ترجمة حفصة جودة
قبل نحو قرن في نيكاراغو، رصد جنود البحرية الأمريكية في طائرة مروحية مسلحة عددًا من المدنيين يجزون العشب ويشذبون الأشجار من بعيد، فأطلقوا النار عليهم اقتناعًا منهم أنهم يقومون بعمل شنيع، ولم تكلف الولايات المتحدة نفسها عناء إحصاء عدد الجرحى والموتى.
بعد 4 عقود في فيتنام، وبينما كانت القوات الأمريكية تحلق فوق مجموعة من الحطابين، شعر الجنود بالقلق عندما نظر الرجال والنساء والأطفال إلى أعلى، فأطلقوا عليهم الصواريخ والنيران، وقتلوا 8 من بين 9 مدنيين كانوا بالأسفل.
وفي عام 2021 أمعن الأمريكيون النظر لعدة ساعات في رجل يقود سيارته وسط العاصمة الأفغانية كابول وأقنعوا أنفسهم أنه إرهابي، فأطلقوا صاروخًا عليه، قتله وقتل معه 9 مدنيين آخرين بينهم 7 أطفال.
في كل هذه الأمثلة، كشف الأمريكيون عن علامات التحيز التأكيدي الذي يسعى فيه الناس إلى الحصول على معلومات تعزز معتقداتهم السابقة، ساهم ذلك العيب نفسه في حادثة الطائرة المسيرة عام 2018 في الصومال التي قتلت على الأقل 3 وربما 5 مدنيين، من بينهم لولو ضاهر محمد – 22 عامًا – وابنتها ذات الأربعة أعوام مريم شيلو.
خلال القرن الماضي، أظهرت القوات الأمريكية استخفافًا مستمرًا بحياة المدنيين، فقد اعتقدت مرارًا وتكرارًا أن المدنيين هم الأعداء وفشلت في التحقيق في مزاعم إيذاء المدنيين، واعتبرت أن هذه الخسائر مؤسفة لكن لا يمكن تجنبها، كما فشلت في منع تكرار ذلك أو حتى محاسبة قواتها.
هذه الممارسات المستمرة تمثل مفارقة صارخة مع الحملة الحكومية العامة للترويج لحروبها كفعل حميد، ولحملاتها الجوية بأنها دقيقة للغاية، واهتمامها البالغ بالمدنيين، وأن موت الأبرياء حالات شاذة مأساوية.
في اليابان، أغارت أمريكا على 67 مدينة وأحرقت مساحة قدرها 180 ميلًا مربعًا وقتلت أكثر من 600 ألف مدني وشردت نحو 8.5 مليون شخص
هذه الحملات عملت بشكل أساسي على إخفاء الخسائر الحقيقية للطريقة الأمريكية في الحرب، من حروب الموز في عشرينيات القرن الـ20 إلى الحروب الأبدية بعد قرن من ذلك.
انقلاب مذهل
قبل الحرب العالمية الثانية، أثار التوجه المتزايد نحو التفجيرات الإرهابية في الصراعات بالصين وإثيوبيا وإسبانيا غضب الأمريكيين، وفي عام 1937 قال الرئيس فرانكلين روزفيلت إن المدنيين بكل أسف ومن بينهم عدد كبير من النساء والأطفال يُقتلون بلا رحمة في تلك التفجيرات دون أي تحذير أو تبرير.
ومع ذلك، بعد فترة قصيرة، احتضن الجيش الأمريكي سياسات تضع المدنيين في خطر كبير، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، تسبب قصف بريطاني على مدينة دريسدن الألمانية في عاصفة نارية اجتاحت المدينة خنقت الناس وأحرقتهم أحياءً.
أعقبت الموجة البريطانية الثانية مئات القنابل الأمريكية، ما تسبب في حرق ما بين 25 إلى 35 ألف شخص، عند مواجهة رئيس القوات الجوية الأمريكية بدعاوى التفجيرات الإرهابية بررّ ما حدث بأن الحرب يجب أن تكون مدمرة وغير إنسانية نوعًا ما ووحشية، في تلك الحرب قُتل ما يقرب من 600 ألف مدني ألماني بسبب الغارات الجوية.
في اليابان، أغارت أمريكا على 67 مدينة وأحرقت مساحة قدرها 180 ميلًا مربعًا وقتلت أكثر من 600 ألف مدني وشردت نحو 8.5 مليون شخص، هذا العدد الضخم من القتلى والدمار دفع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري ستيمسون إلى القلق بأن أمريكا قد تكتسب سمعة بالتفوق على هتلر في الفظائع.
مع ذلك، وافق ستيمسون على إلقاء قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما قتلت 140 ألف شخص أغلبهم من المدنيين، وأخرى على مدينة ناجازاكي قتلت ما يقرب من 70 ألف شخص، ولم تعوض أمريكا مطلقًا عائلات الضحايا أو الناجين من تلك الهجمات.
في الحرب بكوريا بعد فترة ليست بالطويلة، أعلن الجنرال دوغلاس ماك آرثر أنه سيدمر كل مدينة وقرية في الشمال، وهذا ما فعله حقًا، كما تفاخر قائد السلاح الجوي الجنرال كورتيس ليماي بعد ذلك بأن أمريكا قتلت أكثر من مليون مدني كوري وأخرجت الملايين من منازلهم.
