في بلد التفجيرات والصراع بين الحكومة وحركة طالبان المسلحة، وفي وطن يبحث فيه تنظيم الدولة الإسلامية عن موطئ قدم له، تشير التقارير الإعلامية إلى بدء باكستان عملية لإحصاء سكانها، في مهمة صعبة تأخرت عشر سنوات، حيث يتم إجراؤها بعد تردد بسبب انعكاساتها السياسية العميقة خصوصًا في مجالي تقاسم السلطة والأموال العامة.
تتيح عملية البحث وسبر الأغوار في المجتمع الباكستاني فرصة لاكتشاف الطوائف المتنوعة وطريقة عيشها ومدى ثقلها في المجتمع الباكستاني وفي التراث الإنساني العالمي، في بلد يعرف أنه ذو أغلبية مسلمة محافظة.
باكستان تحتل المرتبة السادسة عالميًا من حيث عدد السكان الذين يقدرون بنحو مئتي مليون نسمة
تقول الأمم المتحدة إن باكستان تحتل المرتبة السادسة عالميًا من حيث عدد السكان الذين يقدرون بنحو مئتي مليون نسمة، إلا أن هذه الإحصاءات تعود إلى عام 1998، بما أنه لم يتم إجراء عملية الإحصاء منذ ذلك الوقت على خلاف ما ينص عليه الدستور الذي يقر بضرورة إجراء عملية الإحصاء كل 10 أعوام.
وستتيح عملية الإحصاء الفرصة لمعرفة حجم الأقليات المهمشة مثل الهندوس والمسيحيين الذين يؤكدون أن عددهم يفوق التقديرات المتعلقة بهم، حيث يقرون بأن أعدادهم بين مليونين وثلاثة ملايين لكل من المجموعتين، وكذلك المتحولين جنسيًا الذين سيجري تعدادهم للمرة الأولى، بالإضافة إلى مجتمعات قبلية مثل الكلاش والهونزا.
أصول الهونزا
عند “وادي الخالدين” في مقاطعة كاراكورام على علو يصل إلى 6230 قدمًا، في باكستان، يعيش شعب يسمى بشعب الهونزا.
وكانت مقاطعة كاراكورام منطقة معزولة تحت حكم زعيم محلي، وهي مملكة الأنهار الجليدية والفردوس، إلى أن بسطت إسلام آباد سيطرتها عليها في 1949، تطبيقًا لمعاهدة أقرتها منظمة الأمم المتحدة، وهي مملكة لم تطئها بعد الحضارة المادية ولا الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يربطها بالعالم الخارجي سوى ممرات وعرة للمشاة.
وفي منتصف الستينيات نجح الأمير الحاكم في إقناع الحكومة الباكستانية بشق طريق يصل إقليم كاراكورام واستلزم المشروع نحو 10 سنوات من العمل المتواصل، وكلفة مالية عالية بلغت الملايين من الدولارات إلى جانب سقوط ضحايا من العمال.
جميع سكان الهونزا من المسلمين، من الطائفة الإسماعيلية، وهم من أتباع عائلة “أغا خان”، ويحمل الأمير كريم الحسيني المليونير الذي يعيش في فرنسا، لقب “أغا خان الرابع”، وهو الزعيم الروحي للإسماعيليين بالوراثة
يقول شعب هونزا إنهم من سلالة الإسكندر الأكبر وجيشه، وفي وقت الاحتلال، بقي بعضهم في قراهم وتزّوجوا واستقرّوا هناك، وجميع سكان الهونزا من المسلمين، من الطائفة الإسماعيلية، وهم من أتباع عائلة “أغا خان”، ويحمل الأمير كريم الحسيني المليونير الذي يعيش في فرنسا، لقب “أغا خان الرابع”، وهو الزعيم الروحي للإسماعيليين بالوراثة، ومن أهم الداعمين لمنطقة وادي الخالدين.
في حين تقول روايات أخرى إنهم من نسل جيش “اليكجينت دار” الذي جاء إلى هذه المنطقة في القرن الرابع.
