إن من أهم الأهداف الاستراتيجية للصهيونية في القارة الإفريقية، حماية “إسرائيل” كتجسيد للمشروع الصهيوني وضمان بقائها وأمنها والعمل على فك عزلتها السياسية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل بعض الدول الإقليمية، والتأثير على الدول الإفريقية بشتى الوسائل لكسب تأييدها في المحافل الدولية وتأسيس تيارٍ معادٍ للعرب ومصالحهم في الدول الإفريقية، ومحاولة تطويق الدول العربية والإمساك بورقة مياه النيل لتهديد وابتزاز كل من مصر والسودان، وتوفير ممرات مائية آمنة لها عبر البحر الأحمر، ومحاولة خنق الاقتصاديات العربية وعرقلة نموها وقطع شرايينها التجارية مع إفريقيا والعالم، من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية لـ”إسرائيل” عبر زيادة التبادل التجاري بينها وبين إفريقيا، وخلق أسواق جديدة للصناعات الإسرائيلية المتعددة تستوعب التقنيات الفائضة في مختلف المجالات لدي “إسرائيل”.
إذًا كما أسلفنا فإن الأمن القومي والشرعية السياسية والهيمنة الإقليمية هي أهم العناوين الرئيسية للأهداف الاستراتيجية الصهيونية، إن المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاقية كامب ديفد في العام 1978 من القرن الماضي بين مصر و”إسرائيل” شهدت نشاطًا محمومًا من قبل الصهيونية لبسط هيمنتها على المحيط العربي المجاور لـ”دولة إسرائيل” في سياق بناء دولة “إسرائيل الكبرى”، كما ورد في الخريطة التي أصدرتها “إسرائيل” لحدودها في العام 1989 كما يتصورها قادة الصهيونية، والتي تضم النصف الشرقي لسيناء إضافة إلى شمال المملكة العربية السعودية وشمال الكويت والعراق حتى حدود إيران باستثناء جنوبه وشماله، وكذلك ثلثي سورية ولبنان وجميع الأراضي الأردنية، ولا يخفى أن الوجود “الإسرائيلي” في القارة الإفريقية يعزز من قدرة الصهيونية على تحقيق هذه الأهداف.
يمكن الاستنتاج من كتاب المفكر الصهيوني أن الصبغة العنصرية والاستعمارية لـ”إسرائيل” وليدة الفكر الصهيوني الفاشي البغيض الذي يؤكد على الملامح الكونية والفريدة لها
في كتابه “إسرائيل إلى أين” يقول ناحوم جولد مان – رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين عامى 1956 و1968: “الخطر الكبير الذي تقع فيه إسرائيل هو نسيان صفتها الفريدة”.
وأضاف المفكر الصهيوني أنه من المؤكد أن “إسرائيل” لا يمكن أن تبقى إلا إذا شكّلت ظاهرة لا مثيل لها في العالم، كما رفض أي محاولة لجمع كل يهود الشتات داخل دولة الكيان لأن لهم مهمة خارجها في تطبيع الحياة اليهودية، ويؤكد جولدمان أن حل مشكلة العلاقة بين “إسرائيل” واليهود في العالم تربطهم رابطة واحدة تتمركز حول أرض الميعاد، ولهذا سوف يبقى للشعب اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها في الزمن الحاضر ولا في الماضي.
ويمكن الاستنتاج من كتاب المفكر الصهيوني أن الصبغة العنصرية والاستعمارية لـ”إسرائيل” وليدة الفكر الصهيوني الفاشي البغيض الذي يؤكد على الملامح الكونية والفريدة لها، والإصرار على العقلية العنجهية التي تبيح انتهاك سيادة الدول الأخرى من خلال ربط يهود العالم بـ”دولة إسرائيل” لأن الصهيونية تعتبر أن اليهود أمة واحدة وولاءهم يجب أن يكون لـ”إسرائيل” بغض النظر عن الدولة التي يعيشون فيها، ويمكن ملاحظة الخشية من تجميع الشعب اليهودي في دولة واحدة لئلا يتعرضون لضربة عسكرية تؤدي إلى إبادتهم، أو الخوف من فقدان تأثير الجاليات اليهودية في العالم على سياسات الدول التي يعيشون فيها، وأيضًا الخشية من فقدان مصدر التمويل الخارجي الذي توفره هذه الجاليات.
