بدأ الموقف الأمريكي من العدوان على غزة والمستمر للشهر الثاني على التوالي، ينحني متراجعًا عن صلابته التي أظهرها في البداية، وهو تراجع فرضته طبيعة مجريات المعارك على الأرض، فضلًا عن إدراك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حجم الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به، بعد أن قدمت دعمًا مفتوحًا لـ”إسرائيل”، وما أنتجه هذا الدعم من مجازر بشرية ارتكبتها الآلة العسكرية الإسرائيلية في القطاع، إلى جانب تحميل العديد من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إدارة بايدن مسؤولية هذه المجازر عبر رفضها وقف إطلاق النار في غزة.
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة الموقف الأمريكي من هذه الحرب، تشير إلى تحولات مهمة مرَّ بها هذا الموقف، بدءًا من الدعم السياسي والعسكري المطلق لـ”إسرائيل”، في ممارسة سياسة الأرض المحروقة في غزة، عبر التلويح بفكرة إن ما تقوم به “إسرائيل” هو “دفاع عن النفس”، إلى الحديث الأمريكي عن إمكانية الشروع بتنفيذ هدنة إنسانية في غزة.
ومؤخرًا قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالحديث، سواء عبر زياراته المتكررة لدول المنطقة أو مشاركته في قمة مجموعة الدول السبع في اليابان، عن أن الإدارة الأمريكية تدعم المسار السياسي للصراع، عبر إعادة تطبيق فكرة حل الدولتين كمدخل لإنهاء الحرب الحالية في غزة.
إن التساؤل المهم الذي يُطرح هنا هو ما هي الأسباب الرئيسية التي تقف وراء تغير الموقف الأمريكي من هذه الحرب؟ وهل هذا التغير نابع من فكرة أن الإدارة الأمريكية توصّلت لقناعة بصعوبة انتصار “إسرائيل” بهذه الحرب؟ أم أن الأمر متعلق باستحقاقات داخلية أمريكية وجدت إدارة بايدن ضرورة الانتباه إليها؟
ومهما كانت الأسباب التي تقف وراء تغير الموقف الأمريكي، فإن الواقع في غزة يشير بما لا يقبل الشك، إلى أن الولايات المتحدة غير قادرة على ضبط إيقاع هذا الواقع، وأن الاستحقاقات العسكرية والسياسية التي نتجت عن عملية “طوفان الأقصى” حتى الآن، أظهرت عجز إدارة بايدن عن استيعابها أو التعامل معها.
صمود حماس
إن إدارة بايدن وعبر دعمها المبكر للمجهود الحربي الإسرائيلي في غزة، كانت تنطلق بالأساس من فكرة أن تقديم دعم عسكري مطلق لـ”إسرائيل”، من شأنه أن يسمح لها أن تحقق نصرًا عسكريًّا ساحقًا في غزة، وإنهاء البنية التحتية لحركة حماس، وبالتالي إنهاء هذه الحرب بأقل التكاليف.
وفي هذا السياق لم تتوقف سياقات الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، من التحشيدات العسكرية الأمريكية في مياه شرق المتوسط، أو عبر فتح جسر جوي مع “إسرائيل”، نقلت من خلاله آلاف المعدّات والصواريخ والمستلزمات العسكرية، بل أن الولايات المتحدة انخرطت فعليًّا في هذه الحرب، وذلك عبر إرسال قوات قتالية واستشارية لمرافقة القوات الإسرائيلية المتقدمة نحو غزة، يقودها الجنرال الأمريكي جيمس غلين.
والمعروف أن غلين هو صاحب نظرية “المطرقة الثقيلة” التي تمّ استخدامها في مدينة الموصل، أثناء تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش”، والتي دُفن خلالها العشرات من المدنيين تحت الأرض، فضلًا عن دوره كمخطّط رئيسي لمعركة الفلوجة.
ويشغل غلين حاليًّا منصب نائب القائد لشؤون القوى العاملة والاحتياطية، وكان سابقًا قائد قيادة العمليات الخاصة للقوات البحرية الأمريكية، إذ أشار البنتاغون الأمريكي في بيان له، إلى أنه تم إرساله لتقديم المشورة لـ”إسرائيل”، بشأن المخاطر الكامنة في غزو قطاع غزة.
ورغم ما تقدم من دعم أمريكي، إلّا إن ذلك لم يغير شيئًا من مجريات الحرب، فما زالت حماس تواجه التقدم العسكري الإسرائيلي، وتحديدًا في مخيم الشاطئ وشارع الرشيد وبيت حانون، ومعظم المدن الواقعة في الجزء الشمالي من غزة، فضلًا عن نجاحها في إيقاع العديد من الخسائر العسكرية في صفوف القوات الإسرائيلية المتقدمة، وتحديدًا على مستوى الدبابات والمدرّعات.
هذا الواقع أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة تقييم موقفها من الحرب، خصوصًا في مدى قدرة “إسرائيل” على تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي أعلنت عنها حكومة بنيامين نتنياهو، والمتمثلة بإنهاء حماس وتحرير الرهائن وفرض واقع جديد في غزة، وهي أهداف مثّلت الإطار الاستراتيجي لحرب “إسرائيل” على غزة، وعلى هذا الأساس جاء الدعم الأمريكي لها.
والأهم من صمود حماس هو طول مدة الحرب، فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية غير مصمّمة بالأساس على خوض حروب طويلة الأمد، فالتاريخ العسكري للحروب العربية الإسرائيلية يشير إلى إن “إسرائيل” لم تكن قادرة على خوض حرب أكثر من شهر واحد.
