في فصل جديد من مسلسل التصعيد بين مؤسسة القضاء من جانب والنظام والبرلمان من جانب آخر، ها هو مجلس الدولة يعتمد النتائج التي خلصت إليها جمعيته العمومية عصر السبت الماضي الثالث عشر من مايو الحاليّ بشأن ترشيح اسم المستشار يحيى أحمد راغب دكروري لرئاسة مجلس الدولة خلفًا للمستشار محمد عبد الحميد مسعود.
المجلس في خطاب له موجه لرئيس الجمهورية أفاد بترشيح اسم دكروري منفردًا لرئاسة المجلس بما يخالف التعديلات التي أقرها البرلمان مؤخرًا وصدق عليها السيسي بشأن قانون السلطة القضائية والمتعلقة بترشيح ثلاثة أسماء من بين أقدم سبعة أعضاء وعلى الرئيس أن يختار من بينهم.
خطاب مجلس الدولة بصيغته الحالية بات مخالفًا للقانون من حيث الشكل، وهو ما يضع السيسي في ورطة دستورية، وأصبحت الكرة في ملعبه، وعليه إما أن يعتمد ترشيح المجلس أو يضرب به عرض الحائط، وهو ما يضع بعض التساؤلات عن السيناريوهات المتوقعة لمستقبل المواجهة بين الطرفين، القضاة والرئاسة، ودوافع تمسك كل طرف بموقفه حتى وإن انحسر في إطار الصراع على النفوذ والمصالح بعيدًا عن احتمالية أي صدام قد ينشب بينهما.
تحدٍ واحد ورضوخ ثلاثة
البداية تعود إلى مساء الأربعاء السادس والعشرين من أبريل الماضي حين أقر مجلس النواب تعديلات قانون السلطة القضائية والتي تلغي مبدأ الأقدمية كأساس في تعيين رؤساء الهيئات القضائية الأربعة، مجلس القضاء الأعلى، النيابة الإدارية، هيئة قضايا الدولة، مجلس الدولة، وتم التصديق عليها رسميًا من رئيس الدولة في اليوم التالي الخميس السابع والعشرين من نفس الشهر.
ورغم الرفض المبدئي لتلك التعديلات وتصاعد منسوب التصريحات والتهديدات هنا وهناك، إلا أن ثلاث هيئات من الأربعة استجابت وأعلنت قبولها للعمل وفق ما تم إقراره على قانون السلطة القضائية، وأرسلت كشوف بها ترشيحات ثلاثة أسماء من أقدم أعضائها، إلا أن مجلس الدولة كان له رأي آخر.
مجلس الدولة يعلم أن هذا الترشيح يتعارض تمامًا مع التعديلات الجديدة في القانون، وأن الهدف من إرسال هذا الخطاب إثبات موقف لا أكثر
تجاهل خطابات المجلس الموجهة للرئيس بشأن العدول عن تمرير مثل هذا القانون دفعهم إلى عقد جمعية عمومية طارئة عصر السبت الماضي حضرها ما يقرب من 500 مستشار، خلصت إلى التصميم على ترشيح اسم واحد لرئاسة المجلس بما يخالف التعديلات المبرمة.
وبالأمس أرسل رئيس مجلس الدولة المستشار محمد مسعود خطابًا موثقًا للسيسي تناول فيه ما انتهت إليه الجمعية العمومية، معلنين تمسكهم بمبدأ الأقدمية في ترشيح رئيس المجلس واعتماد اسم المستشار دكروي منفردًا لخلافة الرئيس الحالي.
المجلس والسيسي يعلمان جيدًا أن هذا الترشيح يتعارض تمامًا مع التعديلات الجديدة في القانون، والهدف من إرسال هذا الخطاب إثبات موقف رافض لما طرأ على القانون من تعديلات أكثر منه إبلاغ رسمي باسم مرشح بعينه، وهو ما يضع السيسي في ورطة إذ بات أمامه خيارات ثلاث.
