في تطور قد يعيد رسم خارطة التوجهات الإيرانية في المنطقة، كشفت صحيفة “الجارديان” البريطانية عن تغيير إيران مسار ممرها البري الذي تسعى لإقامته من أجل الوصول للبحر المتوسط ليضع حلمها في إقامة مثل هذه الممرات على المحك.
طيلة السنوات الماضية سعت طهران إلى إقامة مناطق نفوذ لها في كل من سوريا والعراق بجانب لبنان، وذلك عن طريق سيطرتها على تلك المناطق بنفسها أو وقوعها تحت قبضة قوات وفصائل تحارب عنها بالوكالة، إلا أن التطورات التي شهدتها الساحة السورية والعراقية في الفترة الأخيرة خاصة بعد إعادة الدور الأمريكي مجددًا، أجبرت إيران على إعادة النظر في مخططاتها مرة أخرى.
لجوء طهران لتغيير ممرها الذي عملت على تمريره لسنوات طويلة بصورة مفاجئة فرض العديد من التساؤلات عن دوافع هذه الخطوة وكيف ستؤثر على خارطة النفوذ الإيراني داخل كل من سوريا والعراق، ليبقى السؤال: ما الذي حدث؟
تغيير الممر
بأوامر مباشرة من الجنرال قاسم سليماني قائد لواء القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وحيدر الأميري قائد الحشد الشعبي ( الشيعي) في العراق، أعادت طهران النظر في ممرها القديم نحو البحر المتوسط والذي كان يمتد من الحدود الإيرانية إلى مدينة جلولاء العراقية في محافظة ديالى، ثُمَّ عبر جنوبي الموصل إلى الشرقاط، وبعد ذلك شمالاً إلى تلعفر، وصولاً إلى مدينة حلب السورية.
الممر القديم لطهران كان يستهدف تغطية ما يقرب من 800 ميل (225.31 كم) على الأقل من الحدود الغربية لإيران وعبر وديان نهري الفرات ودجلة والمساحات الشاسعة من الصحراء في العراق وسوريا، وصولاً إلى حزب الله في لبنان، وأخيرًا تنتهي على سواحل البحر المتوسط.
حلم إيران في ممرها القديم كان يهدف أيضًا إلى توسيع نفوذها ليصل إلى هضبة الجولان في محاولة لتضييق الخناق على “إسرائيل” وهو ما أعربت عنه أكثر من مرة، في مقابل تحذيرات تل أبيب المتكررة من مخططات إيران في هذه المنطقة وهو ما دفعها إلى استهدافها بعدد من الصواريخ.
أما الممر الجديد الذي تنتوي إيران إقامته فقد انتقل نحو 140 ميلاً (225.31 كم) جنوبًا، انطلاقًا من مدينة “الميادين” الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” شرقي سوريا، متجنبة بذلك منطقة الشمال الشرقي التي يوجد بها الأكراد، وهي المنطقة التي بحث القادة الإيرانيون في السابق جعلها طريق مهم لهم.
وبحسب خبراء فإن الطريق الذي اختير حديثًا يعبر من دير الزور إلى السخنة وحتى تدمر، ثُمَّ دمشق، باتجاه الحدود اللبنانية، حيث يمكن تحقيق الهدف الرئيسي لدعم حزب الله، ومن هناك يمكن إنشاء ممر آخر يصل اللاذقية بالبحر المتوسط، الأمر الذي يمنح إيران خطَّ إمدادٍ يتجنَّب مياه الخليج العربي، التي تعجُّ بدوريات المراقبة.
وفي الوقت نفسه اقتربت قوات الحشد الشعبي من بلدة “البعاج” الواقعة غربي مدينة الموصل العراقية، والتي تمثل رابطًا رئيسيًا في ممر إيران الجديد، كما أنها المنطقة المعروفة بتمركز زعيم تنظيم الدولة، أبو بكر البغدادي، فيها معظم السنوات الثلاثة الماضية.
ممر إيران الجديد انتقل نحو 140 ميلاً (225.31 كم) جنوبًا، انطلاقًا من مدينة “الميادين” شرقي سوريا، متجنبة بذلك منطقة الشمال الشرقي التي يوجد بها الأكراد
الجنرال قاسم سليماني قائد لواء القدس التابع للحرس الثوري الإيراني
لماذا الآن؟
التدافع السياسي والعسكري داخل العراق وسوريا جعل المشهد أكثر تعقيدًا، فمع فقدان تنظيم “داعش” معاقله سريعًا داخل الأراضي العراقية انتقل وبصورة مكثفة للدفاع عن آخر معاقله في سوريا في مدينتي الرقة ودير الزور، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن إعادة الولايات المتحدة النظر في وجودها العسكري في كل من سوريا والعراق كان له أثر بالغ الأهمية في تغيير قواعد اللعبة على أرض المعركة، حيث باتت لاعبًا أساسيًا في معركة التصدي لـ”داعش” من خلال تسليح المقاتلين الأكراد الذي يواجهون عناصر التنظيم في شمال شرق سوريا.
