“من يوقف الزمان، فهذا دمي الذي ينزف لدقائق وتلك روح رفاقي التي تحلق، لا عقارب الساعة” – وليد دقة
يدخل إضراب الكرامة في السجون “الإسرائيلية” أسبوعه الرابع على التوالي، وما زال الأسرى الفلسطينيون يواجهون، بمفردهم، غطرسة السجّان وصمت العالم وضعف التفاعل الشعبي والإعلامي، في عتمة الزنازين، يغدو الإضراب عن الطعام مركبًا آخر يضاف إلى تجربة الأسر المربكة أساسًا بكل تفاصيلها اليومية.
هذه ليست المرة الأولى التي تستنفد فيها الحركة الأسيرة كل الخطوات النضالية للاستجابة لمطالبهم الشرعية والإنسانية والتي أبرزها إنهاء الاعتقال الإداري، إنهاء سياسة الإهمال الطبي، السماح بزيارات الأهل، إذ سبق وأن خاضت معركة الأمعاء الخاوية في مناسبات عديدة منذ عام 1968 (تاريخ أول إضراب جماعي عن الطعام في سجن نابلس).
لقد مرت الحركة الأسيرة منذ ذلك الحين بمنعطفات كثيرة، انتصرت حينًا وتراجعت حينًا آخر بفعل حدة القمع “الإسرائيلي” ولم تكن يومًا بمعزل عما يعيشه الشارع الفلسطيني، بل كان ما يحدث بين جدران السجن بمثابة مجتمع مصغر بصموده وتضامنه ووقوفه في وجه الاحتلال، وأيضًا عرضة في المقابل لكل ما أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية من أمراض ونكبات.
في إحدى رسائله يعّرف وليد دقة نفسه كإنسان لم يتمكن السجّان من انتزاع إنسانيته
في أواخر تموز عام 2009م داخل زنزانة عزله في سجن جلبوع، تلك القلعة الحصينة الرمادية التي أُقيمت من الأسمنت المسلح والفولاذ لتكون أشد السجون حراسة، خط الأسير وليد نمر دقة دراسة بعنوان “صهر الوعي..أو في إعادة تعريف التعذيب”، من أهم ما كتب في تحليل ما آلت إليه الحركة الأسيرة وكيف استطاع الاحتلال الإسرائيلي أن يحوّل القمع والتعذيب إلى “مركب وحدثوي” يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، مخفيًا ومتواريًا يسهل تعتيمه وتضليله، إنه قمع غير مرئي، سائل ومتحول يستهدف الأسرى في جوهرهم الروحي لا المادي.
وليد دقة.. القادم من “الزمن الموازي”
“سأظل أحلم رغم مرارة الواقع، وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها، هم ينبشون قبور الأجداد بحثًا عن أصالة موهومة، ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد، لا شك آتٍ”.- وليد دقة
في إحدى رسائله يعّرف وليد دقة نفسه كإنسان لم يتمكن السجّان من انتزاع إنسانيته، ما زال قابضًا عليها كالجمر في وجه القبح والخشونة، وهو الذي قضى أكثر من 30 عامًا من عمره في الأسر، ولد دقة عام 1961 في “باقة الغربية” في المثلث الجنوبي بالداخل الفلسطيني.
انقطع عن الدراسة ليلتحق بالمقاومة الشعبية للاحتلال الإسرائيلي قبل أن يُعتقل ويحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة بعد إدانته ورفاقه إبراهيم ورشدي أبو مخ وإبراهيم بيادسة بالعضوية في خلية نفذت عملية خطف وقتل الجندي الإسرائيلي موشي تمام في العام 1984، وهو واحد من ضمن 30 أسيرًا اعتُقلوا قبل اتفاقية أوسلو وترفض سلطات الاحتلال الإفراج عنهم في صفقات التبادل، كما ترفض أي حديث عن إدراج أسرى الداخل الفلسطيني ضمن هذه الصفقات بدعوى أنهم من حملة الجنسية “الإسرائيلية”.
لم يكن السجن بالنسبة لوليد دقة إلا ساحة أخرى من ساحات النضال، إذ سرعان ما أكمل دراسته الجامعية في جامعة “تل أبيب” المفتوحة ليحصل على الماجستير في العلوم السياسية وكتب الكثير من المقالات والدراسات والرسائل، كما قاد العديد من معارك الأسرى أبرزها انتزاع الأسرى حقهم بالتعلم داخل السجن.
لم يكن ذلك نصر وليد الوحيد على السجّان “الإسرائيلي” الذي حرمه الحرية والحياة، ففي عام 1999 تمكن، بإذن استثنائي، من عقد قرانه على زوجته سناء في السجن بحضور تسعة من أصدقائه الأسرى وعائلته التي عانقته للمرة الأولى والأخيرة منذ اعتقاله.