لكن الذخائر التي أُلقيت على كوريا تعد قليلة مقارنة بالـ30 مليار رطل من الذخيرة التي ألقتها أمريكا على جنوب شرق آسيا خلال الستينيات والسبعينيات، وقبل سنوات من انتهاء الحرب كانت فيتنام الجنوبية ممتلئة بالفعل بنحو 21 مليون حفرة ناجمة عن التفجيرات، بعضها وصل عمقه لأكثر من 20 قدمًا.
وفي كمبوديا المجاورة، قتلت الهجمات الأمريكية بين عامي 1969 و1973 نحو 150 ألف مدني، كما ضربت أمريكا دولة لاوس الصغيرة بأكثر من مليوني طن من الذخيرة لتصبح الدولة الأكثر تعرضًا للقصف في التاريخ (مقارنة بمساحتها).
هذه العناصر المميزة للحرب الجوية الأمريكية المدمرة يتردد صداها في الوقت الحاليّ، ففي الأسابيع الأخيرة برر المسؤولون الإسرائيليون هجومهم على غزة بالتنويه إلى الطرق التي استخدمتها أمريكا وحلفاؤها ضد ألمانيا ودول المحور في أثناء الحرب العالمية الثانية.
احتضنت “إسرائيل” كذلك أسلوب “مناطق حرة لإطلاق النار” في غزة، الذي استخدمته أمريكا لفتح مساحات شاسعة من فيتنام الجنوبية أمام الهجمات المطلقة، ما أسفر عن قتل عدد لا يحصى من المدنيين.
لا نملك جميع المعلومات
قدم محلل للضربات الجوية – الذي يشاهد البث المباشر للطائرات المسيرة ويساعد في اتخاذ قرارات الضربات الجوية – رؤية ثاقبة للحرب الجوية الأمريكية في الصومال.
فقال إنه بينما تشاهد أمريكا أهدافها من السماء، يجب أن تتحقق علامات معينة قبل إطلاق الضربة مثل غياب المدنيين أو وجود هدف محتمل، وأضاف “عندما كنت في أفغانستان كان علينا أن نحصل على 5 علامات قبل إطلاق الضربة، أما في إفريقيا خُفض العدد بشكل كبير، لم أفهم حقًا ما المسموح وما الممنوع في الصومال، فقد بدا الوضع محيرًا، وفي كثير من الأحيان لم تكن لدينا المعلومات اللازمة قبل توجيه الضربة”.
شنت القوات الأمريكية أكثر من 91 ألف غارة جوية في 7 مناطق صراع كبرى – أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن – قتلت فيهم ما يقرب من 48308 مدنيين
عندما حسب المحلل عدد المدنيين الذين يعلم أن القوات الأمريكية قتلتهم وقارنهم بالأرقام المعلنة، علق قائلًا: “هذه الأرقام يجب أن تُجمع معًا”.
يتذكر المحلل مرة أن القائد الذي كان يعمل معه ضغط عليه لتوجيه ضربة جوية يعلم بالتأكيد أنها ستلحق ضررًا بالمدنيين، فقد رفض وصف الأشخاص الذين رآهم بأنهم ذكور بالغون، الوصف الذي كان سيسمح بتوجيه الضربة، ما أجبرهم على القيام بعملية برية ضد بعض أفراد جماعة الشباب وإنقاذ بعض المدنيين وليس جميعهم.
يقول المحلل: “نعلم أننا قتلنا فردين من جماعة الشباب، لكننا نعلم أيضًا أننا قتلنا مدنيين، ولم يحدث أي شيء بخصوص الأمر مطلقًا، كنت مصدومًا من ذلك، كنت أعتقد أننا سنخضع للتحقيق، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن”.
خلال الـ20 سنة الأولى من الحرب على الإرهاب، شنت القوات الأمريكية أكثر من 91 ألف غارة جوية في 7 مناطق صراع كبرى – أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن – قتلت فيهم ما يقرب من 48308 مدنيين، وفقًا لتحليل أجرته منظمة مراقبة الغارات الجوية “Airwars” عام 2021.
وفقًا لمركز مدنيين تحت الصراع “CIVIC”، ومعهد حقوق الإنسان بكلية كولومبيا للحقوق، وجدت دراسة عن الخسائر المدنية في أحداث ما بعد 11 سبتمبر/أيلول أن معظمها لم يخضع للتحقيق، وإذا حدث وخضعت للفحص فإن المقابلات تجرى مع الشهود العسكريين من الجيش الأمريكي بينما يتم تجاهل المدنيين من الضحايا والناجين وعائلاتهم، ما يؤثر بشكل كبير على فاعلية هذه التحقيقات، هذا ما حدث بالضبط في غارة الصومال 2018 التي قُتلت فيها لول وابنتها مريم.
تقول آني شيل مدير المناصرة في منظمة “CIVIC”: “من غير المقبول أن تستمر معاناة المدنيين الناجيين من تلك الغارات وعائلاتهم للحصول على أي نوع من الاعتراف من الولايات المتحدة، يجب أن تقدم وزارة الدفاع بشكل عاجل تعويضات بأثر رجعي بالتشاور مع تلك العائلات”.
“تستحق العائلات، وعامة الشعوب بشكل أوسع، الشفافية بشأن أسس تلك الغارات وكيف ولماذا أدت إلى هذا الموت المروع للمدنيين”.
المصدر: ذي إنترسبت