تتعرض دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى خسائر كبيرة وانعكاسات اقتصادية كارثية، بسبب الحرب التي تشنها على قطاع غزة منذ أسابيع، فليس الشعب الفلسطيني وحده من يعاني، إذ تؤدي الحرب المستعرة إلى تأثيرات غير مسبوقة على الحياة اليومية للمستوطنين والاقتصاد الإسرائيلي.
نحاول في هذا التقرير رسم صورة حول الخسائر التي مني بها الاقتصاد الإسرائيلي، وهو أحد أهم العوامل التي تأثر على صانع القرار في الدول العبرية وتضغط عليه.
خسائر إسرائيلية كبيرة
استدعت “إسرائيل” نحو 300 ألف جندي احتياط يمثلون قرابة 8% من السكان العاملين، ما أسهم في أزمة عمالة وخسائر تتجاوز 600 مليون دولار أسبوعيًا، أي 6% من الناتج الإجمالي الإسرائيلي.
كما انخفضت صادرات الغاز من “إسرائيل” بنسبة 70%، بسبب إغلاق حقل تمار، وهو ما يعني خسائر شهرية تتجاوز 200 مليون دولار تضاف إلى الخسائر الأخرى.
وتواجه الشركات الناشئة خطر الانهيار التام، إذ تقدمت 150 شركة بالفعل طلبات المساعدة للحصول على فرصة لتلقي ما بين 500 ألف دولار و1.5 مليون دولار للحفاظ على استمرار أعمالها، وهو ما استجابت له مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال العالمية التي قدمت تمويلًا للشركات الناشئة الإسرائيلية.
وتتوقع “إسرائيل” أن يتسع العجز المالي من 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024 في سيناريو الحرب المحدودة، وعجز بنسبة 6% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي في سيناريو الحرب الطويلة.
وترجّح تقديرات إسرائيلية أولية أن تبلغ تكاليف الحرب على قطاع غزة، أكثر من 51 مليار دولار، فيما انخفضت الاحتياطيات الأجنبية بمقدار 7.3 مليار دولار خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تأثر قطاعات رئيسية
يشير مراقبون إلى أن التداعيات السلبية للحرب أدت إلى تأثيرات غير مسبوقة على الاقتصاد الإسرائيلي، وعن ذلك يقول الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد صدام، إن قطاعات الزراعة والسياحة، بالإضافة إلى سوق المال في “إسرائيل” من أبرز القطاعات التي تكبدت خسائر كبيرة بسبب حربها على غزة.
ويوضح صدام في حديثه لـ”نون بوست”، أنه حتى الآن وصل العجز في الاقتصاد الإسرائيلي إلى 6 مليارات دولار، كما انخفض المؤشر الرئيسي للبورصة الإسرائيلية بحدود 17% من وزنه النسبي.
ونوّه إلى أن انخفاض سعر الشيكل دفع المصارف الإسرائيلية إلى ضخ ما يقارب 30 مليار دولار، لتنشيط الاقتصاد الذي يعاني حاليًّا من ارتفاع في الاسعار.
وعن تأثير استدعاء عشرات آلاف الاسرائيليين لخدمة الاحتياط، يؤكد الخبير الاقتصادي أن هذا المشهد يعد أحد أسباب التراجع الاقتصادي، بسبب تحول هذه القوى العاملة من قوى منتجة في الاقتصاد قبل الاستدعاء إلى قوى مستهلكة وتحتاج كثيرًا من نفقات الحرب، ما يربك المشهد الاقتصادي.
ويتابع القول: “كذلك يؤثر استدعاء الاحتياط في نقص الخدمات بسبب سياسة الحرب، لا سيما أن معظم الذين تم استدعاؤهم للخدمة يعملون في قطاعات الصناعة والاتصالات وكذلك القطاع المصرفي”.
ويرجّح صدام ازدياد حالة الركود مع استمرار الحرب وما بعدها، خاصة بعد تأثر قطاعات رئيسية مهمة في “إسرائيل”، مثل قطاع التكنولوجيا الذي يمثل 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض القيمة السوقية للأسهم الإسرائيلية بحدود 20 مليار دولار، وهذا يقود إلى انخفاض التصنيف الائتماني.
وعن العوامل التي أدت إلى فشل حكومة “إسرائيل” في اتخاذ إجراءات اقتصادية طارئة، يقول صدام إن سرية تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” شكلت صدمة مفاجئة، دفعت حكومة “إسرائيل” إلى التسرع في الرد العسكري من دون الالتفات إلى الآثار الاقتصادية.
ويبيّن الخبير الاقتصادي أن أي إجراءات طارئة – حتى إن تم الاستعداد لها – لا يمكن أن تعالج الأزمات الاقتصادية بحكم ترابط المتغيرات الاقتصادية، وتتسبب تأثيراتها المتبادلة في حصول شلل اقتصادي تام لا يمكن تفاديه، في ظل وجود حرب شرسة وحالة من اللايقين.