الوجود الأمريكي المكثف في هذه المنطقة دفع طهران إلى تغيير ممرها القديم نحو البحر المتوسط، وذلك خشية الصدام مع القوات الأمريكية أو المدعومة منها من زاوية، والقلق من زيادة وجودها في الشمال الشرقي السوري، مما يعيق إيران عن تحقيق هدفها نحو الوصول إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط والذي يمثل قيمة كبيرة تساعد في ترسيخ النفوذ الإيراني في المنطقة، من زاوية أخرى.
لجأت طهران إلى تغيير ممرها القديم إلى الجنوب خشية الصدام مع القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا
كيف تتصرف إيران؟
بحسب مسؤول عراقي في تصريحاته للصحيفة البريطانية فإن المسؤولين الإيرانين سيبذلون كل ما في وسعهم لإقامة هذا الممر الجديد في أسرع وقت ممكن، أما عن كيفية ذلك فأشار إلى أن ذلك يعني إنهاء معركة البعاج بأسرع وقت، ثم طرد داعش من الميادين ودير الزور في سوريا، يريدون أن يفعلوا ذلك قبل أن يصل الأمريكيون هناك.
وتكتسب معركة البعاج أهميتها كونها ربما تكون المرحلة الأخيرة من الحرب ضد تنظيم الدولة في العراق، ففي الوقت الذي تواصل فيه القوات العراقية الضغط على عناصر التنظيم في الموصل، يدفع “الحشد الشعبي” الموجود في منطقة تلعفر شمال غرب العراق قرابة 7 أشهر بقواته ضد داعش، إذ باتوا على بعد 3 كيلومترات من أطراف البعاج.
ومن ثم تسعى القوات الإيرانية وفصائلها المختلفة إلى محاولة إنهاء تلك المعركة بأقصى سرعة تمهيدًا لإقامة الممر الجديد وذلك حتى تستطيع فرض السيطرة على المدينة وتطهيرها من تنظيم الدولة قبل أن تفكر واشنطن في التدخل فيها بزعم مقاتلة العناصر المسلحة.
كما أن تزايد وتيرة الخلافات وتباين وجهات النظر بين طهران وموسكو بشأن سير الأحداث داخل سوريا، فضلاً عن إعلان واشنطن استعدادها لمساعدة الرياض في التصدي للحوثيين في اليمن، ساهم بشكل أو بآخر في إضعاف الموقف الإيراني على عكس السابق، وهو ما قد يجبر طهران على التراجع خطوة للوراء والتنازل عن بعض طموحاتها حتى لا تفقد كل شيء.
تسعى إيران إلى إنهاء معركة البعاج وتطهيرها من عناصر “داعش” في أقرب وقت قبل وصول الأمريكان
رغبة إيرانية في إنهاء معركة البعاج العراقية سريعًا
هل يتلاشى الحلم الإيراني؟
العديد من التخوفات تساور قادة طهران في الآونة الأخيرة جراء تعرض حلمهم في توسيع نفوذهم الإقليمي ما بين العراق وسوريا ولبنان واليمن إلى المحاصرة والتطويق وذلك بسبب التوجهات الأمريكية الجديدة التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب والتي تحمل في غالبيتها العداء لإيران ومشروعاتها التسليحية.
تصريحات ترامب ووزير خارجيته ريكس تيلرسون، بشأن مناهضة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، والتفكير في بناء تحالف عربي إسلامي هدفه الأول التصدي للمحاولات التوسعية لطهرن سواء داخل سوريا أو العراق أو اليمن، تعكس رغبة واضحة لدى البيت الأبيض في تقليم أظافر حلفاء روسيا في المنطقة وعلى رأسهم إيران.
كما أن زيارة ترامب للسعودية والمقرر لها بعد يومين تصب هي الأخرى في هذا الشأن، إذ تصاعد الحديث مرة أخرى عن تشكيل “ناتو” عربي مكون من عدة دول بجانب “إسرائيل” لمواجهة إيران، فضلاً عن التعاون الاستخباراتي الذي أبدت واشنطن تقديمه لحلفائها الجدد في المنطقة.
وتبقي الأيام القادمة وما تحمله من ترتيب للأوراق داخل الشأن السوري من جانب وإعادة هيكلة التحالفات الإقليمية من جانب آخر في إطار زيارة ترامب للشرق الأوسط، بالإضافة إلى مدى التنسيق بين واشنطن وموسكو، الفيصل في تحديد خارطة الصراع في المنطقة وموقع النفوذ الإيراني من هذه الخارطة.