على مدار أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتجهت الأنظار صوب مجمع الشفاء الطبي بقطاع غزة، بعدما تحول إلى هدف حربي لقوات الاحتلال تسعى لتدميره بشتى السبل، فتقصف أجزاءً منه جوًا وتطوقه برًا وتشوه سمعته إعلاميًا، دون أي مراعاة لتعريض حياة الآلاف من الجرحى والمصابين للخطر.
وكثف الاحتلال خلال الـ72 ساعة الأخيرة غاراته على المشفى الذي بات الملاذ الأخير أمام الجرحى والمصابين بعد استهداف مستشفيات القطاع كافة، حيث أصيب بأضرار جسيمة أخرجت معظم أقسامه عن العمل، فضلًا عن نفاد الوقود وانقطاع التيار الكهربائي ما يعني تعطل الغالبية العظمى من الأجهزة الطبية الحيوية، وسط توعد وحشي من قوات الاحتلال باقتحامه والسيطرة عليه.
تطويق بالدبابات والمدرعات من كل الجوانب، وحصار تفرضه قوات المحتل حول المشفى بزعم أنه قاعدة ارتكازية لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ومقاتليها، وهي الادعاءات التي كذبتها وزارتا الداخلية والصحة داخل القطاع معًا، في الوقت الذي يحتضن فيه المشفى عدة آلاف من المدنيين والجرحى والمصابين، معظمهم من الأطفال والنساء، كثير منهم لا يستطيع التحرك والتنقل بسبب وضعيته الصحية الحرجة، وسط صمت دولي مخزٍ.. فماذا نعرف عن هذا المجمع الذي تحول من مشفى إلى ملجأ المدنيين الفارين بحياتهم من القصف الوحشي الإسرائيلي؟
المتحدث باسم وزارة الصحة في #غزة للجزيرة: قوات الاحتلال الإسرائيلي تحاصر مجمع الشفاء الطبي من جميع الجهات، وارتفع عدد الوفيات جراء انقطاع الخدمات في مجمع الشفاء إلى 20، والساعات القادمة خطيرة للغاية على حياة 36 من الأطفال الخدج#لأخبار #حرب_غزة pic.twitter.com/3KO1jCzrXi
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 13, 2023
أكبر مجمع طبي في القطاع
مجمع الشفاء الطبي هو مجمع حكومي تابع لوزارة الصحة الفلسطينية، ويعتبر أكبر منشأة صحية في قطاع غزة، يقع في وسط غرب القطاع، عند مفترق تقاطع شارعين من أكبر الشوارع في المحافظة، شارع الوحدة وشارع عز الدين القسام.
تأسس المجمع عام 1946 ويقع على مساحة 45 ألف متر مربع، ويضم 3 مستشفيات متخصصة هي: مستشفى النساء والتوليد مع قسم حضّانات للأطفال الخدج، ومستشفى الأمراض الباطنية، ومستشفى الجراحة، بجانب قسم الطوارئ ووحدة العناية المركزة والأشعة وبنك الدم والتخطيط وغيرها.
ويخدم المجمع، رغم وجود مشافٍ أخرى كالقدس والرنتيسي والإندونيسي وشهداء الأقصى والمعمداني، الجزء الأكبر من سكان القطاع، لما يمتلكه من إمكانات طبية كبيرة، ومساحة هي الأكبر مقارنة بالمراكز الأخرى، وخلال عام 2020 قدم الشفاء خدمات علاجية لـ460 ألف مواطن، إضافة إلى 250 ألف مواطن آخرين تلقوا خدمات في قسم الطوارئ، وفي العام ذاته أجريت نحو 25 ألف عملية جراحية و69 جلسة لغسل الكلى، و13 ألف حالة ولادة.
يستحوذ مجمع الشفاء على أكثر من 25% من القوى العاملة في جميع مستشفيات القطاع، إذ يعمل به قرابة 1500 موظف، 200 منهم يعملون في وظائف إدارية، بجانب ما يزيد على 500 طبيب، و760 ممرضًا و32 صيدلانيًا.
محطات في تاريخ المجمع
مر مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة بالعديد من المحطات الرئيسية على مدار تاريخه الممتد طيلة 77 عامًا، شكلت جميعها الهوية التاريخية والطبية والرمزية لهذا الكيان، الذي نجح في الصمود أمام كل محاولات التغول عليه من الدولة المحتلة.
1946.. في هذا العام أُنشئ المجمع على أيدي الانتداب البريطاني، وكان عبارة عن أكشاك صغيرة تهدف في المقام الأول إلى تقديم خدمات الرعاية الطبية للمرضى، ولم تكن هناك في القطاع وقتها أي مشافٍ أخرى، حيث كان المنشأة الطبية الوحيدة.
