مع دخول الحرب بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي شهرها الثاني، استقر الساسة الصهاينة والأمريكان على هدف عدوانهم: “القضاء على حماس”، تلك العبارة الأكثر استخدامًا التي تُقال بنبرة تأكيدية واثقة، ورغم ذلك، فيبدو الأمر أمنيات واهمة مع البسالة التي تظهرها المقاومة، في وقت لم يحقق فيه الاحتلال أيًا من أهدافه المعلنة اللهم إلا قتل آلاف الأطفال والنساء والمرضى وتهجير مئات الآلاف.
انقسمت آراء المراقبين إلى رأيين: الأول يفترض أن الأمور محسومة لصالح “إسرائيل” وستكون قادرة على سحق حماس، والثاني يرى القضاء على حماس أمرًا غير واقعي، لكن إضعافها ممكن، لذا كثرت في الآونة الأخيرة النقاشات والاجتماعات الرسمية بشأن إشكالية ما الذي سيحدث لغزة فيما لو تمكنت دولة الاحتلال من تحقيق هدفها المعلن؟ ومن يستطيع حكم غزة التي تحكمها حماس منذ عام 2007؟
أسئلة صعبة، أجّل البعض الإجابة عنها، معتبرين أنه من السابق لأوانه التركيز على هندسة ما بعد الحرب، بينما فرض الدبلوماسيون الأمريكيون والإسرائيليون نقاشها مع الحلفاء الإقليميين، وكانت حاضرة في قلب الاجتماعات الأخيرة التي عقدها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الشرق الأوسط.
لكن حتى الآن لم يتم الاتفاق على رؤية واضحة لما قد تبدو عليه غزة بعد حماس، ويبدو أن التحدي الأكثر صعوبة الذي أظهرته هذه الاجتماعات هو العثور على البديل القادر على إدارة غزة، فهناك شبه إجماع أن الفراغ الذي سيعقب افتراض تدمير حماس – أكبر فصيل فلسطيني – سيؤدي إلى ظهور جيوب مقاومة وجيل جديد من المقاتلين سيكون أشد شراسة في مواصلة القتال.
كرة النار: احتلال مستدام
قدم المسؤولون الإسرائيليون تلميحات بشأن رغبتهم في إعادة غزة إلى وضع ما قبل 2005، حيث احتل الجيش الصهيوني غزة عام 1967 بعد أن كانت تحت الحكم المصري، وما بين 1967-2005 كانت غزة تشهد وضعًا استعماريًا كلاسيكيًا، إذ سيطر آلاف المستوطنين على 25% من الأرض، و40% من الأراضي الصالحة للزراعة، وحين ازدادت وتيرة المقاومة وزادت التكلفة على الاحتلال، انسحب من غزة في أعقاب الانتفاضة الثانية عام 2005، ثم سيطرت حماس عليها منذ عام 2007 حتى الآن.
صرح نتنياهو أكثر من مرة أن “إسرائيل” بعد أن تنتهي من حماس ستتولى الحفاظ على السيطرة الأمنية التامة على غزة إلى الأبد كي تضمن ألا تأتي نسخة جديدة من حماس، وهو ما يعني اعتزام نتنياهو البقاء في غزة، وبالفعل بدأ الجانب الإسرائيلي وضع اللمسات الأولى لذلك.
فبمجرد أن يدمر الجيش الإسرائيلي القدرات التنفيذية والعسكرية لحماس، سيبني منطقة عازلة وملغمة داخل حدود غزة من شأنها أن تبقي الفلسطينيين في سجن داخل سجن، أي توفير طبقة إضافية من الأمن للكيان الصهيوني.
بجانب أن هذه المنطقة العازلة ستمنح قوات الأمن الإسرائيلية القدرة على دخول غزة في أي وقت وفي أي مكان لضمان إزالة أي تهديد محتمل، وهو الأمر الذي أكده وزير الحرب الإسرائيلي بقوله إن الحملة العسكرية الإسرائيلية ستخلق “نظامًا أمنيًا جديدًا” يسمح للجيش الإسرائيلي بالسيطرة الكاملة على غزة.
إضافة إلى ذلك، هناك تيار قوي في قيادة الاحتلال تحدث عن إعادة بناء المستوطنات التي تم إخلاؤها في غزة عام 2005. ويعبر عن هذه الحالة، سيمحا روثمان، رئيس لجنة العدل البرلمانية الذي قال إن حماس لا بد من هزيمتها إلى الحد الذي يستطيع فيه أي طفل يهودي السير في الشوارع الرئيسية بغزة.
كما ذكر جدعون ساعر، الوزير المعين حديثًا في حكومة إدارة الحرب، أن “غزة ستصبح أصغر حجمًا في نهاية الحرب”، مضيفًا أن “إسرائيل” بعد أن تنتهي من حماس، ستبقي قواتها بغرض شن غارات متكررة لقمع جيوب المقاومة.