ومن هنا برزت فكرة “المركز الاحتياطي” البديل في حالة ضرب المركز الرئيسي، لذلك يبدو أن منطقة شرق إفريقيا تظهر على أنها هذا المركز الاحتياطي للحركة الصهيونية، وهذا ما يوضح سبب النشاط الصهيوني الكثيف في هذه المنطقة بدعم أمريكي وغربي، ويحقق أيضًا فكرة محاصرة الوطن العربي من الجهة الجنوبية.
لكن كيف تروّج الحركة الصهيونية لأهدافها الاستراتيجية في القارة الإفريقية، وتجعل تغلغلها في القارة مقبولاً وسهلاً؟
كي تخترق إفريقيا قامت الصهيونية بمقاربة أيديولوجية بينها وبين حركة الزنوج الأفارقة تعتمد على التاريخ، فزعمت أن الحركتين تتشابهان في أوجه متعددة منها أن كلًا من اليهود والزنوج الأفارقة تعرضوا لاضطهاد مشترك، ولهما ماضٍ مؤلم لأنهم من ضحايا التمييز العنصري، لذلك يمكن أن يكون الوجود الصهيوني في إفريقيا يمثل الرغبة في مساعدة الذين عانوا من هذا الاضطهاد مثلهم.
ولا شك أن العامل الثقافي التاريخي يشكل أخطر الأبواب التي تدخل عبرها الصهيونية إلى قلب القارة الإفريقية، من خلال الترويج لفكرة أن اليهود والأفارقة عانوا اضطهادًا وتمييزًا عنصريًا، والعرب هم الذين سببوا هذه المعاناة للأفارقة من خلال تجارة الرقيق.
طرحت “إسرائيل” ما عرف بمشروع الأخدود الإفريقي العظيم في العام 2002 على لجنة التراث العالمي باليونسكو، وهو يهدف إلى التنسيق الثقافي بين جميع الدول التي تشكل الأخدود كما تراه “إسرائيل” الممتد من وادي الأردن حتى جنوب إفريقيا
ولقد طرحت “إسرائيل” ما عرف بمشروع الأخدود الإفريقي العظيم في العام 2002 على لجنة التراث العالمي باليونسكو، وهو يهدف إلى التنسيق الثقافي بين جميع الدول التي تشكل الأخدود كما تراه “إسرائيل” الممتد من وادي الأردن حتى جنوب إفريقيا، وأوهمت إسرائيل المجتمع الدولي أنها إنما تبغي مساعدة الأفارقة، تمثلاً بنظرية بن غوريون بضرورة إنشاء وطن واحد لليهود والأفارقة، وهو مشروع طورته “إسرائيل” منذ تسعينيات القرن العشرين كما ذكر موشي فيرجي العميد السابق في جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي أشار إلى أن “إسرائيل” طورت مشروع بن غوريون عبر فريق من الخبراء الإسرائيليين العاملين في مناطق مختلفة من المحيط العربي، وذكر منهم أوري لوبراني سفير إسرائيل السابق في كل من تركيا وإيران وإثيوبيا.
كذلك تم بسط رداء الصهيونية على الحركة الإفريقية، وخلط العامل الديني باستعارة تعبير “النبي موسى الأسود”، مع العامل التاريخي حين استشهدت الصهيونية بأحد القوميين السود “ماركوس غارفي” الذي عاش في الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل القرن العشرين، وكان من أشد المؤمنين بأن على الأمريكيين الأفارقة وجميع السود في العالم أن يشكلوا مؤسسات لجمع الثروة والسلطة.
لقد مثلت حركة غارفي ردة فعل على الظلم التاريخي الذي تعرض له الأفارقة على يد الرجل الأبيض، ولشدة معاناته تطرف الرجل بأفكاره التي رأى فيها أنه ما دام الشر يكمن في كل ما هو أبيض، فلماذا لا يكون الأسود هو رمز الخير، ودعا إلى عودة الزنوج الأمريكيين إلى وطنهم الأصلي، واعتبرت الصهيونية أن للأفارقة تاريخ يشبه إلى حد كبير تاريخ اليهود، لذلك تم استخدام تعبير “الصهيونية السوداء” لتعزيز الوجود والفكر الصهيوني في إفريقيا.
