“السعودية هي الدولة التي تُدر ذهبًا ودولارات بحسب الطلب الأمريكي وعليها أن تدفع ثمن الحماية الأمريكية من ثروتها”.
كان هذا مضمون أحد خطابات المرشح الأمريكي الجمهوري لرئاسة البيت الأبيض المثير للجدل دونالد ترامب، الذي على ما يبدو لم تكن المملكة العربية السعودية ولا العالم يأخذه على محمل الجد، حتى نجح في الوصول إلى المكتب البيضاوي بالفعل مطلع هذا العام.
فيما حاول ترامب مؤخرًا أن يضع ملامح لسياسته الاقتصادية القائمة في أساسها على الحمائية بعقلية “التاجر” عبر وعود بأرقام محددة ينتوي ضخها في الاقتصاد الأمريكي خلال عهده، إذ وعد الرئيس الأمريكي، في خطاب أمام الكونجرس الأمريكي يوم 28 من فبراير/ شباط، بتخصيص تريليون دولار للاستثمارات العامة والخاصة من أجل تطوير البنى التحتية في البلاد.
وقال ترامب في خطابه: “بهدف بدء إعادة إعمار البلاد، سأطلب من الكونجرس الموافقة على قانون يطلق استثمارات بقيمة تريليون دولار في البنية التحتية للولايات المتحدة، وسيجري توفيرها بفضل رؤوس الأموال من القطاعين العام والخاص، وهو ما سيخلق ملايين الوظائف”.
وأضاف:”أمريكا أنفقت زهاء 6 تريليونات دولار في الشرق الأوسط، في حين تفككت البنية التحتية لدينا، بتلك التريليونات الست من الدولارات كان بإمكاننا إعادة بناء بلدنا مرتين وحتى ثلاث مرات، لو كان لدينا زعماء يملكون القدرة على التفاوض”.
ويستكمل ترامب مشددًا على أهمية القدرة على التفاوض في صفقات التجارة، معلقًا: “عليك أن تكون قادرًا على التفاوض مع اليابان ومع السعودية، هل تتخيلون أننا ندافع عن السعودية؟ بكل الأموال التي لديها، نحن ندافع عنها، وهم لا يدفعون لنا شيئًا؟”.
إذًا يتضح من تلك الوعود والتصريحات طريقة تعامل ترامب التاجر المقايض في الاقتصاد، والتي تلاها بتصريحات أخرى يجدد فيها انتقاده للمملكة العربية السعودية، وردت في مقابلة خاصة مع وكالة رويترز في شهر أبريل/ نيسان الماضي قال فيها: “السعودية لا تعامل الولايات المتحدة بعدالة لأن واشنطن تخسر كمًا هائلاً من المال للدفاع عن المملكة”.
وتعيد انتقادات ترامب إلى الأذهان تصريحاته التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية في 2016 حين اتهم المملكة بأنها “لا تتحمل نصيبًا عادلًا من تكلفة مظلة الحماية الأمنية الأمريكية”، في إشارة إلى التحالف الضمني التاريخي مع المملكة، والذي يعتمد على تبادل النفط السعودي مقابل الحماية الأمريكية.
وبما أن ترامب لا يرى الآن ضرورة في استيراد النفط من السعودية، بعد نجاح الولايات المتحدة في تجاوز مأزق الطاقة بمخزون احتياطي ضخم من النفط، وكذلك المضي قُدمًا في مشاريع النفط الصخري، ابتكر رجل الأعمال الأمريكي طريقة أخرى لتسديد فاتورة الحماية الأمريكية للسعودية، ستكون في شكل عقود تسليح واستثمارات مباشرة بمليارات الدولارات.
ترامب: السعودية لا تعامل الولايات المتحدة بعدالة لأن واشنطن تخسر كمًا هائلاً من المال للدفاع عن المملكة
وعلى الرغم من إصرار السعوديين بأن العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية قد تحسنت بشكل ملحوظ عقب زيارة ولي ولي العهد محمد بن سلمان إلى واشنطن ولقائه بالرئيس الأمريكي، يبدو من الأنباء الواردة عقب هذه الزيارة أن ترامب أصر على تمرير نظام المقايضة الجديد، والذي بموجبه سيتمكن من تنفيذ وعوده الاقتصادية الداخلية.
غزوة ابن سلمان لم تفلح وستدفع السعودية الجزية لترامب
في منتصف مارس الماضي التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إذ كان هذا الاجتماع هو الأول على هذا المستوى منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق باراك أوباما.
