ترجمة وتحرير: نون بوست
“لكن هل تدين حماس؟” يُطرح هذا السؤال على من يستجيبون لوسائل الإعلام بشكل منتظم.
في الشارع، في الحرم الجامعي، أو في تلك اللحظات النادرة عندما تجري وسائل الإعلام الرئيسية مقابلة مع فلسطيني، أو مؤيد للتحرير الفلسطيني، يُطرح هذا السؤال حتمًا. فمن ناحية، نحن نعرف السبب وراء ذلك: فمن خلال تحميل كافة الفلسطينيين المسؤولية عن حماس، يمكن تشويه سمعة المقاومة الفلسطينية ككل عن طريق تفويض هذه المهمة للآخرين.
فعندما يُطرح هذا السؤال على المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، الذي يعتبرون المسؤولون لفعليون للعنف العسكري ضد الفلسطينيين، على شبكة سي إن إن، لا يُطلب منهم إدانة القصف الشامل، أو العقاب الجماعي، أو استهداف المدنيين كشرط مسبق لبدء محادثة.
لكن الفلسطيني الذي أجريت معه المقابلة يواجه واقعًا مختلفًا. وعندما يحولون تركيزهم إلى إدانة الاحتلال العسكري الوحشي، يتم صدّهم بسرعة، ويجبرون على العودة إلى المهمة الأولية الإلزامية، وهي إدانة حماس.
لا تعتبر التركيبة النحوية التي تبدأ “بهل” مجرد مغالطة تهمش 75 سنة من الاستعمار الاستيطاني في مجرد إجابة بنعم أو لا فحسب، ولكنها في هذه العملية تُضفي طابعًا فرديًا أيضًا، وتركز على المشاعر الشخصية: ينبغي على المرء أن يدين الفلسطينيين قبل أن يتمكن من إدانة الإبادة الجماعية التي أودت بحياة أكثر من 10 آلاف شخص في الشهر الماضي.
ينبغي أن نكون واضحين: تعتبر هذه الدعوة لإدانة حماس فخًّا، وهي مصممة للإيقاع بالمدانين في هذا الفخ.
مدان بالفعل
منذ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر غير المسبوقة، لجأ الكثيرون إلى الثوري المناهض للاستعمار فرانز فانون، وذلك لسبب وجيه، بحثًا عن التوجيه والإلهام. ففي كتابه “معذبو الأرض”، الذي كتبه وسط بوتقة نضال الجزائر ضد الاستعمار، وصف فانون المستعمرة بأنها عالم مقسم إلى قسمين، عالم مانوي من الخير والشر، مقسمًا جغرافيًّا ومعززا بالعنف الخالص وممارسات أخرى.
وينطبق وصفه بشكل وحشي على فلسطين المعاصرة، بل وعلى معسكر الاعتقال في الهواء الطلق في غزة. ويضر فانون الذي كثيرًا ما يُستشهد به، على أن إنهاء الاستعمار هو حدث يتطلب العنف: عانت غزة من ضغط العنف الاستعماري لعقود من الزمن. وفي مرحلة ما، لا يمكن إلا أن يولد هذا الضغط سوى الانفجار .
لكن مسألة الإدانة لا تقل أهمية بالنسبة لفانون. في الواقع، فإن كتابه الشهير “معذبو الأرض” ليس إلا ترجمة مضللة لكلمة “الملعونين” أو المدانين.
بالنسبة للفلسطينيين في غزة وخارجها، وبالنسبة للمعذبين في أرضنا المشتركة، كما بالنسبة لفانون، فإن “القتال هو الحل الوحيد”.