اكتسب وليد دقة طيلة هذه السنوات خبرة وتجربة على قدر من الثراء رغم قسوتها، وعقلًا نقديًا قدم تأملات سياسية عن جملة من القضايا الفلسطينية وصاغ رؤيته لتجربة الأسر في كتاب “صهر الوعي” الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات عام 2010
راوده حلم “ميلاد” ابنه الذي يكتب إليه ولم يولد بعد لأن جنديًا “إسرائيليًا” يحول بينه بين حقه الطبيعي ولأن “دولة نووية تحارب طفلًا فتحسبه خطرًا أمنيًا ويغدو حاضرًا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية”، حيث رفضت مصلحة السجون السماح له بإنجاب الأطفال بحجة أنه مصنف أمنيًا وأن لقاءه بزوجته عن قرب يشكّل ضررًا على أمن الدولة.
اكتسب وليد دقة طيلة هذه السنوات خبرة وتجربة على قدر من الثراء رغم قسوتها، وعقلًا نقديًا قدم تأملات سياسية عن جملة من القضايا الفلسطينية وصاغ رؤيته لتجربة الأسر في كتاب “صهر الوعي” الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات عام 2010 بتقديم صديقه المفكر عزمي بشارة.
صهر الوعي
“اطمئن، عليك أن تكون واثقًا بأنني سأجعلهم يرفعون “العلم الإسرائيلي” وينشدون التكفا”، يعقوب حانون، مدير السجون السابق في إحدى ساحات سجن جلبوع موجهًا حديثه لوزير الأمن الداخلي جدعون عزرا عام 2006 على مسمع من الأسرى.
يُقّر وليد دقة بداية بصعوبة توصيف حال الأسير تحليلًا وكتابةً، فهو يعيش حالة من العجز واللايقين والتشتت بين كونه الذات والموضوع، المشهد والمشاهد، محاصر بمحدودية اللغة وقسوة العالم الخارجي ومُطالب في الآن ذاته برفع صوته عاليًا حتى يخترق صمت منظمات حقوق الإنسان ومكاتب السلطة وشاشات التليفزيون.
وما زاد الأمر تعقيدًا تحول أشكال القمع من اعتداءات جسدية ومادية مباشرة وتقليدية يسهل رصدها وفهمها إلى اعتداء “حداثوي” ناعم وسلس معزز بترسانة رقمية مجهزة بأحدث التقنيات ويعتمد على أحدث نظريات الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات هدفها ليس القضاء على الأسير بل إعادة صهره ضمن الرؤية “الإسرائيلية”.
إنها وعلى حد وصف أحد عرّابي القتل الصهيوني موشيه يعلون، عملية كي الوعي الفلسطيني أو الحسم الوجداني داخل السجن كما خارجه، (يعرف مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات محسن صالح، مصطلح “كي الوعي” بأنه تشكيل قناعات وسياسات جديدة تنحرف عن الهدف الأصلي وتقزّمه، إلى أن تكون في نهاية المطاف متفقة أو غير متعارضة مع شروط العدو، أو تحت السقف الذي يقبله).
تختلف هنا تجربة الأسر عن تلك التي قرأنا عنها في أدبيات السجون، من “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، إلى “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون، مرورًا بـ”القوقعة” لمصطفى خليفة وعن الصور التي كانت تأتينا من معتقلات “غوانتانامو” و”أبو غريب”، نحن هنا إزاء شكل حديث أصبحت فيه هذه القراءات غير قادرة على معالجته ولم يعد الخطاب الحماسي كافيًا لفهمه.
إن حالة الفراغ بين حقيقة الواقع ونجاعة معالجته ليست مقتصرة على السجن فحسب، بل هي حالة فلسطينية وعربية عامة، فالسجن ليس إلا نموذجًا مصغرًا للمجتمع الفلسطيني ما بعد أوسلو المشؤومة.
أرست” إسرائيل” نظامًا يتجاوز فكرة “الفصل العنصري” أو “الاحتلال الاستيطاني”، كانت أقرب للإبادة السياسية، حيث يتدخل في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين وفي توجهات مجتمع بأكمله باستعمال أحدث الوسائل
وعليه فهو أيضًا في مرمى من عملية صهر لوعيه لأن المؤسسة “الإسرائيلية”، والكلام لوليد دقة، أدركت أن المشكلة ليست مع القيادة أو المفاوض الفلسطيني بل مع الشعب الذي يرفض الاستسلام ويتمسك بحقه وبالمقاومة من أجله، وبالتالي فإن أول خطوة قام بها الاحتلال في هذا المسار هو ضرب فكرة المقاومة وجعلها مكلفة ماديًا من خلال التدمير والهدم والملاحقات، ومعنويًا من خلال ضرب ما أسماه دقة “البنية التحتية” وهي مقولة تجسد مجموعة القيم الجامعة لفكرة الشعب الواحد في الحياة اليومية كما تجلى خاصة إبان الانتفاضة الأولى.
لقد أرست “إسرائيل” نظامًا يتجاوز فكرة “الفصل العنصري” أو “الاحتلال الاستيطاني”، بل أقرب للإبادة السياسية، حيث يتدخل في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين وفي توجهات مجتمع بأكمله باستعمال أحدث الوسائل.
