تجاوزت قوات الاحتلال الإسرائيلية كل الخطوط الحمراء في القانون الدولي والإنساني، حين وضعت المستشفيات ومراكز الإيواء الصحية في قطاع غزة أهدافًا عسكرية لها، لتداري بها فشلها الواضح في تحقيق أي تقدم على المستوى الميداني في ظل المقاومة الشرسة التي تلقن جيش المحتل يومًا تلو الآخر دروسًا مؤلمة في فنون القتال والمواجهة من النقطة صفر وما تحتها.
وفي ظل الخذلان العربي والإسلامي والارتكان لخطاب الإدانة والشجب، وصمت المجتمع الدولي، لم تجد حكومة الحرب الإسرائيلية أي رادع من التصعيد والإجرام، يقينًا منها أن الحكومات العربية لم ولن تتحرك في ظل ما تعاني منه من هشاشة وانبطاح وتشرذم.
في الأيام الأخيرة كثّف الاحتلال عدوانه على مستشفيات القطاع بأكملها: الرنتيسي والإندونيسي والقدس وشهداء الاقصى وأخيرًا مجمع الشفاء، وذلك بعد المجزرة التي ارتكبها سابقًا بحق المستشفى الأهلي المعمداني وأودت بحياة أكثر من 500 فلسطيني، معظمهم من الأطفال، لتخرج كل مشافي غزة عن الخدمة بصورة كاملة ما عدا الإندونيسي التي تقدم بعض الإسعافات الأولية للمصابين بعد تدمير معظم أقسامها.
يأتي هذا التصعيد واستهداف البنية الخدمية الصحية للقطاع بالتزامن مع تدمير ممنهج للبنية التحتية، وإخراج المرافق كافة عن الخدمة، وتحويل غزة، خاصة شمالها، إلى منطقة أشباح لا حياة فيها، لا لحجر أو شجر أو بشر.. فما أهداف الاحتلال من تركيز الاستهداف على المشافي على وجه التحديد؟
المدير العام بوزارة الصحة في غزة للعربي: الكلاب تنهش الجثث التي لم نستطع دفنها في مستشفى الشفاء والديدان تنتشر في كل مكان حولها pic.twitter.com/3LIXDxSHmS
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) November 12, 2023
مزاعم إسرائيلية وتضارب أمريكي
يزعم الاحتلال في تبريره لاستهداف المشافي أن حركة حماس تتخذ منها مقارًا لها، وأن أسفلها نقط ارتكاز أنفاق الحركة التي تستخدمها في تحركاتها تحت الأرض وتباغت بها العدو في كل المناطق.
ورغم أن معظم تلك المشافي، خاصة مجمع الشفاء الذي يدّعي الاحتلال أنه المقر الرئيسي للمقاومة، تبعد عن مناطق الاشتباك في الشمال بمسافات بعيدة، ونفي قادة المقاومة لتلك الترهات شكلًا ومضمونًا، فإن حكومة الحرب تواصل مزاعمها تلك لتبرير استهدافها وإجرامها بحق تلك المنشآت التي كانت بمثابة تجمعات الإيواء للجرحى والمصابين والمشردين بعد هدم وتدمير منازلهم.
وتتبنى واشنطن الرواية الإسرائيلية تلك رغم عدم وجود أي دليل عليها حتى الآن، حيث نقلت شبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية، عن مسؤولين أمريكيين أن الإدارة الأمريكية تتفق مع السردية الإسرائيلية بشأن استخدام حماس مستشفى الشفاء كقاعدة لها، حيث يقول أحدهما إنه ليس هناك سبب للشك في تلك الرؤية.
وفي المقابل تشير مصادر أخرى داخل الكونغرس أن واشنطن لم تتأكد بعد بشكل كامل من الادعاء الإسرائيلي، فيما نقلت الشبكة عن قياديين سابقين في الاستخبارات الأمريكية قولهم إن الولايات المتحدة تستقي معلوماتها عما يحدث في غزة من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وبالتالي ليس لديها أي مصدر آخر لتقييم تلك المعلومات واختبار مدى صحتها.
