“الصورة تبقى حيّة مهما كانت الكاميرا التي تُصور بها، أنت تُصور الأشياء كما تراها بعينك وكما تحس بها”، هكذا رد مهندس الصوت وينتر في فيلم “قصة لِشبونة” على صديقه المخرج فريدريك حينما قال له: “نُصور المدينة كما هي، وليس كما نريدها أن تكون”.
الحوار أعلاه جزء من النقاش الذي يطرحه الفيلم عن “ماهية السينما”، محاولًا تقديم إجابات عن كيفية تعامل المخرج مع الصورة والقصة وكيف يبني عملًا بصريًا متكاملًا كما يراه ويحس به.
وفي هذا الفيلم تبدأ الحكاية حينما يُسافر مهندس الصوت فيليب وينتر إلى لِشبونة للعمل مع صديقه المخرج فريدريك مونروي في فيلمه الجديد، وعندما يصل إلى بيت صديقه لا يجده، فيبدأ في البحث عنه وبنفس الوقت يشاهد المواد التي صورها فريدريك بكاميرته السينمائية القديمة للمدينة ولناسها ثم يذهب إلى تلك الأماكن لتسجيل الأصوات، حتى يتم تركيبها لاحقًا، ولكن حينما يجده بعد ثلاثة أسابيع يكتشف بأن صديقه تخلى عن تصوير فيلمه وصار مهووسًا بكاميرات الفيديو الحديثة التي تُسجل الصورة والصوت معا، ويزرعها في أماكن مختلفة من المدينة لتلتقط تفاصيلها دون أي تدخل منه، فكانت عينه تغيب عما يتم تصويره.
وطول مدة الفيلم، الذي أُنتج عام 1994 بمناسبة اختيار عاصمة البرتغال لشبونة عاصمة للثقافة الأوروبية، يقدم لنا مخرجه الألماني فيم فيندرز دروسًا سينمائية مهمة، كما يحكي لنا فيه عن التناغم بين الصوت والصورة وحضور الموسيقى وألقها في الأفلام، ويوجه تحية إلى رُواد السينما ومنهم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني والمخرج والممثل الأمريكي شارلي شابلن والمخرج والممثل الفرنسي جاك تاتي وغيرهم.
أغنية ألفاما (من فيلم قصة لشبونة) لفيلم فيندرز
هذا الفيلم بتفاصيله قد يساعد في الوقوف على جانب مهم في نقاش بات ينتشر مؤخرًا بخصوص السينما بين التقنية والفكر (إن صح التعبير) أو السينما بين الفن والتجارة، خصوصًا في ظل الإعجاب الطاغي بما تقدمه “السينما الهوليوودية” والتي انحاز لها كثيرون وحتى ممن يريدون منا أن نصنع سينما واقعية تُعبر عنا وتنقل حكاياتنا إلى العالم.
فقد صارت هوليوود وكأنها المنارة التي علينا أن نتبع الضوء المنبعث منها لنصل إلى غايتنا، وازدحمت منصات التواصل الاجتماعي بالعديد من النصائح التي يوجهها الكثير من المخرجين المُدربين إلى مُريديهم ومُعجيهم عن التقنيات الحديثة دون الوقوف على ماهية السينما والغاية منها، وبلا تدبر فيما تقدمه من قصص وأفكار ورؤى إخراجية، ودون فهم معاني الصور وفلسفتها، بل ويُصبح السيناريو على الهامش، فيتعامل البعض معه على أنه يمكن تعلمه بين ليلة وضحاها أو يُكتب بيوم أو يومين، وكأنه “الأسهل” في عالم صناعة الأفلام.
الكثير من الممثلين المحترفين لا يقومون بأدوارهم بمجرد قراءة السيناريو وإنما يعيشون أدوارهم ومنهم من يعيشها لشهور طويلة حتى يتقمص الشخصية التي يؤدي دورها
ويبدو اختيار الممثلين، في الفيلم الروائي، أمرًا عشوائيًا وغير مدروس، دون الأخذ بعين الاعتبار بأن التمثيل فنٌ قائم بذاته، بل وأن الكثير من الممثلين المحترفين لا يقومون بأدوارهم بمجرد قراءة السيناريو وإنما يعيشون أدوارهم ومنهم من يعيشها لشهور طويلة حتى يتقمص الشخصية التي يؤدي دورها، وهناك الكثير من المخرجين لهم رؤيتهم الخاصة في التعامل مع الممثلين بل وفي كيفية استخراج أفضل ما لديهم من قدرات، وإن تمت الاستعانة بأُناس يمثلون للمرة الأولى، فيكون ذلك لأسباب وجيهة، ويخضعون لتدريبات مكثفة ومضنية للوصول إلى تقمص الدور بالشكل المطلوب.
