بنظرة سريعة لا بد منها على تاريخ سورية المعاصر، فقد استطاع الشعب السوري بلورة هويته الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، والتي بنهايتها نشأت الدولة السورية بشكلها الحاليّ، وكانت أسمى تجليات الانتماء للهوية السورية الجامعة، الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925، التي كانت تعبيرًا حقيقيًا عن مدى تمسك الشعب السوري بتلك الهوية وارتباطه العضوي بها، عابرًا انتماءاته الضيقة كافة، رغم وجود تيار معاكس آنذاك تماهى مع السياسات الاستعمارية لكن يكاد لا يذكر.
وبعد الاستقلال وخصوصًا بعد الانقلابات العسكرية في سورية، بدأ مفهوم الهوية الوطنية يتعرض للاهتزاز والشد والجذب بفعل عوامل مختلفة أهمها المد القومي العربي الناصري، الذي توج بالوحدة السورية المصرية، وهو ما مهد للقضاء على عوامل تعزيز الهوية السورية الجامعة، أي الحياة السياسية التعددية.
وكان لانقلاب حزب البعث عام 1963 وما تبعه من انقلابات داخل الحزب نفسه وسيطرة حافظ الأسد على السلطة، أثر كبير في القضاء على الهوية الوطنية.
كانت لسياسات نظام الأسد الأب والابن وهياكله الأمنية والسياسية التي بنيت بعناية حينها للحفاظ على استمرارية النظام، دور مهم على مدى عقود في تعزيز بذور الخلافات داخل المجتمع السوري
لقد كانت لسياسات نظام الأسد الأب والابن وهياكله الأمنية والسياسية التي بنيت بعناية حينها للحفاظ على استمرارية النظام، دور مهم على مدى عقود في تعزيز بذور الخلافات داخل المجتمع السوري، فالدفع بأبناء مكون واحد للسيطرة على مفاصل الدولة الفاعلة، ومحاولة إرضاء باقي المكونات بمناصب ومكاسب شكلية، واللعب في غير مرة على الاختلافات الطائفية بين مكونات الشعب السوري، مهد لتفجر الخلافات مستقبلاً.
وحاول النظام أن يري المجتمع خطورة تلك الاختلافات وإمكانية تحولها في أي لحظة لصراع أهلي محلي يقضي على المجتمع السوري، ليظهر نفسه الضامن والموازن للعلاقة بين مختلف المكونات المذهبية والإثنية في المجتمع، وظهرت بالفعل ردّات فعل مجتمعية على سياسات النظام، ما لبث أن قمعها بشدة، سواء في ثمانينيات القرن الماضي أو بعد وصول بشار الأسد للسلطة كانتفاضة الأكراد 2004.
إن تلك السياسة وتداعياتها، ويضاف إليها حالة السخط الداخلي بين أفراد كل مكون سوري على حدة، مع انتشار وسائل الاتصالات الحديثة، أعطى مؤشرًا خطيرًا ينذر بتفجر صراع دموي عند أي منعطف يمر به المجتمع السوري، وبالتالي فإن حدثًا كبيرًا بحجم الانتفاضة السورية 2011، وما اتصفت به من عفوية وغياب قيادة واعية، وطريقة تعامل النظام مع أحداثها فيما بعد، أدى لتفجر عوامل الصراع الداخلي السوري، وتطوره ليشهد أحداثًا دموية عُدت سابقة في التاريخ السوري، واتجه كل مكون للتقوقع حول نفسه كمحاولة لحماية نفسه من المخاطر المحيطة والفوضى الأمنية والمجتمعية.
وبالنتيجة عادت الانتماءات الفرعية لتكون الرابط الأساسي في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشعب السوري بمختلف توجهاته السياسية، فوجد الأكراد أنفسهم أمام وضع جديد وسيطرة جغرافية واسعة لم تتحقق مسبقًا، والتفت الأقليات الصغيرة حول النظام ومشايخه، وراحت كل أقلية تنفتح على الأقليات المماثلة في دول الجوار، فيما تشتت المكون السني بين الانتماء العربي أو الانتماء الإسلامي، وتوجه بعض أبناء هذا المكون نحو الانضواء في الحركات الإسلامية المسلحة بفروعها كافة، لا عن رابط فكري، بل بصلة طائفية، وهذا ما مكن تلك الفصائل من تحقيق نفوذ وتقدم ميداني في المجتمع العربي السني في سورية.
ظهرت تيارات جديدة كان وجودها محدودًا في الماضي وأفكارها غير متقبلة حتى، وبات لها انتشار واسع في المجتمع، كتيار الأمة السورية الذي يدعو للكفر بكل القوميات التي يتسم بها الشعب السوري
إلى جانب ذلك ظهرت تيارات جديدة كان وجودها محدودًا في الماضي وأفكارها غير متقبلة حتى، وبات لها انتشار واسع في المجتمع، كتيار الأمة السورية الذي يدعو للكفر بكل القوميات التي يتسم بها الشعب السوري، ولا يعترف بانتماءات الشعب السوري لأي أمة عربية أو كردية أو غيرها، وينتقد كل أطراف الصراع في سورية، ويدعو لإحياء اللغة السريانية في المجتمع، كتيار الأمة السورية، بالإضافة لحالة تنظيم داعش الأشد خطرًا على المجتمع السوري، ومثل تلك التوجهات ما كانت لتظهر لولا حالة التشرذم والفوضى التي شهدتها سورية في السنوات الماضية.