وأمام استبسال أهل شمال غزة في التمسك بأراضيهم وبيوتهم في مواجهة التحذيرات الإسرائيلية وحرب الترهيب المستخدمة ليل نهار، لم يجد الاحتلال بدًا من تدمير تلك البيوت وهدمها على أصحابها، وتدمير المرافق وقطعها وتحويل كل أحياء الشمال إلى مدن أشباح، لا كهرباء ولا ماء ولا غذاء ولا وسائل نقل واتصالات، ورغم ذلك لم يهلع الغزاويون ولم يستسلموا لتلك الضغوط.
فذهبوا للاحتماء المؤقت بالمستشفيات، مقتنعين أنها محمية وفق القانون الدولي، متناسين أن الاحتلال وبدعم الأمريكان ومعسكرهم الغربي جعلوا من الكيان المجرم دويلة فوق القانون، تمارس كل أنواع البلطجة دون محاسبة أو مسائلة.
وعليه جاء استهداف المدنيين داخل المنشآت الصحية، ليجدوا أنفسهم بين خيارين، كلاهما مأساوي، إما البقاء داخل المستشفيات وهنا الموت أقرب لهم من أنفاسهم، وإما الخروج إلى الجنوب هربًا بما تبقى من حياتهم، وحتى هذا الخيار غير مضمون في ظل القصف الذي تعرض له عشرات النازحين نحو الجزء الجنوبي على الطريق الساحلي وصلاح الدين.
ماذا يريد الاحتلال؟
ما يقرب من مليون فلسطيني يدفعهم الاحتلال بكل ما أوتي من قوة تدميرية باطشة للنزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، مغلقًا أمامهم كل سبل العيش، وغير مبال لأي مناشدات إنسانية داخلية أو إقليمية أو دولية، ضاربًا باعتبارات الحلفاء عرض الحائط، لتحقيق عدة أهداف محورية:
أولها: البحث عن انتصار وهمي
هناك ضغوط قوية تتعرض لها حكومة الحرب الإسرائيلية من الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء، وقفات وتظاهرات احتجاجية تزلزل شوارع تل أبيب وأمام منزل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للمطالبة بعمل أي شيء لإطلاق سراح الرهائن والأسرى، فأكثر من 240 أسيرًا عسكريًا ومدنيًا بأيدي حماس وفصائل المقاومة.
تلك الضغوط التي لا يجد نتنياهو ورفقاؤه من سبيل لمواجهتها في ظل الفشل في تحرير الأسرى سوى البحث عن أي انتصار وهمي يهدئ به الرأي العام الغاضب، من خلال زيادة أرقام الشهداء والمصابين والنازحين، ويحاول من خلاله تقليل وطأة الاحتقان في ظل الانتقاد الشعبي للإستراتيجية التي تتبعها حكومة الحرب ووصفها بالفاشلة.
مشاهد لانتشار دبابات الاحتلال الإسرائيلي في محيط مستشفى الشفاء شمال قطاع غزة pic.twitter.com/YFG9MKfsMI
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 12, 2023
وهناك أيضا ضغوط خارجية جراء الإجرام غير المسبوق واستهداف المدنيين والأطفال والنساء بهذا الشكل الوحشي البربري، حيث التظاهرات تهز أركان مدن أوروبا والعالم والولايات المتحدة، وهو ما يضع حكومات تلك الدول في مأزق حقيقي أمام شعوبها بسبب الدعم المطلق لانتهاكات وإجرام الكيان المحتل.
ومن ثم يسابق نتنياهو الزمن من أجل إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بحق الفلسطينيين، سواء في الأرواح أم الممتلكات، بما يمكن أن يقوي موقفه عند الجلوس على مائدة المفاوضات، أو يوظفه لإيهام الرأي العام الداخلي بتحقيق انتصار مزيف مستندًا على أرقام الضحايا التي أغلبها من الأطفال والنساء، فضلًا عن احتمالية أن تسهم تلك الجرائم الوحشية في غض الطرف قليلًا عن الخسائر التي تتكبدها قوات الاحتلال على أيدي المقاومة.
ثانيًا: تفريغ الشمال
بات من الواضح أن غلق كل منافذ الحياة في مناطق الشمال، وتحويلها إلى أرض محروقة، غير قابلة للحياة والإقامة، على الأقل في الوقت الراهن، عبر استهداف كل البنى التحتية، ووأد أي مقومات للعيش فيها، يهدف في المقام الأول إلى تفريغ مناطق الشمال من سكانها.
