكنائس في القاهرة والإسكندرية، يُستهدف المدنيون على نهر التايمز بالقرب من البرلمان الإنجليزي، تساوت الرؤوس قليلًا هذه الأيام، وأصبح الخطر الذي لم يكُن يشغل بال أوروبا واقعًا تعيشه هذه الدول.
لكن للأسف، وحينما يهم العالم، ممثلًا في حكوماته من الأقصى إلى الأقصى لمحاربة هذه الحركات والجماعات، يتحول الأمر إلى صراع تطرفات متساوية في مواقفها ولديها ذات الدوافع والأدوات وحتى الخطاب مع تغيير بعض الكلمات والأمثلة، فكلها تعتمد مبدأ التمييز العرقي والتمييز على أساس الدين والاعتقاد وانعدام حق المساواة والتفريق بين البشر على أساس الهوية والمعتقد، مما يترتب على ذلك إصدار أحكام وقرارات تزيد التطرف تطرفًا، فالمعادلة بسيطة، فالتطرف لا يحتاج إلا تطرف مقابل، لينمو.
ورغم أن هذه الحقيقة واضحة، فالبعض يتساءل، ربما بإنكار للواقع، عن الأسباب الذي تجعل التنظيمات المسلحة تنمو في عهد الديكتاتوريات في دول العالم الثالث، وفي عهد صعود اليمين المعادي للإسلام والمسلمين في أوروبا وأمريكا وازدياد نفس الشعبوية في اتخاذ القرارات دون النظر إلى مبادئ رئيسية كالمساواة والعدل وعدم التمييز العنصري.
إذا تتبعنا حركة نمو التطرف في دولة كمصر منذ عام 2013 حتى اليوم، نجد أنه ومع امتداد الخط طوليًا، فإن انضمام الشباب لحركات العنف في مصر على اختلاف توجهاتها وأهدافها يتناسب طرديًا مع حجم الإجراءات المرعبة شديدة التطرف التي يتخذها نظام السيسي اليوم
على سبيل المثال، إذا تتبعنا حركة نمو التطرف في دولة كمصر منذ عام 2013 حتى اليوم، نجد أنه ومع امتداد الخط طوليًا، فإن انضمام الشباب لحركات العنف في مصر على اختلاف توجهاتها وأهدافها يتناسب طرديًا مع حجم الإجراءات المرعبة شديدة التطرف التي يتخذها نظام السيسي اليوم، خصوصًا أن النظام يسعى يومًا بعد يومٍ لإشراك كل المؤسسات والهيئات معه في حربه المزعومة ضد الإرهاب.
فنجد أن بنوك الأهداف لدى منتسبي هذه التنظيمات، تتسع يومًا بعد يوم، فمن المؤسسات الأمنية فقط إلى المؤسسات القضائية، ثم استهداف صريح لكنائس عديدة في توزيعات جغرافية مختلفة، خصوصًا أن النظام منذ أيامه الأولى أشرك رأس الطائفة المسيحية (البابا تواضروس الثاني) في معركته ضد التيارات الإسلامية، فجعل الأمر مصبوغًا بصبغة حربٍ على الدين الإسلامي بشكل صريح، فكيف لا يستغل المسلحون خطابًا كهذا؟
الحقيقة والتي يسعى الكثيرون لإنكارها، أن دخول البلاد في مصر إلى دوامة غير واضحة المعالم بدأ منذ الثالث من يوليو 2013، حيث إن عبد الفتاح السيسي لم يكتف بالانقلاب والإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، بل اتخذ قراراتٍ وإجراءات جعلت من السهولة وصفها بالحرب على الدين الإسلامي، وشخصيًا، لا أجد منطقية في هذا التوصيف، فالمعركة معركة سياسية واضحة منذ البداية، معركة نفوذ وسلطات، لكن السيسي نفسه يسعى لإصباغ المعركة بعد آخر غير السياسة والنفوذ والمال.