1948.. بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين نقلت إدارة المستشفى إلى السلطات المصرية، وقد شهد حينها توسعات في عدد الأسرّة ونوعية الخدمات المقدمة، كذلك أعداد المستفيدين من تلك الخدمات، واستمر تحت الإدارة المصرية لمدة عقدين كاملين.
1967.. في أعقاب النكسة أصبح المستشفى تابعًا للاحتلال الإسرائيلي الذي قرر إعادة بنائه على نحو مشابه للمستشفيات الإسرائيلية، وبات يضم العديد من الغرف التي تسع كل منها 3 مرضى كحد أقصى، لكنه لم يغط بعد تلك المساحة الكبيرة من غزة وأجوارها، وتحول مع مرور الوقت إلى ثكنة عسكرية ومركز تجمع لجيش الاحتلال، واستمر على هذه الشاكلة قرابة 20 عامًا.
1987.. برز دور مجمع الشفاء الطبي لأول مرة كساحة مواجهة أساسية بين المقاومة الطلابية الفلسطينية وجيش الاحتلال، مع بدء الانتفاضة الأولى التي انطلقت في ديسمبر/كانون الأول 1987، إذ اقتحمه الطلاب الفلسطينيون، وشهد اشتباكات قوية مع جنود الاحتلال الذين كانوا يتخذون منه قاعدة أساسية، وحاولوا سرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين التي كانت بداخله.
1993.. نُقلت إدارة المجمع إلى السلطة الفلسطينية في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال عام 1993، وحينها تطور بشكل كبير من حيث المباني والأقسام وأعداد الفرق الطبية العاملة به، بعد تلقيه دعمًا يابانيًا وأوروبيًا، ليتحول من مستشفى إلى مجمع طبي يضم عددًا من المستشفيات والعيادات المتخصصة.
لكن خلال العقد الأخير تعرض المجمع – في ظل الحصار المفروض على القطاع ووقف التمويل والدعم – للكثير من الأضرار سواء من حيث المباني أم طبيعة الخدمات المقدمة، جراء الضغط عليه في ظل التصعيد الإسرائيلي وما خلفه من إصابات بالجملة خلال السنوات الماضية، وهو ما تسبب في تعرضه للكثير من التلفيات التي تتطلب العلاج والترميم والحاجة الماسة لتبني خطة تطويرية لإعادة المجمع إلى ما كان عليه.
2023.. ثم جاءت الحرب على غزة لتزيد وضعية المجمع تأزمًا، حيث تعرض للقصف الممنهج من قوات الاحتلال تسبب في إخراج معظم الأقسام عن العمل، فضلًا عن انهيار كبير في الكثير من أجزائه، وفقدانه لجزء كبير من هيكله الطبي والإداري خلال الأيام الماضية، وسط تصميم من الكيان المحتل على السيطرة عليه وهدمه بالكلية.
رمزية ثلاثية الأبعاد
لم يكن مجمع الشفاء كغيره من بقية مستشفيات القطاع المتعددة التي تقدم هي الأخرى خدمات صحية متخصصة ومتطورة، غير أن الشفاء له خصوصية مميزة كونه يمتلك 3 رمزيات أساسية منحته تلك الأهمية والقيمة الكبيرة.
أولًا: الرمزية التاريخية.. الشفاء هو المجمع الطبي الوحيد الذي يسبق دولة الاحتلال، فتاريخ إنشائه يعود إلى 77 عامًا، أي أنه أكبر من الكيان الغاشم بعامين كاملين، وهي مسألة تحمل الكثير من الأبعاد التاريخية التي تقزم من ثقل وحضور وتاريخ الدولة الإسرائيلية المحتلة.
ثانيًا: الرمزية السياسية.. حيث كان المجمع ساحة مواجهة شعواء بين الطلاب الفلسطينيين المقاومين وجيش الاحتلال الذي كان يتخذ من المشفى قاعدة له، خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، ونجح الطلاب بفضل مقاومتهم وقتالهم على مدار 6 أعوام في تحرير المجمع من سيطرة الاحتلال، لينتقل بعد ذلك إلى السلطة الفلسطينية عقب توقيع اتفاق أوسلو.