هذا التفريغ سيدشن مساحة كبيرة فاصلة بين سكان غزة وسكان الغلاف من المستوطنين، بما يعزز الأمن القومي لقاطني الكيبوتس، ويطمئنهم للعودة لمستوطناتهم مرة أخرى بعد نزوحهم منها هربًا من رشقات المقاومة المستمرة وحالة الرعب التي خيمت عليهم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يحاول الاحتلال من خلال تلك السياسة ترميم صورته الأمنية المشوهة التي من المتوقع أن يكون لها صداها وتداعياتها على المدى المتوسط والبعيد فيما يتعلق بتكثيف الحضور الاستيطاني في غلاف غزة، بعد الضربة المؤلمة التي تعرضت لها المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي كانت الضلع الأكبر الذي يعتمد عليه الكيان في مخطط التوسع الاستيطاني.
ومن هنا يسعى الاحتلال إلى إحداث زلزال كبير في الخريطة الديموغرافية لقطاع غزة، والعمل من أجل خلخلتها بشكل كبير، بما يفرغ مناطق الشمال من معظم سكانه، ودفعهم قهرًا إلى المغادرة والنزوح خارج الجزء الشمالي بأكمله.
ثالثًا: التهجير بطرق أخرى
تخدم إستراتيجية وأد كل أدوات الحياة في الشمال، واستهداف المشافي وأماكن الإيواء، مخطط التهجير القسري الذي يتبناه الاحتلال، فبعد رفض القاهرة مقترح تهجير سكان غزة إلى سيناء، حاول الاحتلال وحلفائه الأمريكان البحث عن بديل آخر يحقق هدف التهجير لكن بطرق ملتوية، مستغلًا الحالة البائسة التي بات عليها القطاع، ولعل هذا سر تكثيف القصف والتدمير الذي لا يتوقف خلال الأيام الأخيرة.
المقترح يدور حول فكرة تخفيف الكتلة السكانية للقطاع من خلال تقديم مغريات مادية للسفر للخارج سواء من أجل الإقامة الكاملة أم العمل، وتوفير بيئة معيشية أفضل لأسر وعائلات غزة، لا سيما سكان الشمال تحديدًا، مع تقديم تسهيلات واسعة ومرونة في منح التأشيرات وعقود العمل.
مصادر أشارت إلى أن أمريكا هي صاحبة المقترح وأنها عرضته على بعض البلدان العربية التي وافقت عليها من حيث المبدأ، والأمر الآن قيد الدراسة العاجلة لتنفيذه، في إطار الاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب.
مشاهد مؤلمة لنزوح الغزاويين للجنوب. !
بينما تُصرح أمريكا وتقول نرفض التهجير القسري للفلسطينيين من غزة الآن أو بعد الحرب
نؤمن بخيار حل الدولتين وتوفير الفرص المتساوية للإسرائيليين والفلسطينيين
نعمل على الوصول إلى سلام مستدام وسماع صوت الفلسطينيين وتلبية مطالبهم.! pic.twitter.com/KauUbKlknx— سريع الأشتعال🇩🇿 (@g5k__) November 8, 2023
خبراء القانون الدولي يصفون هذا المقترح بأنه تهجير قسري لكن بطرق أخرى، كما ذهب الخبير في النزاعات الدولية، محمد محمود مهران، الذي أشار إلى أن الالتفاف حول إستراتيجية التهجير بالطرق البديلة جاء بعد فشل التهجير المباشر الذي كان مقترحًا إما لمصر أو الأردن، محذرًا من عنصرية الاحتلال في دفع سكان غزة لمغادرة بيوتهم تحت ضغط الحصار والقصف المتكرر، داعيًا المجتمع الدولي إلى ممارسة ضغوط على دولة الاحتلال لوقف تلك السياسة التي تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها.
وهكذا يتكشف رويدًا رويدًا أن الادعاءات التي ترددها حكومة الاحتلال بشأن اتخاذ المقاومة من المشافي مرتكزات لها، ليست سوى حجة واهية لتبرير قصف المستشفيات ومراكز الإيواء لإجبار سكان الشمال على النزوح جنوبًا بما يخدم أهداف الاحتلال الأمنية والديموغرافية، لكن تبقى المقاومة الصامدة في الشمال طيلة أيام الحرب الـ37، هي الحصن الحصين وحائط الصد الأبرز لإفشال هذا المخطط.