طيلة 36 يومًا مضت، شاهدنا وسمعنا عن مجازر مروعة بحق أهلنا في فلسطين المحتلة، مجازر تذكرنا بما فعل التتار بحق الإنسانية، حتى إن الصهاينة فاقوا التتار وحشية، إذ قصفوا المستشفيات والمدارس والوحدات السكنية ودور العبادة بالقنابل الفسفورية المحرمة دوليًا.
هجر الاحتلال الإسرائيلي أهلنا في غزة ونكّل بهم، وتفنن في حصارهم وخنقهم ومنع عنهم الأكل والشراب والهواء – الذي أصبح ملوثًا بفعل القصف المتواصل – حتى المساعدات الإنسانية القادمة من الخارج مُنعت عن سكان قطاع غزة المحاصرة تحت مرأى ومسمع القادة العرب المجتمعين اليوم في قمة طارئة بالسعودية.
قمة عربية “طارئة”.. رغم أنها تُعقد بعد أكثر من شهر من بداية العدوان الصهيوني ضد أهلنا في قطاع غزة والضفة الغربية، ولعلنا نتفهم ذلك فالقادة العرب لهم التزامات ومشاغل أخرى بعيدًا عن الوجع الفلسطيني.
تراخي العرب عن نصرة الشعب الفلسطيني، ترك أهل غزة وحيدين في حرب الإبادة المستعرة ضدهم، فاستشهد الآلاف ودُمرت المنازل والمستشفيات وهُجر الأهالي وشردوا وانقطع الطلبة عن الدراسة وتوقفت الحياة في غزة وعاد القطاع عقودًا إلى الوراء.
قصف همجي
يواصل الكيان البربري استهداف كل شيء في غزة، مرتكبًا مجازر على مدار الساعة بحق المدنيين العزل هناك، وقال مكتب الإعلام الحكومي في القطاع الجمعة، إن قوات الاحتلال الإسرائيلية قصفت القطاع بنحو 32 ألف طن من المتفجرات وأكثر من 13 ألف قنبلة، بمتوسط 87 طنًا من المتفجرات لكل كيلومتر مربع.
طال القصف الهمجي الإسرائيلي، كلّ الأماكن دون استثناء، فحتى دور العبادة طالها القصف، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني ولقوانين الحرب وأعرافها، وفق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
أدت الانتهاكات الإسرائيلية بحق المنظومة الصحية إلى استشهاد 198 كادرًا صحيًا وتدمير 53 سيارة إسعاف
وفق المرصد الأورومتوسطي، دمّر كيان الاحتلال 66 مسجدًا بشكل كلي فيما تضرر 146، بما يمثل نحو 20% من إجمالي المساجد في قطاع غزة، فضلًا عن تضرر 3 كنائس تاريخية في مناطق متفرقة من القطاع.
استهدف الكيان الغاصب الوحدات السكانية بما فيها، وحوّلها إلى حطام، ونتيجة هذا القصف تضررت أكثر من 50% من الوحدات السكنية في غزة في حين هُدمت كليًا 40 ألف وحدة سكنية، وتشير التقديرات الأولية إلى خسائر قدرها مليار دولار فيما يتعلق بالأضرار التي لحقت بالمباني والأبراج السكنية، بينما تعرضت البنية التحتية لأضرار بنحو مليار دولار.
قطاع صحي منهار
يقول الصليب الأحمر الدولي إن وضع المنظومة الصحية في قطاع غزة بلغ نقطة اللاعودة، فقد باتت العديد من المستشفيات، وفي مقدمتها مجمع الشفاء الطبي، في مرمى النيران الإسرائيلية بعد توغل دبابات الاحتلال في بعض أحياء غزة.
قصف الكيان الصهيوني في البداية المستشفيات واستهدف المراكز الصحية وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، على مرأى ومسمع الجميع، وقد رأينا المجازر المرتكبة في المستشفيات وأبرزها قصف مستشفى المعمداني، الذي أسفر عن استشهاد مئات الفلسطينيين.
نفد الوقود والمستلزمات الطبية وانقطع الكهرباء، في أغلب المستشفيات، ما يعرّض حياة آلاف المدنيين والمرضى والعاملين في الطواقم الطبية في غزة للخطر، فحتى المحاصرين داخل المستشفيات لم يسلموا من جرائم الاحتلال الصهيوني.
