ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر سنة 2016، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نظيره السوداني عمر البشير إلى القاهرة لحضور الاحتفالات الخاصة بالذكرى السنوية للحرب العربية الإسرائيلية التي جرت خلال سنة 1973. وخلال هذه المناسبة، منح السيسي وسام نجمة سيناء، وهو أعلى وسام عسكري مصري، للبشير.
في الحقيقة، اعتبرت صور البشير، وهو يجلس بجوار السيسي في سيارة مكشوفة وهما في الطريق لتفقد وحدات الجيش المصري، دليلا واضحا على تحسّن العلاقات بين البلدين بعد مرور سنوات على الجفاء الذي ساد بين البلدين. وتعود جذور هذا التوتر إلى سنة 1995 بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهو الحادث الذي اتهمت فيه القاهرة حكومة السودان بالتواطؤ في تنفيذه.
لكن تجدر الإشارة إلى أن “شهر العسل” المصري السوداني لم يدم طويلا. فمع بداية سنة 2017، بدأت نقاط الخلاف التقليدية تظهر من جديد. وبعد تغيّر موازين القوى لصالح السودان، نظرا لتحسن علاقاته مع كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، طالبت الخرطوم باستعادة منطقة حلايب الحدودية، المتنازع عليها منذ شهر نيسان/أبريل. وعندما قوبل طلبها بالرفض من قبل مصر، انطلقت المناوشات بين وسائل الإعلام في البلدين مما ساهم في تفاقم حدّة التوترات الدبلوماسية.
اتهم البشير القاهرة بتقديم أسلحة وذخائر إلى جنوب السودان. وردّا على ذلك، اتهمت مصر السودان بإيواء أعضاء جماعة الإخوان المسلمين
ونتيجة لذلك، منع السودان المصريين من دخول البلاد دون تأشيرة، بعد أن كانوا باستطاعتهم فعل ذلك في السابق. فضلا عن ذلك، قرر السودان حظر استيراد الفواكه المصرية بدعوى أنها ملوثة.
علاوة على ذلك، اتهم البشير القاهرة بتقديم أسلحة وذخائر إلى جنوب السودان. وردّا على ذلك، اتهمت مصر السودان بإيواء أعضاء جماعة الإخوان المسلمين. ووفقا لتقرير تلفزيوني سوداني، لم تنكر مصر الاتهامات الموجهة إليها فضلا عن قيامها بنقل وحدات عسكرية في المياه الإقليمية المتاخمة لمثلث حلايب وإرسال طائرات مقاتلة حربية تحوم فوق المنطقة.
جذور الخلاف
تعود جذور النزاع حول مثلث حلايب إلى أكثر من قرن. ففي سنة 1899، قررت الإمبراطورية البريطانية رسم الحدود بين مصر والسودان، عندما كانت كلتا الدولتين تخضعان لحمايتها. كما اختارت دائرة عرض 22 شمالا للفصل بين الوحدتين الإدارتين، حيث تم ضمّ منطقة حلايب للجانب المصري. ومع ذلك، خلال سنة 1902، قرّر وزير الداخلية المسؤول عن المنطقتين منح مثلث حلايب لإدارة الخرطوم وذلك لأسباب تتعلق بثقافات قبائل تلك المنطقة. وفي الحقيقة، يعد هذا القرار أساس مطالبة السودان بأحقيته في هذا الإقليم. لكن تمسّكت مصر، في الوقت نفسه، باتفاقية سنة 1899، ورفضت قرار 1902، باعتباره قرارًا إداريا، لا ينقض الاتفاقية الأصلية.
في الواقع، لم يتفاقم التوتر حول مثلث حلايب حتى سنة 1958، عندما قرر الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” إجراء استفتاءٍ على تعيينه رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، وهو اتحادٌ سياسيٌ نشأ بين مصر وسوريا. وقد فوجئت اللجنة الانتخابية التي أُرسلت لإجراء الاستفتاء في منطقة حلايب بوجود لجنة أخرى من السودان هناك. ومن قبيل المصادفة، كانت الانتخابات البرلمانية السودانية تُجرى في الوقت ذاته. لذلك، نشر عبد الناصر الجيش المصري بهدف منع إجراء الانتخابات السودانية في الإقليم. ومن جهته، ردّ السودان برفع شكوى ضد مصر إلى مجلس الأمن الدولي.
خلال سنة 1995، اندلع النزاع مجددًا، عندما اتهمت مصر السودان بضلوعه في محاولة اغتيال “مبارك”. كما أشارت هذه الاتهامات، تحديدًا، إلى أن المخابرات السودانية قد قامت بتمويل ومساعدة الجماعة الإسلامية وزعيمها “مصطفى حمزة” في محاولة منهم قتل الرئيس
بالتالي، اعتبر عبد الناصر، الذي كان ينصّب نفسه قائد القومية العربية، أنّه سيكون من غير الحكمة الدخول في نزاعٍ حدوديٍ مع جارته الجنوبية، مما دفعه إلى تجنب الوقوع في مثل هذا الفخ. ومنذ ذلك الحين، كان السودان يجدد شكواه كل سنة، لكنّ ممثلي مصر والسودان كانوا يطلبون باستمرار تأجيل المناقشة في هذه المسألة على الصعيد الدولي.
وخلال سنة 1995، اندلع النزاع مجددًا، عندما اتهمت مصر السودان بضلوعه في محاولة اغتيال “مبارك”. كما أشارت هذه الاتهامات، تحديدًا، إلى أن المخابرات السودانية قد قامت بتمويل ومساعدة الجماعة الإسلامية وزعيمها “مصطفى حمزة” في محاولة منهم قتل الرئيس. وردًا على ذلك، نشر “مبارك” الجيش المصري لتشديد السيطرة على حلايب. وفي ذلك الوقت، لم يكن بوسع السودان أن يفعل شيئًا سوى التزام الصمت والرضوخ لأوامر مصر.