المستقبل: مزيد من الفوضى
تؤشر المعطيات المتوافرة إلى أن مستقبل الأوضاع في “إسرائيل” يتجه نحو مزيد من التعقيد، نتيجة الحرب على غزة، إذ يُتوقع توسع العجز المالي بشكل كبير، وتراجع الاحتياطيات الأجنبية بشكل ملحوظ، ما ينذر بتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي هناك.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية محمد سليمان الزواوي، أنه كلما طال أمد الحرب، أدى ذلك إلى تأثيرات سلبية على “إسرائيل”، سواء فيما يتعلق بتعطل الحياة ومن ثم تعثر الاقتصاد مع استدعائها للاحتياط بالنظر إلى محدودية عدد السكان، أو على مستوى زيادة الخسائر البشرية، التي بدورها تؤدي إلى انقسامات اجتماعية وسياسية في مجتمع يشهد انقسامًا حادًا حول عدد من القضايا مؤخرًا.
ويوضح الزواوي في حديثه لـ”نون بوست”، أن استمرار الحرب سيؤدي إلى التآكل التدريجي للدعم الغربي الذي يعد منقسمًا حاليًّا بين دعم أوكرانيا ودعم “إسرائيل”، كما أن إطالة أمد إغلاق مطاراتها الرئيسية ووقف حركة الملاحة سيقوض من قدراتها الاقتصادية والمالية، ما أدى إلى تراجع التصنيف الائتماني الإسرائيلي وكذلك انخفاض قيمة العملة.
وينوه أستاذ العلوم السياسية إلى أن الأهم هو أن “إسرائيل” لم تبدأ تلك الحرب وتضع في الوقت ذاته أهدافًا صعبةً التحقيق لإنهائها، بما يعني أن حركة حماس هي التي سوف تنهي هذه الحرب ووفق شروطها، وذلك طبقًا لمخزونها العسكري وتكتيكاتها المخصصة لمرحلة التوغل البري الإسرائيلي ومدى استعدادها لإطالة أمد الحرب.
وعن مدى تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية، يشير الزواوي إلى أن المجتمع الإسرائيلي رغم أنه قائم على أساس ديني، فإنه كيان مصلحي ويعتمد المهاجرون فيها على حزمة المساعدات والإغراءات الاقتصادية التي توفرها لهم.
ويضيف بأن الإسرائيليين لديهم جنسيات بلدانهم الأم التي جاؤوا منها، ومعظمها جنسيات أوروبية وأمريكية، ففي أوقات الأزمات والانقسامات الاجتماعية الحادة يلجأ الإسرائيليون إلى بلدانهم الأم، كما صرح بذلك عدد من الإسرائيليين في أعقاب عملية طوفان الأقصى، فالشعور بالأمن قد زال تمامًا عن الإسرائيلي وكذلك ثقته في جيشه وحكومته، بعد هذه الهزيمة المدوية.
يرجح الزواوي أن تضغط أمريكا على “إسرائيل” لإنهاء الحرب بعد فترة منظورة حتى لو لم تحقق أهدافها المعلنة بالقضاء على حركة حماس
ويذكر الزواوي أن الجيش الاسرائيلي ورغم كل المساعدات الغربية والتفوق النوعي العسكري، لم يستطع حماية جنوده ولا مواطنيه، كما أنه لم يحافظ على أمنه القومي ولا على عمقه الإستراتيجي ولا على حدوده، ولا حتى على عقيدة الردع التي قام عليها جيش الاحتلال.
ولا تقتصر تداعيات الحرب على الجوانب الاقتصادية والأمنية – بحسب الزواوي – بل إن عملية طوفان الأقصى قد بددت صورة الوطن الحلم وأرض الميعاد التي وعدوا بها، فمشاهد استهداف الإسرائيليين وتوغل حركة حماس في عمق الكيان الصهيوني ووصولهم إلى المناطق ذات الكثافة السكانية وقدرة الصواريخ على الوصول إلى تل أبيب بمطاراتها ومنشآتها العسكرية والحيوية، قد بدد صورة أرض الميعاد بغير رجعة، وربما بدأت الآن فعليًا عملية الهجرة العكسية على نطاق واسع.
وعن السيناريو المتوقع لمستقبل الحرب، يرجح الزواوي أن تضغط أمريكا على “إسرائيل” لإنهاء الحرب بعد فترة منظورة حتى لو لم تحقق أهدافها المعلنة بالقضاء على حركة حماس، فإطالة أمد الحرب وتكبد “إسرائيل” لخسائر فادحة في صفوفها وآلياتها واقتصادها وتماسكها الداخلي وضغط عوائل الأسرى لدى حماس سوف يدفع “إسرائيل” لقبول صفقة وطي صفحة الحرب.
ويتوقع الزواوي فتح تحقيقات واسعة في فشل الجيش والحكومة الإسرائيلية، وستطيح تلك التحقيقات بأكبر الرؤوس في الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى التداعيات الكارثية لصورة الكيان الصهيوني أمام العالم بسبب انتهاكاته المشينة لحقوق الإنسان، ومن ثم فإن “إسرائيل” ما بعد “طوفان الأقصى” ستكون مختلفة تمامًا عما كانت عليه قبلها.