تُجرّد الهيمنة الاستعمارية، لتبرير طمعها الجشع، المستَعمرَين من الإنسانية، مما يؤدي إلى استبعاد وتهميش هذه الشعوب البائسة والمستغلة بشكل مفرط لتصبح مجرد “جزء لا يتجزأ من الطبيعة”، ويجدون أنفسهم محاصرين في نوع من الوجود تحت الأرض، وهو ما وصفه فانون بأنه “منطقة اللاوجود… جحيم حقيقي”. وكما شارك محامي الحقوق المدنية والكاتب ديلان سابا منشورًا بعد فترة وجيزة من 7 تشرين الأول/ أكتوبر مفاده: “ما هو الطريق الأخلاقي للخروج من الجحيم؟”
إن التكافؤ الديني لهذه الإدانة ليس من قبيل الصدفة، فإذا كان فانون يرى أن العالم الاستعماري منقسم بين الخير والشر، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث بعبارات مانوانية مماثلة عن معركة نهاية العالم بين “أبناء النور وأبناء الظلام”، حتى أنه استخدم المصطلح الكتابي “عماليق” لتبرير حملة الإبادة في غزة. ولا تزال هذه الثنائية الاستعمارية الأساسية التي تقوم على الحضارة في مقابل البربرية ـ تحظى بدرجة من الشعبية اليوم.
وحسب تصريحات إليوت كوهين في مجلة أتلانتيك، فإن القتال ضد حماس “يتعلق بالهمجية” بكل وضوح وبساطة، مضيفًا أن “البرابرة يقاتلون لأنهم يستمتعون بالعنف” و”يبذلون قصارى جهدهم لإلحاق الألم والتعذيب والاغتصاب، والعنف وقبل كل شيء الإذلال”. وفي محاولة يائسة لإنكار أن النضال الفلسطيني هو نضال مناهض للاستعمار، أثبت سليل الصهيونية سيمون سيباج مونتيفيوري عكس ذلك من خلال الاستعمار العلني؛ حيث كتب أن “هجوم حماس كان يشبه غارة مغولية في العصور الوسطى للذبح والقتل ونيل الغنائم البشرية”.
وكما جادل معلم فانون العظيم، إيمي سيزير، بقوة، فإن الاستعمار والحضارة ليسا غير متوافقين فحسب، بل إن المستعمِرين، من خلال تبرير الوحشية، يجردون أنفسهم من إنسانيتهم، ويصبحون همجيين كذلك.
ليس من المستغرب أن نجد عددًا كبيرًا من مقاطع الفيديو التي سجلها جنود إسرائيليون في الأسابيع الأخيرة وهم يهينون الرهائن الفلسطينيين، حتى أن صحيفة هاآرتس ذكرت كيف قاموا بتجريد الأسرى من ملابسهم، والتبول عليهم، وإحراقهم بالسجائر، ويكتب سيزار: “لا أحد يستعمر ببراءة”. ومع كل إساءة يتم ارتكابها، تبدأ “الغرغرينا” في الظهور، وتقترب إسرائيل خطوة أخرى من الهمجية، وقد يرغب شخص ما في السماح لكوهين ومونتيفيوري بمعرفة ما يحدث من تعذيب واغتصاب وإذلال أمام أعينهما.
ببساطة، يُعد الفلسطينيون مدانون بالفعل، ومن المحتمل أنه سيكون لهذا الاستبعاد الرمزي الذي يشهدونه تداعيات مادية حقيقية. عندما تتخذ هذه العنصرية بُعدًا إنسانيًّا، لا يمكن لأي قدر من العنف أن يكون مفرطا بالنسبة لهذه “الحيوانات البشرية”، على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت.
“جهنم على الأرض”
وحيثما يمكن فعل أي شيء، فإن كل شيء سوف يحدث – تنبأ بالإبادة الجماعية.
خلال الهجوم الإسرائيلي السابق على غزة في سنة 2021 والذي أدى إلى مقتل أكثر من 260 فلسطينيًا، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش غزة بأنها “جحيم على الأرض”، وهو واقع تفاقم بلا شك في الشهر الماضي في ظل نزوح 1.4 مليون فلسطيني داخليًا، وأكثر من ذلك؛ دُمِّرَ أكثر من نصف المنازل السكنية، وانقطعت الكهرباء أو الوقود عن المستشفيات، وأجريت عمليات بتر للجرحى وعمليات قيصرية للحوامل دون تخدير.
ولكن لا يكفي أن يُدفع الفلسطينيون إلى حدود تجريدهم من الإنسانية وأن يُحكم عليهم بالجحيم على الأرض، بل ويجب عليهم أيضًا أن يدينوا أنفسهم لجرأتهم على القتال وإسقاط تلك الجدران التي تفصلهم عن الإنسانية.
