دبت الغيرة في نفس موسى بن نصير عندما أرسل له مولاه طارق بن زياد يبشره بفتح الأندلس، فعلى الرغم من أن طارقًا خرج في سبعة آلاف جندي لقتال القوط بأمرٍ من موسى بن نصير، وكان رودريجو ملك القوط قد تجهز بمئة ألف جندي، فاستغاث طارق بموسى وطلب منه المدد فأرسل إليه خمسة آلاف جندي، وتمكَّن طارق من النصر في هذه المعركة الصعبة، فإنَّ موسى بن نصير خشي أن يرتفع شأن طارق عند الخليفة الوليد بن عبد الملك.
كان رد فعل موسى بن نصير على إنجازٍ تاريخي مثل فتح الأندلس أن وبخ طارق بن زياد وسبه وضربه بالسوط وسجنه، بل فكر في قتله، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! لكن للغيرة وقعٌ في النفوسِ لا يمكن للكثيرين السيطرة عليه، كاد أن يجازيه جزاء سنمار.
استطاع طارق بن زياد أن يتصل بالخليفة الأموي عن طريق مغيث الرومي، وكان مغيث خادمًا للخليفة وقد بعثه الخليفة لمهمة رسمية لموسى بن نصير، شرح طارق ملابسات الموقف لمغيث وعاهده إن نقل شكايته للخليفة أن يدفع له مئة من العبيد، فدخل مغيث على موسى بن نصير وقد علم نية موسى بقتل طارق، فقال له: لا تعجل على طارق ولديك أعداء، وقد بلغ أمير المؤمنين ما كان من أمرك وأمره، وأخاف عليك أن توغر صدر الخليفة بقتله دون أن ترجع إليه في ذلك، فتراجع موسى عن قرار قتل طارق وأبقاه في محبسه، ثم عاد مغيث من عند الخليفة بأمرٍ صريح لإطلاق سراح طارق على الفور.
هنا أخذت الأمور مجرى مغايرًا، إذ تعاون موسى بن نصير وطارق بن زياد لمواصلة الفتوحات الإسلامية، ولكن حدث أمر آخر في هذه الآونة، فقد أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير بإيقاف سلسلة الفتوحات! كان هذا القرار له أبعاد تنم عن حكمة الخليفة وتوجسه في ذات الوقت، فقد خشي الخليفة أن ينفرد موسى بن نصير بالأندلس ويستقل بها عن الدولة الأموية، كما ارتأى الخليفة أن التوسعات تزيد من عدد الأعداء ولا يوجد جيش يقوى على ردع هؤلاء المتكالبين على المسلمين إذا ما باغتوا المسلمين.
التكالب على الدنيا يجعل المرء ينظر من زاويةٍ حادة لمجريات الأمور، يسعى لمنفعته وحده ولو كان في ذلك تهميش للآخرين أو حتى ظلمٍ لهم
كان موسى بن نصير يتوجس من علو كعب طارق بن زياد لدى الخليفة، وكان الوليد بن عبد الملك يخشى من استقلال موسى بن نصير بالأندلس، وفي هذه الأثناء كان سليمان بن عبد الملك ولي العهد يطلب من موسى بن نصير التراخي في القدوم على مقر الخلافة حتى يموت الوليد، ليضمن دخول الغنائم والأسلاب في عهده، فلما خالف موسى أمر سليمان بالتأخر غضب عليه سليمان وقلب له ظهر المجن.
وعندما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة عزل موسى وأولاده، وقتل عبد العزيز بن موسى الذي شارك في فتح الأندلس، أما طارق بن زياد فقد أهمل وبقى دون شأنٍ يُذكر بقية عمره، ومات وحيدًا فقيرًا عام 720م لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
التكالب على الدنيا يجعل المرء ينظر من زاويةٍ حادة لمجريات الأمور، يسعى لمنفعته وحده ولو كان في ذلك تهميش للآخرين أو حتى ظلمٍ لهم، المهم أن يبقى في دائرة الضوء وبؤرة الأحداث ومركز إدارة الأمور، وعندما تتحكم الأهواء الشخصية في كل ما يدور من حولك فأنت على شفير الانهيار، هذه العبارة الصادمة تلخص الكثير من الأحداث التي تدور حولنا، فبالأمس يتنكر موسى بن نصير لطارق بن زياد غير آبهٍ بما حققه من انتصارٍ لن يتكرر في تاريخ العرب والمسلمين، واليوم نرى سلسلة مؤسفة من الأحداث التي وإن لم ترق إلى نفس المستوى، إلا أنَّ دلالاتها تحمل الكثير من نفس المعنى، يتغنى بعض المديرين بسعيهم لإنجاح الشركة أو المؤسسة التي يترأسونها في نفس الوقت الذي يحاربون فيه مرؤوسيهم الذين يسعون لإثبات جداراتهم وتفعيل ملكاتهم ومواهبهم.