خطاب مجلس الدولة للسيسي بتسمية المرشحين لرئاسة المجلس
ثلاثة سيناريوهات
من المقرر أن يصدر الرئيس المصري قراراته بتسمية رؤساء الجهات والهيئات القضائية الأربعة، المخاطبة بالقانون في الفترة من 30 من يونيو المقبل وحتى 18 من يوليو المقبل، ومن ثم هناك مهلة كافية لدراسة ما يمكن أن يترتب على اتخاذ أي موقف حيال خطاب مجلس الدولة، وتنحصر المواقف المحتملة في سيناريوهات ثلاث هي:
* اعتماد ترشيح مجلس الدولة.. وعليه يصدق السيسي على الترشيح الوحيد المقدم من مجلس الدولة والذي تضمنه الخطاب المرسل بالأمس.
هذا السيناريو الذي يراه البعض مستبعدًا يعرّض السيسي وبرلمانه للحرج أمام الشعب، إذ إنه في حال الاستجابة لشروط مجلس الدولة يبقى السؤال: لماذا إذًا صدق على القانون وتجاهل مناشدات مجلس الدولة في البداية؟ وكيف لرئيس دولة أن يتراجع عن قانون أقره برلمانه؟ وهو ما يعني رضوخًا واضحًا أمام السلطة القضائية.
* الاختيار من بين أقدم سبعة أعضاء.. وعليه يرفض السيسي الترشيح الوحيد المقدم من مجلس الدولة ويختار من بين أقدم سبعة أعضاء حسبما نص التعديل الجديد.
إلا أن هناك معضلة ربما تواجه هذا السيناريو، تتمثل في احتمالية أن يكون هناك اتفاقًا ضمنيًا بين الأعضاء الست الباقين بخلاف دكروري وهم: محمد زكي موسى، فايز شكري، أحمد أبو العزم، بخيت عيسى، ربيع الشبراوي، أحمد أبو النجا، على رفض تولي المنصب حال اختيار السيسي واحد منهم وهو ما يعد ورطة أخرى ربما يسعى رئيس الدولة لتجنب الوقوع فيها.
لكن يبقى سؤال آخر: ماذا لو طمع أي من هؤلاء المرشحين في المنصب وقبل به؟ وهنا يكون المجلس في ورطه، إلا أن الجمعية العمومية – إن أرادت التصعيد والمواجهة – فيمكنها عقد اجتماع طارئ وعزل رئيس المجلس المعين من قبل السيسي.
* الضغط على المجلس.. وعليه فإن الرئيس يعيد الخطاب مرة أخرى لمجلس الدولة لاختيار ثلاثة مرشحين مستندًا إلى بعض الجهات للضغط على الجمعية العمومية ومحاولة التوصل إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف، وهنا سيناريوهان آخران:
الأول: ترشيح المجلس ثلاثة أسماء التزامًا بالقانون على أن يتم الاتفاق ضمنيًا على اختيار دكروري رئيسًا، الثاني: أن يتمسك المجلس بموقفه ويترك الخيار للسيسي حفاظًا على هيبته في مقابل أن يطرح رئيس الدولة الأسماء السبع للمفاضلة بينهم إلا أنه في النهاية يستقر على المستشار دكروري رئيسًا للمجلس، وفي هذه الحالة يعفي نفسه من حرج الرضوخ أمام تعنت المجلس، إذ إنه اختار من بين أقدم الأعضاء وفق القانون إلا أنه ووفق السير الذاتية والخبرة اختار من استقرت عليه جمعية مجلس الدولة العمومية.
سيناريو اعتماد ترشيح دكروي منفردًا، يراه البعض مستبعدًا حيث يعرض السيسي وبرلمانه للحرج أمام الشعب
عمومية مجلس الدولة ترفض قانون السلطة القضائية
ماذا لو رفض السيسي؟
السيناريو الأكثر حرجًا للطرفين أن يختار السيسي رئيسًا لمجلس الدولة غير المستشار دكروري، وهو ما يعني وفق البعض تحديًا واضحًا للمجلس وأعضائه، فضلاً عما يحمله من دلالات سياسية انتقامية تؤكد شكوك البعض من أن رفض المستشار دكروري متعمدًا لأسباب تتعلق بكونه أول قاضٍ حكم بمصرية جزيرتي تيران وصنافير المتنازع عليهما بين مصر والسعودية في إطار اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة بين البلدين في 18 من أبريل 2016.
