في مطلع مارس/ آذار من العام 2009 كان الرئيس السوداني يفتتح مشروع سد مروي الذي يقع على مجرى نهر النيل ويبعد نحو 350 كيلومترًا شمال العاصمة الخرطوم، وفي تلك الأثناء كان الشغل الشاغل للسودانيين مذكرة التوقيف التي أصدرتها، آنذاك، محكمة الجنايات الدولية بحق البشير، إلا إنّ الغالبية العظمى من المواطنين وقفت مع الرئيس في تلك الأيام، إذ إن الشعب السوداني عاطفي بطبعه لم يتقبل فكرة تسليم ابن الوطن لجهة أجنبية مهما كان رأي الناس فيه.
خطاب البشير الذي ألقاه بمناسبة افتتاح السد حمل رسائل سياسية إلى قدرٍ كبير، ردّ فيها على اتهامات مدعي المحكمة، ووجه انتقاداته إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، كما لم ينسَ أن يغدق الثناء على سد مروي، معتبرًا أنه سيكون نهاية الفقر في السودان! وسينتج طاقة كهربائية تقدر بـ1250 ميجاواط، وسيُمكن الأهالي من زراعة 4 مليون فدان (1.6 مليون هكتار).
انفضّ الحفل الخطابي، وبقيت أزمة السد فترة طويلة، حيث خلّف إنشاؤه أزمة كبيرة مع أصحاب الأراضي التي أقيم عليها جسم السد والبحيرة، إذ احتج أفراد قبيلة المناصير على التعويضات التي منحتها لهم وحدة تنفيذ السدود وحكومة الولاية الشمالية، معتبرين أنها غير مجزية ولا تتناسب مع حجم الضرر الذي وقع عليهم.
تستورد الخرطوم نحو 300 ميجاواط من أديس أبابا يتوقع أن ترتفع إلى 800 بعد اكتمال سد النهضة الإثيوبي، ولعلّ هذا ما يفسر تأييد الرئيس البشير لقيام السد
سرعان ما ظهرت الحقيقة المخفية بعد أقل من أربع سنوات رغم التعتيم الإعلامي الذي تنتهجه حكومة الخرطوم، فقد دشّن السودان في العام 2013 مشروعًا سُمي اعتباطًا بـ(الربط الكهربائي مع إثيوبيا)، ربما “تغبيشًا للعقول وخجلًا من الاعتراف صراحة بأن السودان لجأ إلى استيراد الكهرباء من إثيوبيا، وهو الواقع الماثل الذي لن يستطيع أهل الحكم إنكاره حاليًا، إذ تستورد الخرطوم نحو 300 ميجاواط من أديس أبابا يتوقع أن ترتفع إلى 800 بعد اكتمال سد النهضة الإثيوبي، ولعلّ هذا ما يفسر تأييد الرئيس البشير لقيام السد.
الأرقام التي اعتمدتها وزارة الكهرباء السودانية في مارس/ آذار الماضي لواقع التوليد في الشبكة القومية بشقيها المائي والحراري، تشير إلى أنّ إنتاج محطة كوستي الحرارية 246.073 ميجاواط، فيما بلغ إنتاج سد مروي من الكهرباء 388.323 ميجاواط، وعليه يمكن القول إنّ إنتاجية محطة كوستي (ولاية النيل الأبيض) تُقارب ما ينتجه سد مروي رغم الأموال التي صرفت في قيامه، والتي ذُكر رسميًا أنها تبلغ نحو 3 مليار دولار، أغلبها عبارة عن قروض من صناديق عربية وصينية.
زاد السخط وسط السودانيين بعدما أعلنت وزارة الكهرباء برمجة للقطوعات يتوقع أن تزداد في شهر رمضان بسبب حاجة الناس إلى استهلاك المزيد من الطاقة الكهربائية في هذا الشهر الذي يشهد ارتفاع درجات الحرارة بشكلٍ غير مسبوق، ومن حق دافع الضرائب السوداني أن يتساءل: هل كان سد مروي يستحق كل تلك الضجة؟ حتى كان مزارًا تشد الرحال إليه آلافًا مؤلفة من الوفود والتجمعات باعتباره مشروع القرن كما وصفه الرئيس، وهل كان يستحق الـ3 مليارات مليارات التي أنفقت فيه؟ مع العلم إن كثيرين يشككون في ارتفاع تكلفة السد إلى أكثر من 6 مليارات دولار كما ذكر الصحفي محمد وداعة، فضلًا عن الأزمة التي شهدتها منطقة السد والتي وصلت إلى تنظيم الأهالي اعتصامات من أجل حقوقهم.