تحت الصدمة
يصدّر وليد دقة قراءته لواقع الأسر، بأدوات تحليلية ونظرية: أولًا مما كتبه ميشال فوكو عن “مشتمل بينتام” Panoptic وهو مبنى دائري يستطيع حارس واحد أن يراقب عددًا كبيرًا من السجناء دون أن يتمكنوا من مشاهدته وهو يتيح تفادي الأسرى ككتل واحدة ويعزز من عزلهم، كما أنه وسيلة لخلق الرقابة الذاتية والبقاء في حالة يقظة تامة لأن “الأخ الأكبر” يراقبهم ولكنهم لا يرونه.
تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية مع الطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها
ثانيًا من كتاب نعومي كلاين عن “عقيدة الصدمة” وهي مفهوم ظهر في الخمسينيات من القرن العشرين في مجال الطب النفسي، فقد تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية مع الطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها.
وهذا بالضبط ما شكله فشل الإضراب عن الطعام عام 2004 الذي دفعت إليه “إسرائيل” الأسرى الفلسطينيين من خلال إجراءات مستفزة ووحشية أبرزها تعيين رجل عنصري من أصدقاء شارون حينها على رأس مصلحة السجون وتعمد التفتيش العاري وتركيب الزجاج العازل في غرف الزيارات.
كان تلك الصدمة استكمالاً – أو بالتوازي – مع أخرى تحدث خارجًا من خلال عمليات القتل والقمع والتخريب بما يسهل عملية غسل الدماغ وغرس قيم جديدة تتوافق مع سياسة الاحتلال فتتحول “الثورة” إلى “سلطة” و”النضال” إلى “سيادة القانون” و”المقاومة” بمنع “فوضى السلاح”.
الفردانية مقابل التضامن الجماعي
“أنت لست مستهدفًا ككائن سياسي بالدرجة الأولى، وأنت لست مستهدفًا ككائن ديني أو كائن استهلاكي تمنع عنه ملذات الحياة المادية، قد تتبنى أي قناعة سياسية تريد ويمكنك أن تمارس شعائرك الدينية، وقد يتوفر لك الكثير من الاحتياجات الاستهلاكية، لكن يبقى المستهدف بالدرجة الأولى الكائن الاجتماعي والإنسان فيك”.
استغلت “إسرائيل” حالة الصدمة التي رافقت ما بعد إضراب 2004 لتواصل في منهج صهر الوعي، حيث قامت بتعميق الفصل بين الأسرى داخل القسم الواحد وفقًا للتقسيمات والمعازل التي أقامتها في الأراضي المحتلة (أسرى جنين، أسرى نابلس، أسرى 48، إلخ)، كما استهدف كل الروابط السياسية والنضالية بإلغاء لجنة الحوار وإنزال أقصى العقوبات بالأسرى الذين يخوضون خطوات نضالية ومنع أي مظهر جماعي، كان الهدف تحويل الأسير إلى كائن استهلاكي منشغل بالهمّ المطلبي الفرداني، مبتعدًا عن سرديات النضال والانتماء والقيمة والجماعة.
تخلص الدراسة إلى أن الهدف ليس اللوم أو العتاب، بل بالعكس التأكيد على حجم الضغوطات التي يتعرض لها الأسرى بأساليب حديثة من طرف الاحتلال الإسرائيلي والخروج من وضع كهذا يتطلب التفاف القوى السياسية والمؤسسات الحقوقية حول نضالاتهم
لا يخفي وليد دقة تأثره بعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومن، اليهودي الذي درّس في “إسرائيل” بالمناسبة وكان له موقف نقدي منها لاستغلالها الهولوكوست لتسويق كذبها، فهو يعتبر جوهر الحداثة السائلة السيطرة على الزمان وهذا ما يعيشه الأسرى الذين لا يملكون زمنهم وفي أحسن الأحوال يعيشون في “الزمن الموازي” بإحداثياته المختلفة عن الزمن العادي، إنه زمن “اللايقين” والخوف والقلق الدائم والخضوع بالقوة لسلطة السجان الذي يتحكم حتى في عناوين الكتب التي تدخل المعتقلات.
تخلص الدراسة إلى أن الهدف ليس اللوم أو العتاب، بل بالعكس التأكيد على حجم الضغوطات التي يتعرض لها الأسرى بأساليب حديثة من طرف الاحتلال الإسرائيلي والخروج من وضع كهذا يتطلب التفاف القوى السياسية والمؤسسات الحقوقية حول نضالاتهم من خلال الوعي بطبيعة المعركة وليس أدل على ذلك من إضراب الأسرى الأخير الذي انطلق يوم 17 من نيسان ليؤكد أن الصدمة ليست قدرًا مطلقًا وأن أمنية مدير السجون السابق تتكسركل يوم على عتبة إرادة الأسرى.