وبالتالي يمكن حصر أسباب تقدم الانتماءات الفرعية في سورية بعد الثورة بعدد من العوامل:
– ممارسات النظام القمعية تجاه الثورة والشعب السوري، وإطلاقه العنان لمليشياته الطائفية التي استهدفت المكونات الأخرى لمجرد الانتماء المذهبي، وما تلى ذلك من تدخل مليشيات أجنبية لتقاتل بجانبه على أساس طائفي.
– ظهور التنظيمات المتطرفة كتنظيم داعش، والتي حملت أفكارها العناصر الجهادية التي قدمت لسورية بصفة شخصية مع بداية الأحداث، وما أنتجته من ممارسات قمعية بحق المجتمع والأقليات لا سيما في شمال سورية والعراق.
– غياب قيادة ثورية مدنية تمثل فئات الشعب ولها وجود فعلي يسمح لها بطرح رؤيتها الديمقراطية لمستقبل سورية، وهو ما سمح بدوره للتنظيمات والجماعات المسلحة المختلفة من فرض نفسها عسكريًا وهي التي لم تكن أصلاً من الفاعلين في الانتفاضة، ومن ثم فرض رؤاها التي لا تمت لأهداف الثورة بأي صلة.
– بمعنى آخر سرقة منجزات وتضحيات الشعب السوري في الوصول لدولة مدنية تعددية يغلب عليها الانتماء الوطني، وقامت تلك التنظيمات بقمع معارضيها بمختلف انتماءاتهم، حتى إن مثقفي الثورة باتوا في مرمى الاتهامات بالخيانة لمجرد انتقادهم أفعال تلك التنظيمات.
– الاستقطاب الطائفي والعرقي الحاد في المنطقة عمومًا، والذي يتم استثماره في سياسات دول الإقليم في تجييش الرأي العام، مما أدى لتدفق الأجانب من مختلف دول العالم باتجاه سورية للانضمام لمختلف أطراف الصراع كل حسب انتمائه القومي أو المذهبي.
يجب مراعاة خصوصية الحالة السورية بالنسبة للمحيط الإقليمي، فالتنوع الموجود في سورية ذو أبعاد عرقية ومذهبية وإثنية وجهوية متعددة على حد سواء، ما يعني أن أي طرح سياسي مستقبلي يجب أن يراعي ذاك التنوع
وفي ضوء ما سبق لا بد من وضع برنامج عمل وطني شامل لمحاولة استدراك التدهور الحاصل في المشروع الوطني السوري عمومًا، وعلى صعيد تشكيل الهوية السورية الوطنية الجامعة خصوصًا، يأخذ بالاعتبار النقاط التالية:
– خصوصية الحالة السورية بالنسبة للمحيط الإقليمي، فالتنوع الموجود في سورية ذو أبعاد عرقية ومذهبية وإثنية وجهوية متعددة على حد سواء، مما يعني أن أي طرح سياسي مستقبلي يجب أن يراعي ذاك التنوع، بحيث يعمل على إدارة هذا التنوع بصيغة تؤدي لإغناء الحياة المجتمعية، والحديث عن إزالة الاختلافات بين مكونات الشعب السوري لا يعدو كونه ضربًا من الخيال.
– إن العامل التنموي يعتبر أهم العوامل في ضبط التطرف القومي والمذهبي وظهور الانتماءات الفرعية والتجارب التاريخية متعددة كالسودان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتشهد تلك التجارب أثر العوامل التنموية والاقتصادية في قيام النزاعات والحروب الأهلية، وكيف يمكن للتقدم الاقتصادي أن ينحي الاختلافات والفروقات بين أبناء المجتمع جانبًا، لذا يجب أخذ الجانب التنموي بأقصى الأهمية في أي خطط مستقبلية.
– ضرورة رفض أي مشاريع مستقبلية تقوم على مبدأ المحاصصة العرقية والطائفية لمؤسسات الدولة، ورغم أن هدفًا كهذا يبدو مجرد حلم، لكن التجارب في العراق ولبنان لا تبشر بأي أمل إذا ما طبق نموذج مشابه في سورية، ولذا تنبع ضرورة بناء جيش وطني عابر للانتماءات الضيقة في سورية المستقبل، ولا ضير من أن تكون الخدمة العسكرية إلزامية في المراحل الأولى، لكسر حواجز الفرقة الموجودة مسبقًا.
يجب العمل على إخراج كل التنظيمات والقوى والأفراد التي دخلت سورية في السنوات الماضية، وانضمت للحرب بدوافع طائفية، ومارست دورًا هدامًا في الساحة السورية
– ضرورة إنتاج خطاب وطني جامع مجدٍ، يقطع الطريق على كل من حاول خطف منجزات وتضحيات الشعب السوري، ووجود فكر واعٍ حضاري مدني حامل لمشروع ديمقراطي، متجاوزًا الانتماءات الفرعية، مما يساهم في دعم الانتماء الوطني، وإعطاء دور كبير لمؤسسات المجتمع المدني.
– العمل على إخراج كل التنظيمات والقوى والأفراد التي دخلت سورية في السنوات الماضية، وانضمت للحرب بدوافع طائفية، ومارست دورًا هدامًا في الساحة السورية.
– العمل مع كل القوى الداخلية والدولية، لوضع حد للحرب الدائرة، وكف يد النظام الأمني والتنظيمات المتطرفة والانفصالية وغيرها من القوى ذي المشاريع الخاصة والإقليمية، لخلق حالة من الهدوء النسبي تسمح بتفاعلات مجتمعية وسياسية، تؤدي بنهاية المطاف لزيادة وعي المجتمع ككل، كخطوة تمهيدية لبناء نموذج ديمقراطي تعددي يليق بتاريخ وتضحيات الشعب السوري.