ففي حرب أكتوبر 1973، وبعد الاستنزافات العسكرية التي مُنيت بها “إسرائيل”، وافقت على قبول الوساطة الأمريكية في وقف إطلاق النار، وذلك بسبب عدم قدرتها على تحمل نتائج وتداعيات هذه الحرب، فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع هشّ، وغير مستعدّ لتقبُّل الخسائر البشرية والاقتصادية.
ولعلّ ردود الفعل الداخلية الإسرائيلية ضد حكومة نتنياهو، نتيجة عدم بذله جهودًا لإعادة الأسرى والرهائن لدى حماس، ستنعكس سلبًا على مستقبله السياسي، الذي أصبح اليوم قاب قوسَين أو أدنى من الانهيار.
عدم التجاوب العربي والإسلامي
رغم هشاشة الموقف العربي من الحرب الدائرة في غزة، إلّا أن عدم تجاوب العديد من الدول العربية مع المطالبات الأمريكية، وتحديدًا تلك المتمثلة بتحمُّل تكاليف إعادة إعمار غزة بعد الحرب، يشير بما لا يقبل الشك أن الدول العربية لا تريد أن تكون شريكًا في حرب التدمير الشامل التي تشنّها “إسرائيل” في غزة، في إطار دعم وغطاء أمريكي واضح.
ولعلّ البيان الختامي الذي جاء عقب انتهاء أعمال القمة العربية-الإسلامية، التي عُقدت في الرياض يوم السبت الماضي، يشير إلى مدى الفجوة الواسعة ما بين المواقف الأمريكية والعربية من هذه الحرب، بل الأهم تحميل إدارة بايدن مسؤولية ما يحدث.
تدرك الإدارة الأمريكية أهمية عدم الاستخفاف بمواقف الأنظمة العربية، خصوصًا بسبب الحاجة الأمريكية لموقف الدول العربية في مواجهة الصين، وكذلك لعدم دفع الدول العربية، وتحديدًا المنتجة للنفط، إلى التوافق مع روسيا، خصوصًا أن الحرب في أوكرانيا لم تنتهِ بعد، فالزيارات المتكررة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لدول المنطقة، أظهرت فشلًا أمريكيًّا في إقناع هذه الدول بالرؤية الأمريكية لهذه الحرب، ولعلّ هذا ما دفع إدارة بايدن لمراجعة مواقفها السياسية منها.
وفي هذا الإطار أيضًا، أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد اختتام مشاركته في قمة الرياض، إلى ضرورة أن تعي إدارة بايدن تداعيات هذه الحرب، مشيرًا إلى أن “غزة أرض فلسطينية قبل كل شيء، على الولايات المتحدة تقبُّل هذا الأمر”، ودعا الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى اتخاذ قرار تاريخي وحاسم بشأن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، مؤكدًا أن “الحل الدائم والمستدام هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة”.
ضغط الرأي العام الأمريكي
شارك الآلاف في مظاهرة حاشدة بالعاصمة الأمريكية واشنطن الأسبوع الماضي، للمطالبة بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، منددين بالسياسات الداعمة لـ”إسرائيل”، وبدور الرئيس بايدن الذي وصفه المتظاهرون بأنه “شريك في الإبادة”.
إذ سار المتظاهرون في شوارع واشنطن ملوّحين بالأعلام الفلسطينية، ورددوا هتافات من بينها “بايدن، بايدن لا يمكنك الاختباء، لقد اشتركت في الإبادة”، ثم تجمعوا عند ساحة الحرية على بُعد خطوات من البيت الأبيض، كما تعهّد بعضهم بألا يؤيد مساعي بايدن للفوز بفترة رئاسية ثانية العام المقبل، ولا حملات ديمقراطيين آخرين، واصفين إياهم بالليبراليين “ذوي الوجهَين”.
كما شهدت العديد من الجامعات الأمريكية مظاهرات حاشدة دعمًا لغزة، ومنها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كولومبيا، كما ظهر حشد للمتظاهرين وهم يسيرون هاتفين “من البحر إلى النهر فلسطين ستكون حرة”، وتجمعوا أمام منزل الرئيس الأمريكي مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، وهتفوا “وقف إطلاق نار الآن”.
ورغم أن ذلك كله لم يخلق حتى الآن موجة ضاغطة على إدارة بايدن، لدفعها إلى فرض وقف لإطلاق النار الذي لا تزال تعارضه بشدّة حتى الساعة، بل أن أصواتًا متطرفة كثيرة لا تزال مسموعة في المشهد السياسي والإعلامي الأمريكي، بينها اقتراح النائب الجمهوري المتطرف راين زينكي بإيقاف جميع طلبات الهجرة للفلسطينيين إلى الولايات المتحدة، في موقف يحمل شحنة كبيرة من الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني.
إلّا أن استمرار هذه التظاهرات نجح في إنتاج تغيير جزئي في تصورات الإدارة الأمريكية، وذلك عبر الحديث عن حل الدولتين، كما أنه من الممكن أيضًا أن يقلل من الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، خصوصًا مع امتناع العديد من المشرعين في الكونغرس الأمريكي الاستمرار في تقديم حُزَم الدعم الاقتصادي لـ”إسرائيل”، بالتوافق مع استمرار الدعم المقدم لأوكرانيا.
فمع استمرار معدلات التضخم في الاقتصاد الأمريكي، وزيادة نسبة الضرائب، قد تجد إدارة بايدن نفسها في الأيام المقبلة مجبرة على دفع “إسرائيل” للقبول بوقف إطلاق النار، بغضّ النظر عن مجريات الحرب أو تداعياتها على الداخل الإسرائيلي، إذ تشير استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة إلى انخفاض واضح في شعبية بايدن، على خلفية مواقفه من الحرب الدائرة في غزة.