توقعت مصادر إعلامية أن تكون هذه الزيارة محاولة سعودية للتخفيف من نبرة الحدة التي يتعامل بها ترامب مع المملكة منذ حملته الانتخابية وحتى صعوده إلى السلطة، وربما ليعرض عليه الأمير الشاب قدراته تمهيدًا لأي انتقال وارد في هرم السلطة في المملكة، والذي بلا شك يحتاج إلى رعاية أمريكية.
لم يمض سوى أقل من شهرين حتى اتضحت نتائج زيارة ابن سلمان إلى واشنطن، وقد كانت هذه النتائج بفاتورة باهظة نجح التاجر ترامب على ما يبدو في إجبار السعوديين على تحملها، رغم محاولات التقشف المتتالية في الداخل.
يظهر هذا في كشف وكالة رويترز أمس السبت، عن صفقات هائلة عقدتها المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية، بتحليل وقتها وحجمها يمكن أن نجد التفسير لفهم سياسة التهدئة التي بدأ ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع السعودية مؤخرًا.
وتتحدث الأرقام بقوة عن فاتورة هذه التهدئة التي تصل إلى قرابة 340 مليار دولار ستتحمل السعودية ضخهم في الولايات المتحدة على شكل صفقات أسلحة غير مسبوقة، وعلى شكل استثمارات في البنية التحتية الأمريكية.
ونقلت رويترز تفاصيلاً عن هذه الصفقات، عن طريق مسؤول في البيت الأبيض أكد أن السعودية أصبحت قريبة من الاتفاق مع واشنطن على إبرام جملة صفقات سلاح بقيمة 100 مليار دولار.
الأمر لا يقف عند هذا الحد بل أشار بقوله في تصريحاته: “صفقات الـ100 مليار دولار التي بات إبرامها وشيكًا ليست سوى جزء من جملة صفقات أسلحة تبلغ قيمتها الإجمالية 300 مليار دولار، وسيتم تنفيذها خلال السنوات العشرة المقبلة”.
وأضاف المسؤول الأمريكي: “نحن الآن في المراحل الأخيرة من الاتفاق على سلسلة الصفقات”.
هذه الأرقام الواردة عن الصفقات التسليحية السعودية والاستثمارات في البنية التحتية، تبلغ تقريبًا ثلث ما تحدث عنه ترامب في برنامجه الانتخابي الذي يهدف إلى إعادة إعمار وتطوير البنية التحتية الأمريكية، وهو رقم تريليون دولار.
فيما أكدت وكالة “بلومبرغ” الأمريكية الاقتصادية على صعيد آخر، اعتزام السعودية ضخ أكثر من 40 مليار دولار لاستثمارها في البنية التحتية الأمريكية، وتشير الوكالة أن السعودية تسعى لإعلان خطط الاستثمارات الجديدة خلال زيارة الرئيس ترامب إلى المملكة الأسبوع المقبل.
وبشكل واضح يمكن معرفة كلمة السر وموعد ومكان تأكيد هذه الصفقات في مشوار تسديد الفاتورة السعودية للأمريكان، وهي ببساطة “زيارة ترامب المقبلة للسعودية”، حيث أعلن ترامب أن أولى زيارته الخارجية، منذ توليه منصبه في 20 من يناير/ كانون الثاني الماضي، ستكون للسعودية ثم دولة الاحتلال الإسرائيلي، قبل التوجه إلى إيطاليا، إذ تبدأ بتجمع تاريخي في السعودية للقاء مجموعة من قادة العالم الإسلامي، وعلى الهامش يتضح مما أوردته رويترز وبلومبرج أن الاتفاق النهائي على “الجزية السعودية” سيكون في الرياض.
ترامب حمّل السعودية ثلث تكلفة برنامجه الانتخابي في أسوأ حالاتها الاقتصادية
هذه الأرقام الواردة عن الصفقات التسليحية السعودية والاستثمارات في البنية التحتية، تبلغ تقريبًا ثلث ما تحدث عنه ترامب في برنامجه الانتخابي الذي يهدف إلى إعادة إعمار وتطوير البنية التحتية الأمريكية، وهو رقم تريليون دولار.
وهو ما يعني أن ترامب نجح في جذب استثمارات ووقع عقود بثلث المطلوب من السعودية فقط في أول 5 شهور من حكمه، ليتم تطوير البنية التحتية الأمريكية، وخلق ملايين الوظائف كما توقع ترامب، بأموال السعوديين، الذين يعانون الآن من أسوأ ظروف اقتصادية مرت على المملكة.
