ترجمة حفصة جودة
أعيش الآن على بُعد 4 آلاف كيلومتر من الخوف والجوع والعطش والقصف والدمار والأنقاض والمدرعات والطائرات الحربية وضوضاء المسيرات التي تطير على ارتفاع منخفض وأصوات سيارات الإسعاف وصرخات الأطفال ووجوه أحبتي.
أعيش في قرية هادئة على ضفاف نهر التاين في بريطانيا، حيث أكبر مخاوفي هنا اضطراب خطوط السكة الحديدية وارتفاع تكلفة المعيشة، في الوقت نفسه يعيش أحبابي في غزة حيث تتمثل أكبر مخاوفهم في تجنب الموت على يد الغارات الجوية الإسرائيلية والعثور على كوب من المياه الصالحة للشرب.
في يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول، مع استعادة الاتصال عقب الانقطاع الكبير، أرسل شقيقي محمد صورة له بين عدة زجاجات مياه، فقد أحس أنه بطل بعد أن تمكن من تأمين هذه المياه للعائلة، ثم أرسل صورة أخرى مع طفله بعد أن حلق كلاهما شعر رأسه، معتقدًا أن المرة القادمة التي سيحتاجان فيها إلى حلق شعرهما ستكون الحرب قد انتهت.
ضحكنا بعد أن أدركنا كيف تجعلنا الحرب مقدرين ما اعتدنا وجوده واعتبرناه أمرًا مفروغًا منه، كل شيء تحول إلى رفاهية: وجبة ساخنة، ليلة نوم هانئة في السرير، مياه نظيفة للشرب، استخدام الشامبو المفضل في أثناء الاغتسال بمياه دافئة.
لكن محمد توقف عن الرد على رسائلي، وبعد نصف ساعة أرسل صورة لغرفة معيشتنا وقد أصبح لونها رمادي ومحطمة جزئيًا، شعرت بالذعر وأخبرته أن يترك المنزل فورًا إذا كان قد تعرض للقصف، كنت أشعر أن القادم أسوأ.
خرجت عائلتي من المنزل، وحملوا معهم حقائبهم التي كانوا قد أعدوها سابقًا ووضعوها بجوار الباب منذ اندلاع الحرب، حملوا الأطفال وخرجوا مسرعين، بعد عدة دقائق ضربت غارة جوية أخرى منزلنا ودمرته بالكامل، لقد تمكنوا من النجاة لحسن حظهم.
أطول ليلة
قضت عائلتي الليلة في منزل أحد الجيران، كانت تلك الليلة طويلة للغاية، وفي أثناء مشاهدتي الأخبار رأيت المكان الذي تسكن فيه عائلتي – تل الهوى – وقد تعرض لقصف شديد، خشيت ألا يصمدوا حتى الصباح، وتوسلت لهم أن يذهبوا إلى الجنوب، لكن الرحيل لم يعد خيارًا، فلم يستطيعوا العثور على سيارة ولم يعد آمنًا الذهاب إلى أي مكان.
كنت أفكر في منزلنا ذي الـ3 طوابق حيث عاش والديّ وشقيقي وشقيقتي وأسرهما، خلال أقل من ساعة انقلب حياتهم رأسًا على عقب وأصبحوا مشردين
يقع مستشفى الأقصى بجوار منزلنا، وهو ملجأ لآلاف الفلسطينيين في غزة منذ بداية الحرب، أرادت عائلتي الذهاب إليه اعتقادًا منها أنه أكثر الأماكن أمانًا، لكنني توسلت إليهم مرة أخرى ألا يذهبوا إليه لأنني شاهدت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر القصف في محيط المستشفى.
أخبرني شقيقي أن أحد أصدقائه وعده بالقدوم في الصباح ونقلهم إلى الجنوب في حال توقف القصف الجوي، كان علينا أن ننتظر حتى الصباح، فلم يكن لدينا أي خيار آخر.
كانت تلك الليلة أطول ليلة في حياتي، فقد كنت أفكر في أسوأ السيناريوهات، وودعت عائلتي في صمت، كنت أفكر في منزلنا ذي الـ3 طوابق حيث عاش والديّ وشقيقي وشقيقتي وأسرهما، خلال أقل من ساعة انقلب حياتهم رأسًا على عقب وأصبحوا مشردين.
كنت أقول لنفسي: “لا بأس ما زالوا أحياءً على الأقل، فمن يهتم ببضعة أحجار على أي حال؟ هذه المنازل بُنيت لحمايتنا، وإذا فشلت في مهمتها لم يعد لها أهمية”، هذا ما نقوله لأنفسنا لأننا نشعر بالعجز، لكن في الحقيقة كان المنزل أكثر من مجرد أحجار متراصة، لقد كان منزلنا وكنت بحاجة للحزن على خسارته.
ذكريات المنزل
بنى والديّ هذا المنزل عندما كان عمري 13 عامًا، أتذكر عندما كانا يختاران من بين التصميمات ويسألانا أين نريد أن تقع غرف نومنا، أتذكر الحفلات ومبيت الأصدقاء وارتفاع الضحكات فيه، أتذكر حفل تخرجي، أتذكر ولادتي لطفلي الذين قضى أول شهرين من حياته في هذا المنزل حيث يرعانا والديّ.