اليد العليا للخرطوم
من الناحية الجيوسياسية، يعدّ موقف السودان اليوم أقوى بكثير مما كان عليه سنة 1995، خاصة بعد أن تحسنت علاقته مع السعودية. فبعدما رفض “السيسي” إشراك الجيش المصري في الحرب في اليمن، سارع “البشير” في تقديم قواتٍ سودانية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت بلاده الحليف الأهم للمملكة في اليمن.
ووفقًا لتقديراتٍ رسمية، يوجد أكثر من ستة آلاف جندي سوداني في اليمن، بما في ذلك ميليشيا الجنجويد السودانية، وهي ميليشيات قبلية ذهبت إلى اليمن بعد انسحاب قوات الإمارات، في أبريل/نيسان سنة 2016. والجدير بالذكر أن العلاقة بين البشير والرياض توطّدت بشكلٍ أكبر من خلال قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع إيران، في أعقاب هجوم يناير/كانون الثاني، لسنة 2016 على السفارة السعودية في طهران. وقد أدى ذلك إلى إنهاء عقودٍ من العلاقات القوية بين السودان وإيران. في المقابل، حصل “البشير” بدوره على دعمٍ ماليٍ وسياسيٍ غير محدود من السعودية.
علاوة على ذلك، حقق السودان تقدمًا ملحوظًا في علاقاته مع الولايات المتحدة، التي قررت، في يناير/كانون الثاني الماضي، رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية التي كانت مفروضة على الخرطوم، وذلك لتشجيعها على مكافحة الإرهاب. وفي الحقيقة، تزامن هذا التقارب مع ابتعاد السودان عن إيران مما دفع حزب الله إلى اتهام الخرطوم مباشرةً بوقوفها وراء تسريب معلوماتٍ تتعلق بمراكز التدريب التابعة له في السودان إلى واشنطن.
شجّع تحسن علاقات السودان مع كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، جنبًا إلى جنب مع ضعف الوضع السياسي والاقتصادي لنظام “السيسي”، “عمر البشير على فتح ملف نزاع حلايب من جديد
عموما، كانت العلاقات بين حزب الله والسودان متينة في السابق. ففي سنة 1999، على سبيل المثال، صرّح المسؤول عن العلاقات الدولية لحزب الله، لصحيفة رويترز أنّ “ضربات الولايات المتحدة لأهداف في السودان وأفغانستان يمكنها أن تدفع إلى شنّ المزيد من الهجمات على المصالح الأمريكية”.
فضلا عن ذلك، دعّمت زيارة رئيس جهاز الأمن والاستخبارات السوداني، “محمد عطا المولى”، إلى واشنطن، في مارس/آذار، واجتماعه مع مدير وكالة المخابرات المركزية، “مايك بومبيو”، الاتهامات التي تفيد بأنّ البشير قد سرّب معلومات حول حزب الله.
نتيجة لذلك، شجّع تحسن علاقات السودان مع كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، جنبًا إلى جنب مع ضعف الوضع السياسي والاقتصادي لنظام “السيسي”، “عمر البشير على فتح ملف نزاع حلايب من جديد. وفي الوقت الراهن، تواجه مصر بالفعل مشكلة على حدودها الغربية مع ليبيا، التي تعتبر الطريق الرئيسي للأسلحة المُهربة إلى مصر، كما أنّ حدودها الشرقية تمثل معقلا للمسلحين الإسلاميين.
في المقابل، كانت حدود مصر الجنوبية هادئة نسبيًا حتى اللحظة الراهنة. وبسبب الضغوط السياسية المحلية، لا يمكن للسيسي أن يتراجع أو يقبل بالتحكيم الدولي لحل هذا الوضع. وعندما اضطر النظام خلال السنة الماضية إلى تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية بعد توقيع اتفاقٍ لترسيم الحدود البحرية، واجه ردود فعلٍ عنيفة، كان من الصعب عليه السيطرة عليها. ولذلك، من المؤكد أن السيسي لا يرغب في تكرار نفس السيناريو.
لا يملك “السيسي” خيارا سوى محاولة التخفيف من حدة التوترات المتعلقة بنزاع حلايب، وذلك لتجنب حصول المزيد من الاضطرابات الداخلية في مصر
مع ذلك، لا يملك “السيسي” خيارا سوى محاولة التخفيف من حدة التوترات المتعلقة بنزاع حلايب، وذلك لتجنب حصول المزيد من الاضطرابات الداخلية في مصر. وفي هذا الإطار، أرسل وزير خارجيته إلى السودان للقاء نظيره هناك، على أمل أن تتمّ تهدئة الأوضاع. وفي الواقع، أسفر هذا الاجتماع عن بيانٍ مشتركٍ يدعو وسائل الإعلام من كلا الجانبين إلى وقف الحملات العدائية المتبادلة.
بالإضافة إلى ذلك، سافر “السيسي” إلى السعودية في محاولة منه لإصلاح العلاقات مع المملكة، وهو ما يمكن أن يخدم مصالحه في النزاع القائم حول حلايب. ومن غير الواضح ما إذا كان الزعيم المصري قد نجح في إقناع الرياض بموقفه، إلا أنه يواجه في الوقت الراهن وضعا خطيرا للغاية، ومن المحتمل، أن يزداد سوءًا في أي لحظة.
المصدر: فورين أفيرز