ببساطة، يمكننا طرح السؤال التالي، إذا لم تكن إجراءات عبد الفتاح السيسي ونظامه في مصر، تستهدف بشكل واضح ما يمكن وصفها بالتيارات الإسلامية والرموز الدينية والتضييق على مساحات التدين في البلاد، كيف سيكون خطاب تنظيم كولاية سيناء مثلًا، في ظل دولة تراعي الحريات العامة ولا تأتي على الحريات الدينية؟
ماذا عن قرارت توحيد خطبة الجمعة ومنع الأذان في مكبرات الصوت ومنع صلوات التراويح في المآذن، ومنع المنتقبات من ارتداء نقابهن في الأماكن العامة والوظائف والتضييق على الملتحين ووصفهم بالإرهاب دون جريمة، ومؤخرًا محاصرة الأزهر ومحاولة تطويعه تحت السلطة والهجوم عليه ووصفه بحاضنة الإرهاب ووصم كل ما هو إسلامي بالإرهاب والتطرف، ومهاجمة الإسلام علانيةً في وسائل الإعلام المدعومة من الدولة، وفتح المجال واسعًا أمام تفاهات تطوير الخطاب الديني.
في الحقيقة، لن تجد التنظيمات المسلحة، خطابًا أحسن من هذا يقدمه أعداؤها، فبكل سهولة هذه حرب على الإسلام وهذه السلطة لم تبخل يومًا بقمعها وقتلها، مما أضاف للمعركة بعدًا ماديًّا آخر، وهو حاضنات القمع في أقسام الشرطة والسجون.
الخليط القوي بين القمع الممنهج وادعاء تجديد الخطاب الديني وتغييب متعمد لتيارات الفكر الإسلامي الوسطية، يجعل المُنتج النهائي بعد هذه الدوامة المرعبة، أمر لا يحتمل، وقنبلةً موقوتة في المجتمع
ويبدو أن القمع والإسراف في انتهاك حقوق البشر أضحى أمرًا تتقنه بشكل لا مثيل له الديكتاتوريات العربية، قبل عامين في إصدار صولة الأنصار (٢) ثاني إصدارات ولاية سيناء بعد بيعتها لتنظيم الدولة الإسلامية، ظهر رجل في منتصف العمر، داخل سيارة مفخخة بشكل محكم، متحدثًا وهو يضع يده على برميل المتفجرات قائلًا: “لم تنفعكم سلميتكم، ها هو السيسي ونظامه يقتلونكم كل يوم ولا تحركون ساكنًا، والأسيرات في السجون لا تجد من يحررهن، ونحن سنحررهن بمفخخاتنا”، لم تكن هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها التنظيم واقع القمع المصري، في استقطاب شباب جدد للانضمام إليه، فالشيخ أبو أسامة المصري، أحد أشهر الوجوه المنتسبة لتنظيم ولاية سيناء، ظهر مراتٍ عديدة مغازلًا شباب الإخوان بالجهاد، وبترك السلمية التي تقتلهم.
هذا الخليط القوي بين القمع الممنهج وادعاء تجديد الخطاب الديني وتغييب متعمد لتيارات الفكر الإسلامي الوسطية، يجعل المُنتج النهائي بعد هذه الدوامة المرعبة، أمر لا يحتمل، وقنبلةً موقوتة في المجتمع، خصوصًا ونحن قدر رأينا على أرض الواقع هذا الأمر في حادثة تفجير الكنيسة المرقسية بالعباسية، حينما تبنى تنظيم الدولة الإسلامية – مصر العملية، وأصبحت كُل الأقاويل تشير إلى أن الشاب منفذ الهجوم خريج حاضنات القمع في أقسام الشرطة، حيث اعتقل وتعرض للتعذيب المبرح ظهر أثره عليه وعلى ردود أفعاله ثم اختفى لأكثر من عام، ثم ظهر في كاميرا مراقبة الكنيسة وهو يدخلها للتفجير.
مسيرة طبيعية، فالقمع والتطرف هما المولدّان الأساسيان للتطرف والعنف، فهذه هي النفس البشرية بكل بساطة.