كان منزلنا جميلًا يمتلئ بصور الأبناء والأحفاد والتطريزات الفلسطينية التي تصنعها أمي بيديها، في ذلك المنزل طبخت كثيرًا واستضافت الناس طوال الوقت، كان بإمكانك أن تشم رائحة طهيها بمجرد أن تفتح باب المنزل.
لكن ذكرياتنا لم تكن جميعها سعيدة، فأنا أتذكر جيدًا الخوف الذي أحسست به في هذا المنزل في حرب غزة 2008-2009 التي كانت أول حرب أعيشها، كنت قد دخلت غرفتي لتصفيف شعري وفجأة رأيت مبنى ينهار أمامي من النافذة.
قضينا جميعًا تلك الحرب تحت الدرج بينما كانت الدبابات الإسرائيلية تقتحم تل الهوى، ما زلت أسمع أصوات الدبابات وصرخات الرجل الذي أطلق جندي إسرائيلي النار عليه وتركه ينزف حتى الموت، فقد توقفت الصرخات فجأة، لا أريد أن أتذكر حربًا أخرى، بينما نعيش حربًا بالفعل.
أخذتني ذكرياتي إلى 2020 حين كانت آخر مرة أرى فيها عائلتي في غزة، طهت أمي كل أصناف الطعام التي أحبها عندما جئت لزيارتهم من المملكة المتحدة، قضيت الوقت في غرفتي القديمة لكن مع طفلي هذه المرة، لم أكن أتخيل مطلقًا أنها ستكون المرة الأخيرة التي أجلس فيها في بيتنا.
بينما أتذكر ذلك كله، نبهت نفسي إلى أنني يجب أن أقلق الآن على سلامة عائلتي فقط، لقد قتلت “إسرائيل” ذكرياتي، لكن عندما يتعلق الأمر بعائلتي فأتمنى ألا يصل الأمر إلى ذلك.
لقد دُمر كل شيء
في يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول، أخبرني شقيقي أنهم تمكنوا من الفرار، وقد كان الطريق الآمن الذي حددته “إسرائيل” مدمرًا، فأخذوا طريقًا آخر، كان من المفترض أن تستغرق الرحلة 15 دقيقة فقط، لكنها استغرقت ساعتين.
يصف شقيقي مشاهد الدمار قائلًا: “لم أستطع أن أتعرف على المكان الذي كنا نسير فيه، فكل شيء حولنا يبدو متشابهًا، لقد دُمر كل شيء”.
لم يصرخ ابن أختي ذو الأربع سنوات عندما وقع القصف، حتى إن شقيقتي ظنت في البداية أنه ميت، فقد تحطمت كل النوافذ في الغرفة التي كان يجلس بها
ذهبت العائلة إلى منزل صديق جنوب وداي غزة للمرة الثانية، فقد ذهبوا لفترة وجيزة أول الحرب عندما أصدرت “إسرائيل” أوامر للجميع بمغادرة الشمال، لكنهم عادوا إلى المنزل، متحدثين عن الظروف الإنسانية البائسة في الجنوب.
يقول شقيقي إنه اضطر في مرة إلى التنقل من متجر إلى آخر لمدة ساعتين بحثًا عن مياه للشرب وسط القصف، ثم عاد وهو يحمل 6 زجاجات مياه، فبسبب انتقال مئات الآلاف إلى الجنوب في نفس الوقت، أصبح الطلب يتجاوز المعروض بشكل كبير.
لم تبق عائلتي في الجنوب إلا بضعة أيام فقط هذه المرة أيضًا، وذلك بعد أن تعرض الحي الذي يعيشون فيه للقصف يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني، ما تسبب في قتل العشرات، تقول شقيقتي إن غرباءً دقوا باب المنزل وطلبوا منهم أن يصعدوا إلى سطح البيت بحثًا عن أطفال مفقودين أو جثث موتى.
لم يصرخ ابن أختي ذو الأربع سنوات عندما وقع القصف، حتى إن شقيقتي ظنت في البداية أنه ميت، فقد تحطمت كل النوافذ في الغرفة التي كان يجلس بها، أسرعت شقيقتي إليه وأمسكت به، فقال لها: “أمي، لقد رأيت النار في المرآة، رأيت نيران كثيرة”، كان الصبي متجمدًا في مكانه.
فرت عائلتي مرة أخرى إلى أحد المراكز في رفح، الذي يستضيف الفارين من الشمال ولم يجدوا مكانًا أو عائلة يلجأون إليها، ما زال أفراد عائلتي أحياءً حتى اليوم، ينامون على مراتب أو أغطية في فصل مدرسي، لا يملكون مطبخًا أو ثلاجة ويتشاركون دورة المياه مع جميع الناس هناك، وما زال شقيقي يخرج كل يوم للعثور على طعام ومياه وحفاضات للأطفال.
في يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني وصلتني رسالة مش شقيقتي تقول: “حلا، لقد اغتسلت أخيرًا”، لم أصدق مدى سعادتي بتلك الرسالة.
بينما أفكر فيما يحدث، أشعر أنني محظوظة وغير محظوظة في الوقت نفسه، فأنا محظوظة لأن أفراد عائلتي ما زالوا أحياءً، لكنني غير محظوظة لأسباب عديدة، فلم ألتق بعد بابن أخي الذي يبلغ من العمر 5 أشهر واسمه – للسخرية – سلام، أتساءل هل يعيش حتى أراه وهل سيعيش حياته في سلام.
المصدر: ميدل إيست آي