كثيرًا ما يتغنى بعض المديرين بالشعارات الرنانة والكلمات الطنانة بأنهم يدعمون من يملك فكرةً جديدة، فإذا ما وصلت الفكرة لهؤلاء سخَّفوها وأبدوا ما ليس بها من الشناءة والعور، ثم لا يجد أحدهم حرجًا أن ينسبها لنفسه بعد ذلك، ويستميت في الدفاع عنها بكل ما أوتي من مركز وسلطة، لا لشيء إلا ليحافظ على كرسيه لأطول فترة ممكنة!
لا يعنيه أن صورته قد اهتزت في أعين كلِّ من حوله، ولا يأبه البتة لمصداقيته التي وضعها تحت أقدامه ومرغها في الوحل والطين، هو فقط يسعى للوجاهة ولو بالكذب، تتوق نفسه للصدارة بأي وسيلة وإن كانت رخيصة، وقد تتم الإطاحة بأحدهم دون وجود مبررٍ مقبول، وغالبًا ما يكون ذلك للحفاظ على سلطةٍ أو لكسر شوكةٍ واستئصال شأفة من أطيح به، أو ليكون لمن خلفه آيةً وعبرة، المهم في كل ذلك أن من دبر لذلك يسعى وبالدرجة الأولى لمصلحته الشخصية قبل كل شيء.
قبل أيام صرحت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن أن التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق لم يكن من باب إرساء دعائم الديمقراطية، وإنما كان لدواعٍ أمنية، هذا يثبت لك أنه ليس كل ما هو مشهور صحيح
هذه الحال ليست قاصرة على دائرةٍ ضيقة، بل في شتى أرجاء المعمورة، فقبل أيام صرحت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن أن التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق لم يكن من باب إرساء دعائم الديمقراطية، وإنما كان لدواعٍ أمنية، هذا يثبت لك أنه ليس كل ما هو مشهور صحيح، فالإدارة الأمريكية عزفت طويلًا على وتر الديمقراطية، في حين أن حقيقة الأمر كان الهاجس من امتلاك العراق للسلاح النووي.
وبعيدًا عن إقالة دونالد ترامب لجيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI وبعيدًا عن إطاحة الكثيرين من الساسة لكل من سولت له نفسه الظهور للجمهور واكتساب كاريزما قوية قد تضر بمصالح ونفوذ ذوي السيادة والسلطة، وبعيدًا عن المناوشات التي تطال الأزهر الشريف وتحاول إلصاق تهمٍ رخيصة به، وبعيدًا عن الحرب الباردة في أروقة المصالح الحكومية والخاصة التي يتقن البعض بها لعب أدوار الإقصاء للحفاظ على مراكزهم، فإن العلماء والأدباء الذين هم نبراس الحضارة والعلم والثقافة قد يقع بينهم مثل هذه الأمور، لا سيما أن المعاصرة حجاب.
فترى أن همفري دافي قد أوغر صدره تصدر تلميذه ومساعده مايكل فارادي فبذل دافي نكيثته للتقليل من شأن فاراداي، ولم يكن الخلاف بين أبي الطيب المتنبي وابن خالويه وليد الصدفة، إنما جاء لخشية ابن خالويه على مكانته لدى سيف الدولة بعدما سيطر حب أبي الطيب على نفس سيف الدولة، وما ذكرته هنا حصاة من ثبير، وقليل من كثير.
ليس بمقدورك أن تختار أعداءك، حجم النجاح الذي تحققه يتكفل بذلك
لا يخطئ مطلقًا من لا يفعل شيئًا مطلقًا، الإنسان السوي لا يجعل رضا الناس غايته، وعليه فإنك مُلزم بالسعي نحو نجاحك الذي تترقبه وألا تسمح للوصوليين والانتهازيين بتقويض مساعيك نحو نجاحك، ولا تتوهم أن الجميع يريد لك الخير أو أنهم سيرمون لك طوق النجاة إذا ما اضطربت أمواج بحرك وتلاطمت من حولك، أول خطوة لتحقيق النجاح أن تستيقظ من الأحلام الوردية التي لا وجود لها، وأن تكون أحذر من قِرِلَّى إن رأى خيرًا تدلى وإن رأى شرًا تولى.
ليس بمقدورك أن تختار أعداءك، حجم النجاح الذي تحققه يتكفل بذلك، وكلما كنت ناجحًا كلما زاد طابور الحساد والأعداء الذين يتربصون بك الدوائر، وعندها ليس لديك خيار للتراجع فإما أن تواصل النجاح الذي تتوق له نفسك وإما أن تستسلم، ولك وحدك القرار على أن تتحمل تبعات هذا القرار.