ترويج فيلم “سارق الدراجة” 1948 للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا، وقد استعان فيه المخرج بممثلين غير محترفين، حتى أن بطل الفيلم كان يمُثل للمرة الأولى، وهو بالأصل عامل في مصنع
ومع الاهتمام المبالغ فيه بأفلام هوليوود والتركيز على التقنيات فيها، يتم تجاهل أن معظمها موظف لكسب المال من الجماهير التي تنجذب لها ولإيقاعها السريع، ومن باب (الجمهور عاوز كدة) يتم الاستشهاد بها، من قبل هؤلاء المدربين، وكأنها السينما الوحيدة في هذا العالم، حتى وصل الأمر أحيانًا إلى التماهي مع أهداف السينما التجارية والغالب في أفلامها تقديم المتعة والترفيه من خلال مؤثرات عالية التقنية وإبهار بصري يطغى أحيانًا كثيرة على القصة نفسها، الأمر الذي يقلل من فهم السينما ورسالتها بالشكل الصحيح.
فأفلام هوليوود ذات التقنيات الضخمة والإمكانات الإنتاجية العالية ستكون بعيدة عن واقعنا العربي “السينمائي” إذا ما تم التركيز فيها على صناعة المؤثرات بل وحتى كيفية التصوير، وإن كُنا نأمل بالوصول يومًا ما إلى مثل هذه التقنيات العالية وتوظيفها بالطريقة الصحيحة.
لو أردنا الاستعانة بفيلم للحديث عن التصوير وكيفيته (من الناحية التقنية) فالأهم هو التساؤل: لماذا تم استخدام التصوير/ الإضاءة بطريقة معينة؟ وما الدلالات الفنية والفكرية، ومدى ارتباطها بتفاصيل القصة التي يحكيها الفيلم؟
ولو أردنا الاستعانة بفيلم للحديث عن التصوير وكيفيته (من الناحية التقنية) فالأهم هو التساؤل: لماذا تم استخدام التصوير/ الإضاءة بطريقة معينة؟ وما الدلالات الفنية والفكرية، ومدى ارتباطها بتفاصيل القصة التي يحكيها الفيلم؟
ويمكن مثلاً الاستشهاد بأفلام المخرج الإيراني أصغر فرهادي (الحائز على جائزة الأوسكار مرتين) والذي يقدم لنا أيضًا درسًا سينمائيًا قَيمًا حينما يقول: “ما أتوقعه من المُصور السينمائي هو ألا يُشعرنا بوجود كاميرا أو إضاءة صناعية في الفيلم، أليس هذا جوهر السينما! أن نقول إن هذه هي الحياة وليست مجرد فيلم”.
ترايلر فيلم “عن إيلي” لأصغر فرهادي
وعند الحديث عن السيناريو و/ أو التدرب على كتابته، لا يوجد ما يمنع من الاستعانة بأفلام عربية مثل فيلم “أحلام المدينة” 1984 أو “الليل”1992 للمخرج السوري محمد ملص، والذي يُعتبر رائد سينما المؤلف في سوريا، والذي أخرج أفلامًا روائية ووثائقية حققت شهرة عالمية، وحازت على جوائز في مهرجانات مثل برلين وفالنسيا وقرطاج.
ويُعرّف ملص سينما المؤلف في إحدى مقابلاته بالقول: “سينما المؤلف لا تقوم على أن يكتب المخرج السيناريو، سينما المؤلف محاولة في الكتابة بالكاميرا، الكتابة بالكاميرا تعني الكتابة بالعين والروح والوجدان، قد يشاركك أحد ما في كتابة مشروعك ولكن حين يعبّر المشروع عن الواقع وإحساسك ورؤيتك أنت لما تريد التعبير عنه يكون ذلك سينما المؤلف”.