ثالثًا: الرمزية اللوجستية.. ظل مجمع الشفاء الطبي حائط الصد الكبير أمام تحقيق الاحتلال لأي نجاحات في ميدان القتال مع الفلسطينيين، حيث كان بما يمتلكه من قدرات وإمكانات طبية وخدمية ملجأ عشرات الآلاف من المصابين والجرحى جراء المواجهات مع جيش الاحتلال، حيث يتلقون العلاج اللازم ليعودوا بعد ذلك إلى ساحة المواجهة مرة أخرى في وقت قصير للغاية.
كما أن الموقع الجغرافي للمجمع أهّله للربط بين شمال القطاع وجنوبه، فتحول مع مرور الوقت إلى الملجأ الأكثر دفئًا للنازحين من ويلات القصف الإسرائيلي، وقبلة المشردين، وخيمة
إيواء للباحثين عن الاستراحة المؤقتة لإعادة مباشرة حياتهم العادية أو القتالية في آن واحد.
هذا بجانب تحويل المشفى إلى نقطة التقاء وتجمع لمختلف وسائل الإعلام، الفلسطينية والعربية والأجنبية، وبالتالي فهو منصة محورية لتصدير الصورة الحقيقية عما يدور داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وتفنيد كل مزاعم الاحتلال والرد على مختلف رواياته المزيفة في معظمها.
الاحتلال والبحث عن انتصار زائف
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وبعد أن تلقى الكيان المحتل الضربة الموجعة على أيدي المقاومة، التي أفقدته اتزانه وضربت صورته الأمنية الناصعة التي حاول الترويج لها على مدار عقود طويلة، لم تنجح قواته الغاشمة في تحقيق النجاحات الميدانية المطلوبة والمرضية للشارع الإسرائيلي.
وأمام هذا الفشل الميداني في مواجهة مقاتلي المقاومة، لم يجد نتنياهو وحكومة الحرب المشكّلة سوى المدنيين لاستهدافهم وتدمير منازلهم، ثم الانتقال إلى البنية التحتية للقطاع للقضاء عليها بصورة كاملة، وكان من بينها وعلى رأسها المستشفيات.
وفي التاسع من الشهر الماضي بدأت طائرات الاحتلال في استهداف محيط مجمع الشفاء، صاحب الرمزية التاريخية والسياسية واللوجستية المؤرقة لمضاجع الكابينت والكنيست معًا، فدمرت أجزاءً كبيرةً من المستشفى والملحقات الخاصة به، وأخرجت الكثير من العيادات والأقسام عن العمل بصورة كلية.
وكعادة الاحتلال برر هذا الاستهداف الذي يتعارض مع القانون الدولي الإنساني بوجود مقرات لحماس وفصائل المقاومة داخل المستشفى، وهي المزاعم التي رفضتها الحركة التي طالبت بتشكيل وفد دولي، يشارك فيه الأمين العام للأمم المتحدة من أجل تفتيش المستشفى والتثبت من ادعاءات الاحتلال.
بطبيعة الحال لن يقبل الاحتلال بدخول هذا الوفد الدولي للمستشفى حتى لا ينفضح أمره ويُكشف زيف ادعاءاته، لا سيما أن تلك المزاعم ليست بالجديدة، حيث رددها قبل ذلك خلال الحرب التي شنها على قطاع غزة عامي 2008-2009.
وبات يقينًا أن الكيان المحتل المتورط في وحل المقاومة في الشمال، والفاشل حتى الآن في تحقيق أي هدف من تلك الأهداف التي أعلنها بداية الحرب، بجانب عجزه عن تحرير الأسرى والرهائن من قبضة فصائل المقاومة رغم مرور 37 يومًا على المواجهات، بما يشكل ضغطًا شعبيًا وسياسيًا عليه، يحاول الآن البحث عن أي إنجاز يرضي به الداخل ويحفظ ماء وجهه الذي مرغته المقاومة في تراب غزة.
يسابق الكيان المحتل الزمن من أجل اختلاق معركة وهمية، يكون مجمع الشفاء ساحتها الكبرى، محاولًا تمرير سرديته المزيفة بتحويل المستشفى إلى رمز غزة الوحيد ومركز ثقلها اللوجستي، وعليه فإن سقوطه يعني سقوط غزة بأكملها، هكذا يتوهم الكيان المغتصب.
ومن ثم فإن السيطرة عليه تمنح المحتل انتصارًا رمزيًا ومعنويًا يداري به عوراته التي كشفتها المقاومة ليل نهار، لكنه الوهم الذي سرعان ما ينجلي مع كل تسجيل صوتي يخرج فيه المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، يعلن فيه بالصوت والصورة معًا وبالأدلة التوثيقية، حجم الخسائر العسكرية في صفوف الاحتلال، متوعدًا إياهم بالمزيد من الخيبة والانكسار.