إن هذا التضليل مثير للدهشة وذو منطق دخيل، على حد تعبير الكثيرين؛ حيث إن مطالبة الفلسطينيين بإدانة “حماس” اليوم يعني مطالبتهم بقبول قمعهم، وهو فخ لأن أي شيء يقولونه لن يكون كافيًّا على الإطلاق (كما يوضح انتقاد مجلس النواب للنائبة رشيدة طليب).
في المقابل، تعتبر الإدانة أكثر من مجرد فخ، بل عائق أمام التحرك الذي يدفعنا إلى استخدام العبارات الاستطرادية ويحملنا بعيدًا عن الواقع الملموس الذي يفرض إنهاء الاستعمار واستعادة الأراضي الفلسطينية وتحريرها.
وتهمش أسئلة الإدانة الواقع المادي للإبادة الجماعية الفلسطينية المستمرة من خلال ترديد عبارات تافهة لا يمكنها إعادة الإسرائيليين إلى الحياة ولا عكس ما يزيد على 30 ألف طن من القنابل التي أسقطتها إسرائيل بالفعل على قطاع غزة المحاصر – أي أكثر من الحمولة النووية مجتمعة لهيروشيما وناجازاكي، واستهدفت منطقة أصغر بكثير.
في المقابل، بالكاد يستطيع الأمين العام غوتيريش، الذي يشرف على هيئة دولية يُزعم أنها تهدف إلى دعم القانون الدولي، حشد إدانة ضعيفة للاحتلال المستمر منذ عقود وللدولة الاستعمارية التي ارتكبت العشرات من جرائم الحرب خلال أكثر من واحد.
ومن هذا المنطلق، لسائل أن يسأل، كيف تخرج من الجحيم؟ بالنسبة لفانون، أحد الأسباب الرئيسية التي تؤكد أن إنهاء الاستعمار لا يمكن أن يكون إلا بالعنف هو أنه بغض النظر عن التكتيكات التي يختارها المدانون، فسوف يُنظر إليهم دائمًا على أنهم عنيفون بحكم تعريفهم، وسيقابَلون بوحشية غير مناسبة. وكان هذا واضحًا بما فيه الكفاية في مسيرة العودة الكبرى سنة 2018 – التي استهدف خلالها القناصة الإسرائيليون أكثر من 223 فلسطينيا مسالمًا – ومع التجريم الواسع النطاق للدعوات إلى مقاطعة المؤسسات المتواطئة.
لا؛ إن الهروب من الإدانة لا يمكن أن يبدأ إلا بانفجار رمزي بقدر ما هو مادي، وهو أيضًا اختراق للخروح إلى النور، والوجود نفسه والخفاء تحت الأرض، حيث تتوافق هذه الاستعارات مع واقع شبكة الأنفاق التي يبلغ طولها 300 ميل تحت غزة.
ويبدأ الهروب من الإدانة بإظهار المرء لنفسه وللعالم ويُثبت أن الكيان الصهيوني ليس قوة احتلال لا تقهر، وأن الفلسطينيين أقوى كثيرًا مما يتصور كثيرون. لقد بدأت بالفعل مرحلة الهروب من السجن الوجودي، و بالتالي ـ تعد المراحل اللاحقة منه كلها حتمية.
وبالنسبة للذين افتكت أراضيهم، ويعيشون في ظل الحصار، وبالنسبة لأولئك المحكوم عليهم بالعيش في ظل الموت البطيء للاستعمار الاستيطاني، لن تكون هناك كلمات كافية – وستذهب جهودنا مهب الرياح قبل أن نقنع الظالمين بأن أساليبهم غير مقبولة.
وبينما يواصل العالم المطالبة بإدانتنا، حشدت إسرائيل والولايات المتحدة آلاف القوات – مع نشر الولايات المتحدة غواصة مزودة بصواريخ كروز في المياه القريبة مع “قوة عمليات خاصة” – لغزوهما البري المستمر لسجن يحاصر شعبًا بلا دولة، وبدون جيش، أو بحرية.
ولحسن الحظ، لم يقع أولئك الذين يتحملون وطأة الهجوم اليوم في فخ الإدانة الدلالي. بالنسبة للفلسطينيين في غزة وخارجها، وبالنسبة للمعذبين في أرضنا المشتركة، كما بالنسبة لفانون، فإن “القتال هو الحل الوحيد”.
المصدر: ميدل إيست آي