فيلم “الليل” لمحمد ملص
هذا يقودنا إلى ضرورة إغناء المحتوى السينمائي العربي من خلال أفلام عربية والتعلم من مخرجين عرب، بدلاً من البكاء دومًا والتذرع بأن السينما العربية فقيرة، وبدلاً من أن يتم حَشو المحتوى فقط بترجمات المواضيع عن الأفلام الهوليودية وكيف صُنعت، إذ يبدو بأن الأمر متعلق بالاستسهال خصوصًا في ظل توفر المعلومات كافة عن هذه الأفلام وتقنياتها على الكثير من المواقع الإلكترونية ذات العلاقة باللغة الإنجليزية.
فلا يُكلف بعض مدربي صناعة الأفلام أنفسهم عناء البحث قليلاً عن سينمانا العربية ومشاهدتها وتحليلها ومتابعة ما يُكتب عنها، والتي لا أزعم بأنها غنية إذا ما قورنت بغيرها – كمًّا وتقنية – ولكن فيها من التجارب الفنية والنوعية ما يستحق التوثيق وما يستحق التعلم منه.
ومؤخرًا كان هناك فيلم “علي معزة وإبراهيم”، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج المصري شريف البنداري، والذي أشاد به العديد من النقاد واعتبره بعضهم تجربة سينمائية مصرية خارجة عن السائد والمألوف، وفاز فيه الممثل علي صبحي والذي كان يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى بجائزة أفضل ممثل في مهرجان دبي السينمائي 2016، وهو فيلم جدير بالمشاهدة والتحليل.
ترايلر فيلم “علي معزة وإبراهيم” لشريف البنداري
هناك من السينمات في العالم ما يوصل المعلومة أكثر من الأفلام الهوليودية، وتقنياتها وفنياتها جديرة بالتعلم، وتُوسع المدارك وتزيد من فهم معنى السينما والغاية منها، ويمكن الاستعانة بها وهي أقرب إلى واقعنا من غيرها، والاستسهال والتعامل مع نوع سينمائي واحد من الأفلام لن يفيد كثيرًا في تعلم السينما.
في “قصة لشبونة” ينجح مهندس الصوت وينتر في إقناع المخرج فريدريك بأنه ليس مهمًا نوع الكاميرا التي يصور بها أفلامه، وإلا لما ظلت الكثير من المشاهد والأفلام في بدايات السينما خالدة حتى يومنا هذا، وهذا لا يعني تجاهل التطور التقني وإنما عدم الانقياد والاستسلام له وكأن تقنيات “الكاميرا والمونتاج” – دون مراعاة توظيفها فنيًا وفكريًا لصالح قصة وسيناريو الفيلم – هي السينما كلها.
السينما (صناعة الأفلام بشقيها: الروائي والوثائقي) أوسع بكثير من فكرة أن تحمل كاميرا وتُدرب عينك على التقاط الصور، وتتعلم المونتاج، وإنما هي فن وفكر يستوجبان أيضًا مواكبة كل التغيرات التي تطال معظم التحولات الحياتية على مختلف الأصعدة
واليوم مع التطور التقني الكبير في مجال التصوير، علينا الأخذ بعين الاعتبار أن “الإبهار البصري” بحد ذاته صار هدفًا لدى الكثير من المخرجين على حساب القصة والموضوع وعلى حساب التوثيق والتسجيل، بل وصرنا نشاهد واقعًا مزيفًا وكاذبًا، حتى في الأفلام الوثائقية، يخضع لمعايير الكاميرا وعدساتها، أي يخضع لمعايير الآلة نفسها، الأمر الذي يدفع المشاهد إلى الاهتمام بجمال الصورة الذي خلقته الكاميرا ومهما كان الواقع الذي تنقله مليئًا بالبؤس والشقاء.
السينما (صناعة الأفلام بشقيها: الروائي والوثائقي) أوسع بكثير من فكرة أن تحمل كاميرا وتُدرب عينك على التقاط الصور، وتتعلم المونتاج، وإنما هي فن وفكر يستوجبان أيضًا مواكبة كل التغيرات التي تطال معظم التحولات الحياتية على مختلف الأصعدة، وبالتالي هذا يتطلب ضرورة التطوير (التحديث)، حتى على عناصر السرد واللغة البصرية وكيفية الأداء، ومتابعة كل جديد في السينما العربية والعالمية ما أمكن.