يتكون شعب الهونزا من خمس عشائر هي البورونغ، الديرامايتنغ، الباراتالنغ، الكوروكوش، البوروشو، وهم شعب يتميزون بابتسامتهم الدائمة التي لا تفارق وجوههم، وبحيويتهم ونشاطهم وقوتهم، ويتمتعون بشكل خارجي شاب، لدرجة أن الكثير من الناس يشعرون بالصدمة عندما يعلمون سنهم الحقيقي.
الهونزا تعني لغويًا “متحدون مثل السهام في جعبة”
يتمير الهونزا بقاماتهم الطويلة وبشرتهم الفاتحة، والهونزا تعني لغويًا “متحدون مثل السهام في جعبة”، يعيش هذا الشعب في جبال شمال باكستان، ويبلغ عددهم نحو 87 ألف شخص، ويعتبر وضعهم استثنائيًا لأن متوسط أعمارهم يبلغ مئة عام.
وتفيد تقارير إعلامية تم تداولها على نطاق واسع أن هذا الشعب يعمّر نحو 120 عامًا، دون أمراض أو مشاكل صحية، وقد يصل بعضهم إلى 160 عامًا من العمر، فهو شعب نادرًا ما يمرض، ولا يصابون بمرض السرطان ولا بالأورام الخبيثة، أما سن الخصوبة لدى نسائهم فيصل إلى 65 عامًا.
أسرار غذائية وراء طول العمر
تقدم حضارة الهونزا دليلاً عمليًا على علاقة النظام الغذائي ونمط الحياة بطول عمر الفرد، فتشير تقارير إعلامية إلى أن هذا الشعب يستحمّ في المياه الجليديّة، ولا يتناولون سوى الأطعمة التي يزرعونها، ويأكلون الفواكه والخضراوات النيئة والبذور الزيتية، بالإضافة إلى المشمش المجفف، ومجموعة متنوعة من الحبوب (كالحنطة السوداء والشعير)، والبقوليات والقليل من الجبنة والحليب والبيض.
ويعتقد الكثيرون أن شرب المياه الجبلية الغنية بالمواد المعدنية، واتباع نظام غذائي متواضع، وراء طول أعمار سكان الوادي، وهو شعب وجباته مقتصدة وقليلة، حيث تتكون من المشمش الطازج أو المغلي مع الحبوب والخبز الهندي، والخضراوات الطازجة والمشمش المجفف، بالإضافة إلى فاكهة الموسم كالخوخ والدّراق والإجاص والتّفاح.
يمارس شعب الهونزا المشي يوميًا بين 15 و20 كيلومترًا، فلا يدركون معنى التّعب والإرهاق، ونادرًا ما يتناولون اللّحوم، حيث لا يتناولونها أكثر من مرتين في السنة
ويمارس شعب الهونزا المشي يوميًا بين 15 و20 كيلومترًا، فلا يدركون معنى التّعب والإرهاق، ونادرًا ما يتناولون اللّحوم، حيث لا يتناولونها أكثر من مرتين في السنة، ولا يتناولون إلا لحوم الخروف أو الدجاج، مما يجعلهم شعبًا نباتيًا على الأغلب.
والهونزا شعب يضحكون كثيرًا، وفرحهم هو أحد أصولهم أو عاداتهم المفضلة، ولا يشربون الكحول أبدًا، كما أنهم لا يتناولون السكر، ويستهلكون الملح بمقادير معتدلة، ويصومون بانتظام، ولفترة تمتد بين الشهرين والأربعة أشهر، لا يأكلون شيئًا، بل يشربون فقط عصير المشمش المجفّف، وهو تقليد يلتزمون به رغم أنه يعود إلى العصور القديمة، ويتم ذلك في الفترة التي تكون فيه الثّمار غير ناضجة.
ويُجمع خبراء التغذية أن عاداتهم الغذائية وفترات الصيام، تساهم بشكل كبير في امتلاكهم صحة ممتازة بالإضافة إلى تأثيره على طول العمر.
لا أمراض خطرة تصيب الهونزا
وضع الدكتور البريطاني ماك كاريسون، قائمة تضم الأمراض التي لا يصاب بها شعب الهونزا، وهي: “السرطان، قرحة المعدة، التهاب الزائدة الدودية، القولون، بالإضافة إلى أنهم لا يعانون من حساسية لانطباعات البطن والأعصاب والإرهاق والقلق والبرد”.