وكانت وزارة الصحة في غزة قد أكدت أن 21 مستشفى و47 مركزًا صحيُا بالقطاع خرجت عن الخدمة، مشيرة إلى أن مصيرًا مماثلًا ينتظر المستشفيات الأخرى نتيجة نفاد الوقود وانقطاع الكهرباء، والاستهداف المتعمد من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
“كل غزة طلعت، مضلش حد موجود في غزة خلص”.. الطبيبة الفلسطينية، سارة السقا، تحكي بحرقة عن رحلة النزوح إلى جنوبي #غزة أمس#طوفان_القدس pic.twitter.com/svLmi3JfJo
— نون بوست (@NoonPost) November 11, 2023
أدت الانتهاكات الإسرائيلية بحق المنظومة الصحية إلى استشهاد 198 كادرًا صحيًا وتدمير 53 سيارة إسعاف، كما استهداف الكيان الإسرائيلي 135 مؤسسة صحية، وتم اعتقال اثنين من سائقي سيارات الإسعاف خلال عودتهما من جنوب قطاع غزة إلى شماله، رغم التنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
استهدفت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي 5 مرات متتالية ولا تزال تستهدف محيط المستشفى حتى اللحظة، كما تحاصر مستشفيات الرنتيسي والنصر للأطفال وتعرض حياة آلاف المرضى والطواقم الطبية والنازحين للموت المحقق بالجوع والعطش والقصف المباشر، وفق وزارة الصحة في غزة.
بدوره، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أمس الجمعة، إن طفلًا يقتل في المتوسط كل 10 دقائق في قطاع غزة، وأضاف أن ممرات المستشفيات مكتظة بالجرحى والمرضى والمحتضرين، وأن المشارح ممتلئة، والعمليات الجراحية تُجرى دون تخدير، وعشرات الآلاف من النازحين يحتمون بالمستشفيات.
أعداد الشهداء في ارتفاع
ارتفعت حصيلة شهداء الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى يوم أمس إلى 11 ألفًا و78 فلسطينيًا، فيما أصيب أكثر من 27 ألفًا و490 بجراح مختلفة، وفق وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
من بين الشهداء نجد 4506 أطفال و3027 سيدةً و678 مسنًا، ووصل وزارة الصحة في غزة 2700 بلاغ عن مفقودين منهم 1500 طفل ما زالوا تحت الأنقاض، فيما تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، إن حياة مليون طفل في غزة باتت “معلقة بخيط رفيع” مع انهيار الخدمات الصحية للأطفال تقريبًا في أنحاء القطاع.
نتيجة القصف الإسرائيلي العشوائي المستمر، اضطر مئات آلاف الفلسطينيين للنزوح
أضافت المنظمة الأممية في بيان على موقعها الإلكتروني أمس الجمعة “الانهيار شبه الكامل للخدمات الطبية وخدمات الرعاية الصحية في جميع أنحاء قطاع غزة، لا سيما المناطق الشمالية، يهدد حياة كل طفل في القطاع”.
وقالت أديل خُضُر، المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: “الأطفال يتعرضون للحرمان من حقهم في الحياة والصحة. حماية المستشفيات وإيصال الإمدادات الطبية المنقذة للحياة هو واجب بحسب قوانين الحرب، وكلاهما مطلوب الآن”.
استهداف النازحين
نتيجة القصف الإسرائيلي العشوائي المستمر، اضطر مئات آلاف الفلسطينيين للنزوح، وفرّ النازحون سيرًا على الأقدام وعلى دراجات نارية وسيارات وشاحنات صغيرة، وصار مألوفًا في الأيام الأخيرة مشهد فلسطينيين يحملون كل ما يستطيعون من ممتلكات في أكياس وحقائب سفر.
وقالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إن عدد النازحين في قطاع غزة يقترب من 1.6 مليون شخص، يعيش نحو 748 ألف منهم في 151 منشأةً تابعة لها في أنحاء القطاع، بما في ذلك 588 ألف في ملاجئ الوكالة في جنوب غزة.
“هاي تلات مرات تهجرنا وإن شاء الله ما بتنعاد، يا رب ترجعنا على بلادنا”.. أم فلسطينية تواسي ابنتها في طريق النزوح إلى جنوب غزة.#غزة_تقاوم pic.twitter.com/TSwA5u5wtX
— نون بوست (@NoonPost) November 10, 2023
لم يسلم النازحون من بطش آلة العدوان الإسرائيلي، إذ استشهد 66 نازحًا وأصيب 558 في ملاجئ الأونروا أمام سمع وبصر العالم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكان ما لا يقل عن 20 من الذين فقدوا حياتهم و400 من المصابين في جنوب غزة، وفقًا للمكتب.
بدوره، تحدث المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، عن وجود عشرات البلاغات والمناشدات تفيد بوجود مئات الجثامين لنازحين فلسطينيين على طرقات سبق أن أعلنها الكيان الإسرائيلي “آمنة” باتجاه جنوب القطاع.