هناك الكثير من المخرجين على مر التاريخ ممن يمكن الاستفادة ليس فقط من أفلامهم وإنما من رؤاهم وفلسفتهم عن السينما وأهدافها وعلاقتها بالواقع مثل المخرج السوفييتي أندريه تاركوفسكي والسويدي إنغمار بيرغمان والفرنسي جان لوك غودار ومايكل مور
يقول المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي: “السينما فن مبني على علاقة الفكر بالعين، بالكاميرا، وبما أمام الكاميرا أو بالعكس، هل ما أراه هو واقع من الحياة اليومية، أم واقع ممسرح يمثل أمام الكاميرا؟ ما الواقع؟ هل العالم المحيط بي، أو عالمي الداخلي الذي يلقي نظرة ذاتية عليه؟ ما العلاقة الديناميكية والجدلية بين هذين العالمين، الخارجي والذاتي؟”.
وهناك الكثير من المخرجين على مر التاريخ ممن يمكن الاستفادة ليس فقط من أفلامهم وإنما من رؤاهم وفلسفتهم عن السينما وأهدافها وعلاقتها بالواقع مثل المخرج السوفييتي أندريه تاركوفسكي والسويدي إنغمار بيرغمان والفرنسي جان لوك غودار ومايكل مور، وعربيًا لدينا العديد من الأسماء المهمة مثل المخرج المصري توفيق صالح والسوري عمر أميرلاي.
ترايلر فيلم “ستالكر” لأندريه تاركوفسكي (الإعلان الترويجي هو للنسخة التي تم ترميمها مؤخرًا)
هل يُمكن التعلم من الأفلام التجارية أو الهوليوودية؟
لا بد من القول بأن الأفلام التي تجذب المشاهدين ليست بالضرورة إبداعية وذات قيمة فنية، والأفلام التي يظنها البعض معقدة ليست بالضرورة أفلامًا عصيّة على الفهم، وإنما أظن بأن الكثيرين منا قد اعتادوا الأفلام التجارية والاستهلاكية، أي السهل منها. ومن حق المخرج أن يعبر في أفلامه عما يحسه ويعيشه، والقيمة هنا تُكتسب من مدى أخلاقية التعبير وجمالية الرؤية الفنية.
الأفلام الأكثر قيمة هي تلك التي لا تصل إلى الجمهور لأسباب متعددة، ومثل هذه الأفلام يُبحث عنها، أي تُؤتى، فهي لن تأتيك إلى شاشات السينما التجارية
وأظن بأن الأفلام الأكثر قيمة هي تلك التي لا تصل إلى الجمهور لأسباب متعددة، ومثل هذه الأفلام يُبحث عنها، أي تُؤتى، فهي لن تأتيك إلى شاشات السينما التجارية، لأنها لم تُصنع لهذه الغاية فقط، أي الكسب المادي.
هذا لا يعني بالضرورة أن كل الأفلام التي تلاقي الإقبال الجماهيري الكبير وتعرض في الصالات التجارية وتحقق الأرباح المادية أفلام استهلاكية وليست بذات قيمة، ولكن علينا ألا نَحصُر مشاهداتنا في صالات السينما التجارية، فأفلام مثل “قصة لشبونة” وفيها درس سينمائي وكذلك في طريقة إخراجه ومعالجته، وغيرها الكثير من الأفلام لن تجدها في صالاتنا ولا على شاشات التلفاز بسهولة، وكذلك البحث عنها ومشاهدتها ليس أمرًا بالغ الصعوبة.
فيلم “طوفان في بلاد البعث” لعمر أميرلاي
يقول الناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم: “لا أكتب عن السينما التجارية إطلاقًا، أشاهدها من أجل “البوب كورن” و”الناتشو”، ولم تستطع ابنتي جرّي إلى مشاهدة فيلم رعب أبدًا، لا أهتم بالنجوم ولا النجمات ولا بأفلام الأكشن والحركة والإثارة والكاراتيه والخيال العلمي، عندما تكف السينما عن قول ما يهمني إنسانيًا ووطنيًا وقوميًا، تنتهي”.