هذه الظروف الاقتصادية اضطرت السعودية إلى اتخاذ تدابير تقشفية قاسية، من بينها خفض الإنفاق، بالتزامن مع إعلان ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان “رؤية السعودية 2030″، والتي تقود إلى خطة سريعة لخصخصة العديد من المؤسسات والخدمات الحكومية، بما في ذلك بيع نسبة 5% من شركة النفط السعودية العملاقة “أرامكو”، التي تشكل أهم ثروات المملكة، التي تشرف على كل الثروة النفطية في البلاد.
تتحدث الأرقام بقوة عن فاتورة هذه التهدئة التي تصل إلى قرابة 340 مليار دولار ستتحمل السعودية ضخهم في الولايات المتحدة على شكل صفقات أسلحة غير مسبوقة، وعلى شكل استثمارات في البنية التحتية الأمريكية
فتقلصت الميزانيات وانخفضت الإيرادات على وقع تهاوي أسعار النفط، ويجري تقليص الدعم المقدم للمواطن منذ وقت طويل، في ظل حالة ضغط في جميع المجالات التي يعمل بالفعل بعضها تحت عجزٍ في الميزانية.
وتورد إحصاءات صندوق النقد الدولي أن دول الخليج بشكل عام خسرت نحو 500 مليار دولار خلال عام واحد فقط نتيجة انخفاض أسعار النفط، ومع استمرار هذا الهبوط إلى ما دون الـ45 دولارًا للبرميل سجلت المملكة عجزًا في الموازنة يقارب 150 مليار دولار، لكنها تعتمد على احتياطياتها من العملات الأجنبية الذي يزيد على 600 مليار دولار.
وفي هذا الصدد يذكر تصريحات شهيرة لنائب وزير الاقتصاد محمد التويجري، يقول فيها إنه لو استمر سعر البترول عند 40 إلى 50 دولارًا للبرميل، ولم يتم اتخاذ إجراءات وقرارات اقتصادية وترشيدية، وفي ظل الأوضاع الحالية محليًّا ودوليًّا، فإن إفلاس المملكة أمر حتمي خلال 3 إلى 4 سنوات.
وأضاف التويجري حينها – في تصريحات، عبر برنامج الثامنة مع داوود مساء الأربعاء (19 من أكتوبر 2016) – أن القدرة على التنمية الحقيقية والمشاريع التنموية كانت في حدود 10% فقط من الإيرادات، حيث إن 90% من الإيرادات تذهب للمصروفات (الروتينية) كالرواتب والبدلات.
وعليه خفض مجلس الوزراء السعودي من مزايا موظفي الدولة البالغ عددهم مليون و250 ألف موظف من إجمالي عدد الموظفين السعوديين البالغ 5 ملايين و600 ألف موظف، وقرر إلغاء بعض العلاوات والبدلات والمكافآت، وخفض رواتب الوزراء ومن في مرتبتهم بنسبة 20%، كما خفض مكافآت أعضاء مجلس الشورى بنسبة 15%.
وأعزى مسؤولون سعوديون هذه الحالة بالإضافة إلى انخفاض أسعار النفط إلى الحرب الدائرة باليمن، والمخاطر الإقليمية متمثلة بإيران والعراق وسوريا، مما يدفع السعودية للتحوط أكبر في نفقاتها الداخلية، وهو الأمر الذي أثار بلبلة مجتمعية.
نائب وزير الاقتصاد السعودي: لو استمر سعر البترول عند 40 إلى 50 دولارًا للبرميل، ولم يتم اتخاذ إجراءات وقرارات اقتصادية وترشيدية، وفي ظل الأوضاع الحالية محليًّا ودوليًّا، فإن إفلاس المملكة أمر حتمي خلال 3 إلى 4 سنوات
إلى أن صدرت أوامر ملكية في السعودية، مؤخرًا بإعادة جميع البدلات والمكافآت والمزايا المالية لموظفي الدولة من مدنيين وعسكريين، ولكن هذا الأمر لا يعني بحسب مراقبين تحسن الأوضاع الاقتصادية السعودية بأي حال.
وعلى الرغم من هذه الحالة أصر ترامب على تحميل المملكة فاتورة باهظة الثمن، ورضخت السعودية لشراء وجه ترامب المتشدد أمام إيران، والذي يشعرها بالاطمئنان إلى حد كبير حتى ولو على المستوى الخطابي، في محاولة لتعويض حرمان عصر أوباما.
وبهذا تحملت السعودية قيمة صفقات سلاح واستثمارات تساوي قيمة ميزانيتها المتقشفة تقريبًا في عام واحد، لصالح برنامج ترامب الاقتصادي الذي وعد به ناخبيه.