كذلك ذكر جاكوب ناجل، مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، أن “إسرائيل” ستكون لها السلطة الأمنية الكاملة على غزة للأبد بغض النظر عن الكيان الذي سيتولى الشؤون المدنية. كما رفض وزير المالية الإسرائيلي النصيحة الأمريكية بعدم البقاء طويلًا في غزة بعد القضاء على حماس، قائلًا: “ليس الأمر كأننا سنسحق حماس ثم ننتظر أن تأتي أخرى”.
إثر هذه التصريحات، علق جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي،أنه من المرجح أن يبقى الجيش الإسرائيلي في غزة حتى يتم الاتفاق على هيكل مدني لحكم غزة، وأضاف كيربي أن من المعقول أن تظل القوات الإسرائيلية موجودة في غزة لفترة من الوقت، لكنه لم يحدد كم من الوقت سيستغرق بقاؤها.
يبدو أن نقطة الخلاف الرئيسية بين الإدارة الأمريكية والاحتلال، ليست فقط في طريقة الغزو البري، فالإدارة الأمريكية ترى أنه يجب على “إسرائيل” تجنب سيناريو إعادة احتلال غزة، ومن منظورها ترى أن “إسرائيل” تفتقر إلى إستراتيجية محددة، لذا تحاول تنبيهها إلى الاستفادة من تجاربها الفاشلة في العراق وأفغانستان.
ترى الإدارة الأمريكية أن إعادة الاحتلال لفترة طويلة سيؤدي إلى المزيد من التكاليف الاقتصادية التي ستؤدي إلى ارتفاع الميزانية لتغطية تكاليف الاحتلال، فضلًا عن الوجود المستمر لقوات الجيش الإسرائيلي في غزة، التي ستكون عرضة للكمائن وزيادة الاستياء الشعبي.
الجيش الإسرائيلي سيواجه تحديات ومخاطر لا نهاية لها ستؤثر مباشرة على أمن “إسرائيل” على المدى الطويل، إضافة لإمكانية حدوث تصعيد إقليمي قد يضع المصالح الأمريكية تحت تهديد مباشر، مع ملاحظة أن إدارة بايدن لا تريد توسع الصراع الإقليمي في المنطقة كي تستطيع “إسرائيل” التفرد بغزة.
شريك راغب: السيناريو الأكثر ترجيحًا
رغم أن الرئيس بايدن منح شيكًا على بياض لـ”إسرائيل”، فإن هناك قلقًا من أن “إسرائيل” قد تقود الأمور خلافًا للمصلحة الأمريكية، وعلى حد تعبير ديفيد شينكر، المسؤول السابق في وزارة الخارجية: “سترتبط قوة الولايات المتحدة ومكانتها في المنطقة بأداء “إسرائيل” في هذه الحرب”.
لا يتفق الأمريكان تمامًا مع السيناريو الإسرائيلي السابق، وقد حذر بايدن، نتنياهو من تبعات سيناريو إعادة احتلال غزة بعد القضاء على حماس، وعندما سئل بلينكن عن تصريحات نتنياهو الأخيرة، أجاب أنه مع بقاء القوات الإسرائيلية لـ”فترة انتقالية”، لكنه لا يفضل إعادة احتلالها لغزة، أو أن تكون “إسرائيل” مسؤولة عن الأمن إلى الأبد.
ينصب التركيز الأمريكي الآن على السلطة الفلسطينية، إذ حدد بلينكن السيناريو المتوقع، قائلًا إنه يجب اتخاذ خطوات لتعزيز السلطة الفلسطينية كي تلعب دورًا رئيسيًا في مستقبل غزة، وقال قبل أيام قليلة أمام جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكي، إنه من المنطقي أن تتولى السلطة الفلسطينية الحكم والمسؤولية الأمنية في نهاية المطاف بغزة.
وهذا السيناريو يلتقي مع الاقتراح الفرنسي بضرورة استبدال جميع المسؤولين المعينين من حماس بموظفين من السلطة الفلسطينية.
وقد لاقى هذا السيناريو بعض التأييد من القيادة الإسرائيلية التي بدأت تتعامل هذه الأيام مع السلطة الفلسطينية باعتبارها صديقًا قديمًا تجاهلته لسنوات، وصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد بأن السلطة الفلسطينية هي الخيار الأفضل لما بعد حماس في غزة.
بعبارة أخرى، فإن هذا السيناريو سيكون مشابهًا للنهج الإسرائيلي في الضفة الغربية، إذ ستلعب “إسرائيل” في غزة نفس الدور الذي تلعبه في الضفة الغربية، وبالتالي سيكون دور السلطة الفلسطينية الرئيسي هو ضمان عدم قدرة حماس على إنشاء جناح عسكري مرة أخرى، أو شن هجمات في المستقبل.
ووفقًا لمعهد ستراتفور فهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا لما بعد القضاء حماس، كما يؤكد على ضرورة أن تعتمد السلطة الفلسطينية في المقام الأول على الدعم العسكري الإسرائيلي لمساعدتها في الحفاظ على السلطة وإحكام قبضتها على غزة.