أما الطبيب الألماني توبي فقد أضاف أمراضًا أخرى إلى هذه القائمة وهي: “حالات الصفراء أو حصى الكلى، أمراض القلب التاجية، ارتفاع ضغط الدم، الآفات الوعائية، التخلف العقلي، شلل الأطفال، التهاب المفاصل، إضافة إلى السمنة والسكري وقصور الغدة الدرقية”، كما أشار إلى أنه لم يلتق يومًا بأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في قرى الهونزا التي زارها.
لا يتأتي مصدر النفوذ والهيبة لدى شعب الهونزا من امتلاك العقارات أو الشركات التجارية الناجحة ولا من الأرصدة البنكية المنتفخة، وإنما يتأتى نفوذ العائلة وهيبتها من امتلاكها لأشجار المشمش
وتوضح الدراسات الطبية أن استهلاك الهونزا لكميات كبيرة من المشمش هو السر وراء حمايتهم من الإصابة بالأورام، لأنّ حبات المشمش غنية بفيتامين بي -17 الذي له خصائص مضادة للسرطان، وهم يصنعون الزيوت من نواتها.
لا يتأتي مصدر النفوذ والهيبة لدى شعب الهونزا من امتلاك العقارات أو الشركات التجارية الناجحة ولا من الأرصدة البنكية المنتفخة، وإنما يتأتى نفوذ العائلة وهيبتها من امتلاكها لأشجار المشمش.
مظاهر تطور المجتمع
يعيش الهونزا بشكل متزايد على المعونات الخارجية التي تقدمها المنظمات الدولية وهو ما يجعل اقتصادهم هش، وعرضة للأزمات، خاصة مع تشديد إسلام آباد للقيود على نشاط المنظمات الأجنبية.
يعتبر الأمير كريم الحسيني أحد أهم الداعمين لوادي الخالدين، وتولت مؤسسة الحسيني المعروفة دوليًا باسم “مؤسسة أغا خان” تعبيد الطرقات وإنشاء المدارس والعيادات الطبية، إضافة إلى مراكز معالجة المياه.
كشفت دراسة للبنك الدولي، نشرت في عام 2014، أن نسبة النساء المتعلمات في بعض المناطق بوادي الخالدين، وصلت إلى 90% في حين أنها لا تتجاوز 5% في بعض المناطق المجاورة
كما تتولى “مؤسسة أغا خان” دعم التعليم في المنطقة، وقد ساهمت إلى حد كبير في ارتفاع نسبة التعليم لتصل إلى 77%، وتشير التقديرات أن أغلب السكان الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا يعرفون القراءة والكتابة.
وكشفت دراسة للبنك الدولي، نشرت في عام 2014، أن نسبة النساء المتعلمات في بعض المناطق بوادي الخالدين، وصلت إلى 90% في حين أنها لا تتجاوز 5% في بعض المناطق المجاورة، كما أن أغلب المتعلمين يتقنون اللغة الإنجليزية، ويحتاج الأطفال إلى قطع مسافة تقدر بنحو 9 آلاف قدم فوق سطح الأرض، من أجل الوصول إلى المدرسة التي تقع في أعالي الجبال.
وعند نهاية الدراسة المتوسطة، تلتحق بعض الطالبات بمدرسة “أغا خان” الثانوية للبنات، وتدرس الفتيات في هذه الثانوية الرياضيات والعلوم فقط، وتُكمل معظم الخريجات دراستهن في الجامعة، فعلى خلاف العديد من المناطق الأخرى في باكستان لا يتحرج الآباء من إرسال بناتهم إلى المدارس التي يدرس فيها الطلبة الذكور.
لا تكاد مقاطعة كاراكورام تشهد جرائم، حيث إن الأهالي لا يتذكرون متى حدثت آخر جريمة بمنطقتهم، وساعدت هذه العوامل في زيادة منسوب التسامح داخل المجتمع، ليصبح حصنًا صلبًا ضد التطرف، رغم أن المنطقة تقع بالقرب من إقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند، والذي يشهد أعمال عنف واشتبكات متكررة بين الجماعات المسلحة في الحزام القبلي.