شكّلت عملية “طوفان الأقصى” التي بدأتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ضد دولة الاحتلال، مفارقة في الوضع الفلسطيني، الذي باتت لديه قدرة المباغتة بعد أن كان يتلقى الضربات طيلة العقود السبعة الماضية.
وحرّكت “إسرائيل” قطعاتها البرية قبل نحو أسبوعَين، ضمن عمليتها الانتقامية، التي بدأتها مباشرة بعد الطوفان، الهادفة إلى احتلال القطاع ومحاولة القضاء على حركة حماس، واسترجاع أكثر من 240 مختطفًا لدى مختلف الفصائل.
بيد أنه، ورغم أن العملية البرية مضى عليها كل هذه المدة، إلا أنها لم تحقق ما كانت تصبو إليه تل أبيب، لا سيما بعد أن حاول الكثير من القادة العسكريين الغربيين تشبيه الحرب البرية على غزة بالحرب الأمريكية على مدينتَي الفلوجة والموصل العراقيتَين.
ورغم أن معركة الفلوجة قد تكون مختلفة قليلًا عن حرب الموصل، بيد أن كلا الحربَين لا يمكن مقارنتهما مع واقع حرب غزة، ولأسباب عديدة عسكرية وجغرافية وأمنية واجتماعية.
تشبيه خاطئ
نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن مسؤولين أمريكيين، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن شارك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مخاوفه، بشأن الخطة الإسرائيلية للهجوم البري على غزة الذي لم يكن قد بدأ بعد.
وأضاف الموقع أنه، ورغم “دعم بايدن الكامل لـ”إسرائيل” وحقها في ضرب حركة المقاومة الإسلامية (حماس)” بحسب زعمها، فإن بايدن عمل وبشكل منهجي ودقيق على تأخير الغزو البري لغزة، وأوضح أيضًا أن أمريكا لا تريد أن تتصرف “إسرائيل” بشكل متهور، أو دون أخذ مخاوف الولايات المتحدة بعين الاعتبار.
ويريد بايدن، وفقًا للموقع الأمريكي، أن يكون الغزو الإسرائيلي أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004 عندما لحق بالجيش الأمريكي خسائر فادحة، وبالتالي ترى الصحيفة أنه ولهذه الأسباب أرسل بايدن الجنرال جيمس غلين، الذي ترأّس سابقًا العمليات الخاصة لمشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، لتقديم المشورة للإسرائيليين بشأن تخطيطهم العسكري.
وبعد أكثر من أسبوعَين على بدء العملية البرية في غزة، كشفت شبكة “الجزيرة” الإخبارية أن فريق التحقيقات مفتوحة المصدر في وكالة “سند” التابعة للشبكة، تمكّنت من تحليل صور أقمار صناعية بيّنت عدد آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومواقع تمركزه ومسارات تقدمه داخل قطاع غزة.
وأضافت شبكة “الجزيرة” أن الفريق اعتمد على صور أقمار صناعية عالية الجودة خلال الفترة من 1 إلى 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، لتحليلها بشكل معمّق واستخلاص المعلومات عبر برمجيات خاصة.
واستنتج فريق التحليل العديد من المعلومات والمؤشرات، التي تدل على أن جيش الاحتلال تكبّد خسائر كبيرة خلال هذه الفترة، إذ إن العدد الإجمالي للآليات يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني بلغ 295، بانخفاض 88 آلية عن اليوم الثالث من الشهر نفسه حيث كان عدد الآليات 383، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المتحدث باسم كتائب القسام كان قد أعلن عن تدمير 136 آلية عسكرية بشكل كلي أو جزئي، في محور بيت لاهيا وبيت حانون شمال قطاع غزة.
وتدل تحقيقات “الجزيرة” على أنه وبعد مضيّ أكثر من أسبوعَين على العملية البرية، لم تحقق “إسرائيل” أي إنجازات كبيرة على الأرض، باستثناء القتل الهمجي للمدنيين والبنى التحتية، وهو ما يراه محللون أنه فنّد النظرية الأمريكية بأن التقدم البطيء في غزة على غرار معركة الموصل يمكن أن يساعد دولة الاحتلال.
تبايُن كبير
في السياق ذاته، وفي خضمّ الحديث عن الفرق الكبير بين طبيعة المعركة في كل من الموصل عام 2016 وغزة عام 2023، يقول الخبير العسكري حسن العبيدي إن ما تحدّث عنه الخبراء الأمريكيون عن أن حرب غزة يجب أن تتبع مسار حرب الموصل منافٍ للواقع والحقيقة والميدان.
موضحًا أن الموصل تختلف عن غزة في جميع المجالات، سواء القوة الماسكة للأرض عام 2016، وهم مقاتلو تنظيم “داعش”، أو طبيعة القوات المهاجمة للموصل، أو مساحة المدينة وعدد سكانها وطبيعتها وتضاريسها وغيرها الكثير من العوامل.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، أشار العبيدي إلى أن الموصل كانت تعاني من احتلال تنظيم متطرف إرهابي، محطّ كره شديد من سكان مدينة الموصل، على مدى أكثر من 3 سنوات، فضلًا عن أن مدينة الموصل تعدّ واسعة جغرافيًّا من حيث المساحات المفتوحة، وتوفّر نهر دجلة الذي يشطرها إلى قسمَين.
هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الأبنية فيها متفرقة وغير متلاصقة على النحو الذي في قطاع غزة، مع اعتماد الموصل في بنائها على النظام الأفقي دون العمودي، وهو ما يشكّل عوامل مؤثرة بشكل كبير خلال وضع الخطط العسكرية قبيل المعارك.
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالجانب العسكري، يؤكد العبيدي أن أي جيش في العالم مهما كان تقدمه، لن يستطيع تحقيق أهدافه في قطاع غزة، لافتًا أن هناك مدينة كاملة تحت الأرض، تتمثل بالأنفاق التي تمتد بحسب تقارير إلى أكثر من 500 كيلومتر، وعلى عدة طبقات.
ويضيف معلقًا بالقول: “أرى استحالة التعامل مع الأنفاق بالنسبة إلى “إسرائيل”، إذ إنها لا تعلم أي شيء عنها، سواء ما يتعلق بالمسارات أو الاستخدام أو غير ذلك، مثل فتحات هذه الأنفاق نحو سطح الأرض وطرق التهوية والتنقل، ومخازن الصواريخ والعتاد والطبابة ومراكز القيادة والسيطرة، وكل هذه العوامل تجعل أي حرب برية في غزة دخولًا إلى الجحيم”.
وعن التقدم الذي أحرزه جيش الاحتلال خلال الأيام الماضية وتعليقه على ذلك، يؤكد العبيدي أن المعركة لا تزال مستمرة، وأن الغزاة يتكبّدون خسائر فادحة، وأن مفاجآت المقاومة الفلسطينية لم تنتهِ بعد، بل قد لم تبدأ أصلًا بريًّا.
اختلاف الظروف
في سياق ذي صلة، يقول الخبير الأمني والاستراتيجي رياض العلي، إن معركة الموصل تختلف جذريًّا من حيث السياق العسكري، إذ إن المحاصرين المدنيين في الموصل كانوا رافضين لتواجد تنظيم “داعش”، وكانوا ينتظرون دخول القوات الأمنية العراقية لتحريرهم من مقاتلي التنظيم.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، أضاف العلي أن الجيش العراقي والقوات المشاركة في معركة الموصل كانت تعمل على تأمين المدنيين الفارّين من المعركة، وهو ما حصل في جميع مناطق الموصل باستثناء منطقة الموصل القديمة، منوهًا إلى أن هذه العوامل ليست متوافرة في قطاع غزة.
حيث عمدت قوات الاحتلال قصف النازحين الفارّين من شمال القطاع إلى جنوبه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سكان القطاع داعمون للمقاومة ومناوئون للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني بالمحصلة أن المقاومة الفلسطينية تحظى بحاضنة شعبية رصينة تؤمن بما تفلعه، بحسب تعبير العلي.
أما عن البُعد الأيديولوجي، فيرى الباحث في علم الاجتماع مصطفى أحمد أن البُعد الأيديولوجي للحرب الدائرة في قطاع غزة، يبيّن أن سكان القطاع يؤمنون بما تقوم به فصائل المقاومة الفلسطينية، ويؤمنون بمقارعة الاحتلال الإسرائيلي، دون ظهور أي علامات تدل على التنكيل بأهالي القطاع خلال فترة حكم حماس لقطاع غزة منذ عام 2007.
مبيّنًا ان هذه الإشارات تعدّ على نقيض ما كان يفعله تنظيم “داعش” لسكان المناطق التي سيطر عليها في العراق، من تنكيل وقتل ونهب وإعدامات بحجج واهية.
وتعريجًا على هذه الأسباب والدلالات، يعتقد الباحث السياسي والاقتصادي أنمار العبيدي، أن ما يجري في قطاع غزة من هجمات على المدنيين العزل تسبّب في خسائر باهظة للكيان الإسرائيلي، لا سيما أن وزارة الدفاع استدعت قرابة 380 ألف جندي من الاحتياط، وهؤلاء كانوا يعملون في المصانع والشركات وغيرها.
وبالتالي محاولة استدعاء خطة حرب الموصل لا يمكن تحقيقها إسرائيليًّا، التي دائمًا ما كانت تعتمد في صراعاتها على الحروب الخاطفة التي لا تتجاوز الأسابيع، ما يعني أن تمدُّد الحرب لأسابيع قادمة سينذر بكارثة اقتصادية على الكيان، إضافة إلى الكوارث العسكرية والأمنية التي ستحل به، نتيجة مقاومة فصائل غزة واحتمالية اتساع الصراع إلى دول الإقليم.
بعد مضيّ 39 يومًا على الحرب الهمجية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وبعد أكثر من أسبوعَين على انطلاق العملية البرية، يبدو أن “إسرائيل” فشلت في جميع خططها العسكرية لاقتحام القطاع والبقاء فيه، فما هو فوق الأرض يختلف عمّا تحتها، وطبيعة غزة فريدة في نوعها عسكريًّا وجغرافيًّا، وهو ما أشار إليه العديد من المراقبين إلى أن حرب كحرب غزة التي تجري حاليًّا لم تشهد لها البشرية مثيلًا.