مع العلم أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد أشار أكثر من مرة برغبته في حكم غزة بعد القضاء على حماس، لكنه يربط ذلك بوجود مشروع سياسي واضح، ما يعني أنه إذا تم وعده بشيء ما، فيمكن أن يشارك، وهذا يثير الشكوك حوله.
لكن البعض يشكك في قدرة السلطة الفلسطينية المتضائلة على حكم غزة، كونها تفتقر إلى الإرادة والقدرة وتعاني من الفساد، ولا تحظى بشعبية بين الفلسطينيين، خصوصًا بسبب التنسيق الأمني مع “إسرائيل”، بجانب أنه في هذه الحالة سيُنظر إليها كمتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، عادت إلى حكم غزة على ظهر دبابات الاحتلال، ما سيقلل من فاعليتها في حكم غزة.
حل الدولتين
دعت بعض الدول منها الصين وروسيا وبعض الأنظمة العربية إلى سيناريو “حل الدولتين” الذي يتصور إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش إلى جانب الكيان الصهيوني. هذا السيناريو تردد بكثرة، والعديد من الخبراء يرون أنه حل ضروري من شأنه أن يهمش حماس ويجمد الصراع لفترة من الوقت.
كما صرح بايدن بأنه يأمل أن تقدم “إسرائيل” تنازلات في محادثات حل الدولتين من أجل تحقيق استقرارها الأمني بدلًا من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. حل الدولتين فكرة مجمع عليها، لكن “إسرائيل” تسعى إلى قتل أي خطوة من شأنها تحقيق إنشاء دولة فلسطينية.
يشير ناثان براون، الباحث بمؤسسة كارنيجي، إلى إن سياسة “إسرائيل” تتمثل في الاستمرار في زرع أزمات وانقسامات طويلة المدى بين الشعب الفلسطيني، وفصل غزة عن الضفة الغربية ومعاملتها باعتبار أن لا وجود لها من الناحية السياسية والإدارية.
البنادق المأجورة: الوصاية الدولية
الفرضية الأخيرة للسيناريوهات المطروحة، هي ما شاركه بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، وهي فكرة “الوصاية الدولية” التي تحكم غزة مؤقتًا إلى أن يتم التوصل إلى حل دائم.
ووفقًا لهذا السيناريو ستقوم الإدارة الجديدة بغزة على ثلاث ركائز، الأولى، تشكيل إدارة مدنية من شخصيات تكنوقراط مهمة من غزة تتولى إدارة الشؤون المحلية لحين تمكن السلطة الفلسطينية من الاضطلاع بهذا الدور.
أما الركيزة الثانية فهي إشراف الأمم المتحدة والجهات المانحة وغيرها من وكالات المعونة الدولية على المساعدات الغذائية وإعادة بناء مدن غزة المدمرة.
والركيزة الثالثة هي تشكيل “قوة عسكرية عربية” مكونة من الدول العربية الخمسة التي أبرمت اتفاقات سلام مع “إسرائيل”، وهم كل من مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب، ومهمة هذه القوات تتمثل في حفظ الأمن ومساعدة السلطة الفلسطينية على تولي السلطة.
يلتقي هذا السيناريو مع ما طرحه الدبلوماسي المصري السابق عبد الرحمن صلاح الدين، بنشر قوة مؤقتة متعددة الجنسيات في غزة لجمع كل الأسلحة من الفصائل الفلسطينية، ثم تشكيل قوة شرطية فلسطينية من غزة وتدريبها لتتولى حفظ الأمن وتساعد في تمهيد الطريق لاستيلاء السلطة الفلسطينية.
ويبدو أن هذا السيناريو محل اتفاق في الدوائر الغربية، فقد اقترحه بشكل رسمي وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وأيضًا أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، وبدأت بالفعل المناقشات الدبلوماسية مع الدول العربية بشأن هذا المنوال.
ورغم أنه قد يبدو حلًا وسطًا بين السيناريوهات المتعددة، وما زال النقاش جاريًا، فإن بعض المراقبين يشككون في إمكانية تحقيقه، فبعض الدول العربية مستعدة للعب دور سياسي ودفع تكاليف إعادة إعمار غزة، لكن ليس لديها حتى الآن رغبة في نشر قواتها على أرض غزة بعد الحرب، إذ تشعر بحرج من حشد قواتها هناك، كونها ستبدو في هذه الحالة كواجهة متعاونة للاحتلال في غزة.
حتى الآن، لم تحقق “إسرائيل” هدفها المعلن ولم تقترب منه حتى، ولا يبدو أن هناك أفقًا لهذه السيناريوهات، فما زال الاحتلال يتكبد خسائر بشرية واقتصادية ويتعثر في حربه رغم كل الدعم المهول الذي يحظى به والوحشية التي يمارسها، وما زالت المقاومة صامدة في الميدان كأنها في يومها الأول للمعركة، ما يؤشر على أن أوهام اليوم التالي الإسرائيلية/الأمريكية غير واقعية وغير عملية، وعليهم التفكير بالسيناريو “صفر”، تسوية تحفظ ماء وجه الاحتلال، وتبقى غزة لأهلها وشعبها.