عمدت الصهيونية إلى تبني ودعم الجهود التي تبذلها بعض الدول الإفريقية في مواجهة الإسلام والمد الإسلامي والتضييق على الأنشطة الإسلامية، وتقويض العلاقات الاستراتيجية بين حركة التحرر العربية وحركة التحرر الإفريقية
وكذلك عمدت الصهيونية إلى تبني ودعم الجهود التي تبذلها بعض الدول الإفريقية في مواجهة الإسلام والمد الإسلامي والتضييق على الأنشطة الإسلامية، وتقويض العلاقات الاستراتيجية بين حركة التحرر العربية وحركة التحرر الإفريقية.
ومن المعلوم أن المؤسّسات الكنسية الكبرى، وفي مقدمتها مجلس الكنائس العالمي والفاتيكان، وضعت مخططًا لتنصير القارة الإفريقية، وفي هذا الشأن نظّم الفاتيكان مؤتمر روما التنصيري في 19 من فبراير 1993م تحت شعار “تنصير إفريقيا عام 2000م”، حيث خصّص ميزانية أولية لهذا الغرض قدرها 5.3 مليار دولار لأجل نشر المسيحية في إفريقيا، ورغم أن هدف الفاتيكان لم يتحقق، فتم تأجيله إلى الأعوام اللاحقة، لذلك وضعت الصهيونية جهودها في خدمة هذا الغرض للوقوف أمام انتشار الإسلام في إفريقيا بالتعاون مع العديد من المؤسسات المسيحية الإفريقية والعالمية، وكذلك بالتعاون مع العديد من القيادات الإفريقية.
ويجب ألا ننسى عاملاً مهمًا ساعد الصهيونية في التسلل إلى القارة الإفريقية، هو أن دولة إسرائيل ليس لها ماضٍ مثقل عدائي مع الأفارقة بعكس العرب الذين يتهمون بأنهم مارسوا تجارة الرقيق في إفريقيا، لذلك استغلت الصهيونية العوامل الدينية والثقافية في مد جسور التواصل مع عدد من القادة الأفارقة الذين رحبوا بود بالعلاقات مع “إسرائيل” في مجالات مختلفة.
إن ثالث دولة اعترفت بـ”إسرائيل” بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، كانت دولة إفريقية هي ليبيريا وهذا يؤشر إلى حجم النشاط الصهيوني في القارة حتى قبل قيام “دولة إسرائيل”.
اتبعت الصهيونية سياسة خبيثة في التسلل لإفريقيا وذلك من خلال إقامة علاقات مع مجموعات إفريقية بعينها دون غيرها تتسم بكثرة عددية ونفوذ سياسي
كما اتبعت الصهيونية سياسة خبيثة في التسلل لإفريقيا وذلك من خلال إقامة علاقات مع مجموعات إفريقية بعينها دون غيرها تتسم بكثرة عددية ونفوذ سياسي، فتقوم بدعم هذه المجموعات إن كانت في السلطة، فترى فيها الصهيونية أنها القوة الأكبر التي تشكل قواعد الحكم، وذلك من أجل الاستقرار السياسي في تلك الدول وتعزيز علاقتها مع “إسرائيل”.
كما أن الصهيونية تدعم تلك الجماعات إن كانت خارج إطار السلطة السياسية، وذلك بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في تلك الدول إن كانت معادية لـ”إسرائيل”، مثلما حصل مع الكثير من المجموعات وخاصة جماعة “الدنكا” في جنوب السودان، وكذلك جماعة “الأمهرا” في إثيوبيا، وجماعة “الإيبو” في شرق نيجيريا، وكذلك فعلت الصهيونية في جنوب إفريقيا حين ربطت أيديولوجيًا بين الصهيونية والقومية “الأفريكانية” البيضاء.
وهكذا تستمر الحركة الصهيونية بتنفيذ مخططها في النفاذ الناعم إلى مفاصل الحياة في البلدان الإفريقية، وتسعى إلى عدم حدوث تغيير تقدمي مهم لصالح تحرر البلدان والشعوب الإفريقية من قبضة نفوذ القوى الكبرى، وذلك من أجل ضمان مصالح الصهيونية والمدللة إسرائيل والقوى الغربية، بينما العرب ما زالوا غير مدركين أن مواجهة المخاطر التي تهددهم من خلال استغلال إسرائيل لوجودها في إفريقيا وعلاقاتها مع بعض القادة الأفارقة، مرهون بالعرب أنفسهم، فعليهم البدء في الالتفات بجدية نحو الجار القريب وإعادة ترتيب العلاقات العربية الإفريقية، فهل في الإعادة إفادة؟