استهداف الصحفيين
لم يستثن القصف الإسرائيلي الهمجي أي جهة أو طرف في فلسطين المحتلة، فحتى الصحفيين تم استهدافهم بهدف طمس الحقيقة وإسكات صوت الحق الذي ينقل معاناة أهلنا في قطاع غزة إلى الرأي العام الدولي.
وبلغ عدد الشهداء من الصحفيين في قطاع غزة جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من شهر إلى 35 صحفيًا، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، وطال الاستهداف الإسرائيلي عائلات الصحفيين أيضًا على غرار عائلة مدير مكتب قناة الجزيرة القطرية في غزة وائل الدحدوح، إذ استُشهد 12 شخصًا من عائلته، بينهم زوجته وابنه وابنته.
دقيقة صمت
مع استمرار المحرقة في حق أهلنا الفلسطينيين، يتزايد عدد الضحايا على مدار الساعة، وتتسع دائرة الدمار التي يخلفها العدوان البربري، لكن أعضاء مجلس الأمن الدولي لم يجدوا إلا الوقوف دقيقة صمت على أرواح الضحايا بدعوة من دولة الإمارات.
الجهاز الأمني الدولي الذي مهتمه وقف الاعتداءات الدولية وخفض التوترات في العالم، يقف دقيقة صمت!، بعد عجزه المخزي حتى عن تمرير هدنة صغيرة.
إنه الخزي والعار، سيظلّ يلاحق المجتمع الدولي أجمع، الذي لم يجد إلا دقيقة صمت لبيان تضامنه مع الفلسطينيين والتنديد بتواصل العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة والضفة الغربية، فكيف لنا أن نثق مجددًا في هذا المجتمع الذي لم ينتصر للإنسانية وخذلها مجددًا.
قمة عربية طارئة بعد شهر من العدوان
يمكن لنا أن نتفهم موقف المجتمعين في مجلس الأمن والأمم المتحدة، فهذه ليست المرة الأولى التي يديرون فيها ظهورهم للقضية الفلسطينية والإنسانية جمعاء، بذريعة “حق الفيتو” التي يملكه الخمسة “الكبار”.
لكن ما لا يمكن تفهّمه انعقاد قمة عربية وصفت بالطارئة بعد 36 يومًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة وسكان الضفة الغربية، يعني أن القادة العرب طيلة الأسابيع الماضية لم يروا فائدة من الاجتماع حتى صوريًا لبيان تضامنهم من الفلسطينيين.
ما إن بدأ العدوان على غزة، حتى تسارع قادة الدول الغربية للوصول إلى تل أبيب للوقوف إلى جانب المجرم الإسرائيلي نتنياهو، رأينا وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، بينما لم يكلف القادة العرب أنفسهم عناء الاجتماع والتباحث فيما يجري في غزة.
لا ننتظر الكثير من القمة العربية المنعقدة في السعودية، فـ”الجواب باين من عنوانه” كما يقول المثل، سيقتصر الجمع على التنديد والاستنكار مع اختيار حسن الكلام حتى يخادعوا شعوبهم المقهورة، التي باتت أقصى مطالبها السماح لها بالتظاهر.
لم يخرج عن اجتماعاتهم وقممهم السابقة سوى الشجب والإدانة والاستنكار.. فماذا ننتظر من قمة “طارئة” بعد 36 يومًا من إجـ،ـرام متواصل؟#القمة_العربية#غزة pic.twitter.com/5CnSxj3SfO
— نون بوست (@NoonPost) November 11, 2023
حتى إن تحرّكوا وأصدروا بعض القرارات الجريئة، فهي متأخرة، ولن تعيد الوضع إلى ما كان عليه، لكن لو تحرك العرب مبكرًا، لما كنا سنرى هذا العدد المرتفع من الشهداء، لو تحركوا مبكرًا لما كنا سنرى هذه المشاهد القاسية القادمة من غزة.
كان على القادة العرب أن يتحركوا ولهم كل نقاط القوة المطلوبة، التي لها أن تغير موازين القوى، لكنهم كالعادة اختاروا الخنوع والذلّ حتى يحفظوا كراسي حكمهم، ولا يغضبوا القوى الإمبريالية التي تمدهم بالدعم حتى يواصلوا الحكم.
ربما لو تحرك العرب مبكرًا تحركًا جادًا لوقف المجازر في قطاع غزة، ما كنا خسرنا هذه الخسائر المرعبة بالأرواح والضحايا والكرامة، لكنه الخزي والعار والخيانة الذي يلاحق القادة العرب.