مجلس الدولة في تصريحات لبعض أعضائه سابقًا لوح بالطعن على دستورية قانون السلطة القضائية الجديد، وأنه في حال رفض اختيار مرشح المجلس سيتم الدفع بعدم دستورية القانون أمام محكمة القضاء الإداري كأول درجة، ثم التصعيد إلى المحكمة الدستورية العليا واجبة النفاذ حال إعلان “الإداري” عدم الاختصاص في مثل هذه القضايا.
وهناك تصعيد من نوع آخر إن قرر المجلس مواصلة المواجهة للنهاية، وهو اللجوء للشارع والقوى السياسية، ففي ظل ما يتمتع به مجلس الدولة من شعبية فرضتها بعض المواقف الخاصة على رأسها موقفه من قضية تيران وصنافير وعدم تورطه في الكثير من قضايا الدم، بإمكانه في ظل هذا المناخ الداعم له أن يتبنى حملة لجمع مليون توقيع مثلا لإلغاء قانون السلطة القضائية، وهو ما يضع النظام بسلطتيه التنفيذية والتشريعية في مأزق سياسي وشعبي غير مسبوق.. لكن هذا يتوقف فقط على مدى رغبة أعضاء المجلس في مواصلة التصعيد.
حالة من الترقب تخيم على أجواء مختلف الأوساط القضائية والتشريعية وداخل الشارع في انتظار ما ستسفر عنه المواجهات بين القضاء والنظام، حيث ذهب البعض إلى احتمالية نشوب صدام بين الطرفين، فهل حقًا من الممكن أن يصطدم السيسي بالقضاة والعكس؟
المستشار يحيى دكروري المرشح لرئاسة مجلس الدولة
المسألة تتلخص في رغبة كلا الطرفين – القضاة والسيسي – في فرض المزيد من السيطرة في إطار توسيع النفوذ بما يضمن ترسيخ المكانة سواء هنا أو هناك
صراع لا صدام
بداية لا بد من الإشارة إلى أن المؤسسة القضائية أحد أهم أضلع النظام الحالي، وواحدة من الأدوات الأساسية التي مهدت لترسيخ أركانه، والتي تعي جيدًا أن بقاءها محصنة ضد أي مضايقات أو انحسار لامتيازاتها أو تطويق لإمبراطوريتها أو ملاحقات لأعضائها، مرهون ببقاء هذا النظام، ومن ثم فإن الحديث عن صدام هنا أو هناك، لا يعدو كونه أكثر من خيال يداعب العقول التي تغتر بالمعارك السطحية التي تخرج ما بين الحين والآخر.. إذًا ما الذي يحدث؟
المسألة تتلخص في رغبة كلا الطرفين – القضاة والسيسي – في فرض المزيد من السيطرة في إطار توسيع النفوذ بما يضمن ترسيخ المكانة سواء هنا أو هناك، فالمؤسسة القضائية – باسم الاستقلال – تسعى إلى التحرر من قبضة أي مسؤول حتى لو كان رئيس الدولة، إذ ترى في نفسها رمانة الميزان التي يجب أن تتمتع بكل سبل الحرية والاستقلالية بصرف النظر عن قانون أو دستور.
وفي المقابل يسعى السيسي ونظامه إلى إحكام قبضته على مؤسسات الدولة كافة بلا استثناء، بدأها بالمؤسسة العسكرية من خلال عدد من التغييرات في القيادات والمناطق، ثم انتقل لأجهزة الدولة الرقابية، مرورًا بمؤسسة الإعلام عبر تشكيل عدد من الجمعيات التي تعيد رسم الخارطة وفق ما تريده السلطة الحاكمة، كذلك السيطرة على صناعة القرار الاقتصادي عبر تشكيل مجموعة للاستثمار تحت رئاسة السيسي نفسه، وصولاً إلى مؤسسة القضاء.
أحكام مجلس الدولة الأخيرة بشأن قضية تيران وصنافير وضعت السيسي ونظامه في حرج أمام المملكة العربية السعودية من جانب وأمام الشعب من جانب آخر، ومن ثم وتجنبًا لبروز أي من الألحان التي تغرد خارج السرب ولو دون قصد، سعى الرئيس إلى إعادة تشكيل وهيكلة المؤسسات كافة – قانونيًا وإداريًا – بما يضمن له السيطرة على كل الأمور، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية القادمة والتي سيكون للقضاة دور محوري في تحديد مصيرها.