ليس وحده سد مروي الذي أُقيم في عهد الحكومة الحالية، فقد أَنشأت بعده مُجمع سدّي أعالي نهر عطبرة وسيتيت ومشروع تعلية خزان الرصيرص، كما تقترح وزارة الكهرباء إقامة سدود أخرى هي (الشريك، كجبار، دال)، لكنّ تلك المشروعات تصطدم برفض السكان الذين يرونها عديمة الجدوى مستصحبين معهم تجربة تهجير أبناء “المناصير” التي حدثت عند قيام سد مروي، والمُحصلة النهائية لقيام السد الأخير.
إذا أردنا مقارنة سدود السودان القديمة والجديدة والمقترحة بسد النهضة الإثيوبي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، نجد أن البون شاسع والمقارنة معدومة، إذ إنّ الأخير وحده يتوقع أن ينتج 6450 ميجاواط ترتفع إلى 10000 بعد خمس سنوات.
سد النهضة العملاق يضم أكبر محطة طاقة كهرومائية في إفريقيا كلها وبتكلفة زهيدة، مقارنة بالتكاليف الخرافية لسد مروي الذي أصبح بعض السودانيين يتندرون ويطلقون عليه لفظة (السد الماسورة)، و(ماسورة) كلمة شبابية سودانية تُستخدم لوصف المقلب أو الصدمة
أما التكلفة فتبلغ نحو 4.8 مليار دولار، موَّلت الصين جزءًا منها، غير أن النصيب الأكبر وهو 3 مليار تم تمويله بواسطة صناديق وطنية، ومساهمة المواطنين الإثيوبيين بعد أن نجحت مصر في استصدار قرار بمنع التمويل الدولي لسد النهضة باعتباره يؤثر على حصتها من مياه النيل، فهل يمكن مقارنة السد الإثيوبي بسد مروي الذي صُمم لإنتاج 1250 ميجاواط لم ينتج منها فعليًا سوى أقل من النصف على أقصى تقدير، وبتكلفة 3 مليار دولار؟ حتى مشروعاته المصاحِبة غدت صفرًا كبيرًا، فالمطار الدولي الذي تم إنشاؤه بالقرب من السد ظل مهجورًا لا يستعمل إلا في مواسم الحج والعمرة أو عند زيارة الوفود الرسمية، كما أن وعود استصلاح الأراضي الزراعية (4 مليون فدان) ذهبت هي الأخرى أدراج الرياح.
سد النهضة العملاق يضم أكبر محطة طاقة كهرومائية في إفريقيا كلها وبتكلفة زهيدة، مقارنة بالتكاليف الخرافية لسد مروي الذي أصبح بعض السودانيين يتندرون ويطلقون عليه لفظة (السد الماسورة)، و(ماسورة) كلمة شبابية سودانية تُستخدم لوصف المقلب أو الصدمة، وهو ما حدث فعليًا مع سد مروي رغم التضخيم والترويج قبل اكتمال السد ومحاولة الدفاع عنه بعد افتتاحه وظهور الحقيقة المُرة.
هل يجوز لنا أن نحلم بأن تكون هناك شفافية يتم بموجبها محاسبة المتورطين في تبديد موارد البلاد بمشروعات وهمية كسد مروي وغيره؟
أمر آخر ينبغي الالتفات إليه، وهو الثقة التي يوليها المواطن الإثيوبي لحكومته فيما يتعلق بالمال العام، حتى لو اختلف سياسيًا مع الحكومة في شؤون الحكم وسياسات الدولة، فبعد أن مُنع التمويل الدولي عن سد النهضة طرحت الحكومة حملة تبرعات للمشاركة في بناء السد وطرحت أسهُمًا عامة للغرض ذاته، فكانت هناك مقولة مشهورة لرئيس الوزراء الإثيوبي السابق مليس زناوي يرددها باستمرار وتتجاوب معه الجماهير عندما يقول: “مهندسو السد نحن، داعمو السد نحن، بُناة السد نحن”، وقد وجدت حملات التبرع وأسهم المشاركة تجاوبًا كبيرًا من عامة الشعب الإثيوبي غطى التكلفة المطلوبة.
نتساءل مجددًا هل يمكن أن تطرح الحكومة السودانية مشروعًا كهذا ويتدافع الناس للمساهمة فيه بثقةٍ واطمئنان على أموالهم؟ وهل يجوز لنا أن نحلم بأن تكون هناك شفافية يتم بموجبها محاسبة المتورطين في تبديد موارد البلاد بمشروعات وهمية كسد مروي وغيره؟