يطلّ على الأمة الإسلامية والعالم أجمع، بين الفينة والأخرى، ملثمًا يغطي وجهه بكوفية حمراء، رأسه معصوب بشريط كتب عليه “كتائب القسام”، يجتمع لسماع كلماته الصغار والكبار، النساء والرجال، لتلقي جرعة من المعلومات والأمل، حتى الأعداء ينتظرون إطلالاته الإعلامية القصيرة لمعرفة المستجد، وهو مصدّق عند الإسرائيليين كما عند أبناء شعبه.
نتحدث هنا عن البطل الملثم، مرعب الإسرائيليين وحبيب أنصار القضية الفلسطينية من عرب وعجم، “أبو عبيدة” الذي ألهب قلوب الشعوب الحرة، وأيقظ فيهم الكبرياء والأنفة والمشاعر الإنسانية.
تيمّن بفاتح القدس
يُقال إن اسمه “حذيفة سمير عبد الله الكحلوت”، لكن هذه المعلومة مشكوك في صحتها، فالأرجح أن اسمه مجهول لدى العموم ولا يعرفه إلا قلة قليلة من المحيطين الأقربين له، وإلى الآن لا اسم ولا صورة أو ملف له لدى الموساد، أو الاستخبارات العسكرية (أمان) أو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، أو حتى سلطة أبو مازن التي امتهنت التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال.
إلى الآن، تبقى هوية “أبو عبيدة” – الذي يشغل منصب المتحدث الإعلامي الرسمي لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس – غير معروفة، لدى العموم كما لدى استخبارات الاحتلال، وما يُشاع عنه مجرد تخمينات.
تقول الرواية الإسرائيلية إن أبو عبيدة ينحدر من قرية “نعليا” في غزة، التي احتلها الكيان الصهيوني سنة 1948، وعاش في جباليا شمال شرق غزة، وتعرض منزله للقصف الإسرائيلي أكثر من مرة أعوام 2008 و2012 و2014، إلا أنها رواية كغيرها من الروايات الإسرائيلية لا تقف على ثابت.
أما عن اختياره لكُنية “أبو عبيدة” فهذا معلوم للجميع، تيمنًا بالصحابي الجليل فاتح القدس الشريف وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أبو عبيدة بن الجراح، الذي أرسله النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى نجران يعلم أهلها الإسلام والقرآن، ويقضي بينهم بالقسط والميزان، قائد الجيوش الإسلامية، وفاتح الديار الشامية، وأمين الأمة المحمدية صاحب الخلق القويم، والسلوك المستقيم، والقلب الرحيم، والعقل الحكيم.
عاهد أبو عبيدة بن الجراح النبي محمد أن ينفق حياته في سبيل الله وأوفى بعهده وأبر بوعده، وكذلك فعل القائد القسامي، إذ عاهد الفلسطينيين والأمة الإسلامية جمعاء وأحرار العالم أن ينفق حياته نصرة للقضية المركزية الأولى للأمة، فكان صوت فلسطين في أوقات الملاحم والمعارك.
أبو عبيدة بن الجراح، قائد مسلم شجاع مشهود له بالتقوى والزهد وحسن العبادة، يخشاه أعداء الأمة ويخافون صوته ورؤيته، وكذلك القائد القسامي الذي يخشاه الإسرائيليون رغم عدم حمله السلاح، فكلماته أشد وطأة عليهم من الرصاص.
البداية مع أسر جلعاد شاليط
يعود أول ظهور للقائد أبو عبيدة على الشاشات إلى يوم 25 يونيو/حزيران 2006، ففي ذلك اليوم برز أبو عبيدة لأول مرة ليعلن تنفيذ المقاومة الفلسطينية الباسلة عملية “الوهم المتبدد” شرق مدينة رفح، التي أدت إلى مقتل جنديين إسرائيليين وجرح اثنين آخرين.
في ذلك اليوم، زفّ القائد القسامي خبرًا آخر مفرحًا للمسلمين، وكل أنصار القضية الفلسطينية وهو أسر الجندي جلعاد شاليط، الذي أطلق سراحه فيما بعد في إطار صفقة “وفاء الأحرار” مقابل الإفراج عن 1027 أسيرًا فلسطينيًا، بينهم 500 من ذوي الأحكام بالمؤبد والأحكام العالية، وتعد الصفقة هي الأكبر في تاريخ عمليات التبادل بين الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية.
في ذلك اليوم، لم يتم التعرف على شخصية من زف هذه الأخبار السارة للأمة الإسلامية، فقط ما عُرف عنه حينه أنه قائد فلسطيني بطل يتحدّث باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام يُكنى بـ”أبو عبيدة”، وإلى الآن هذا ما يُعرف عنه رغم محاولات الاستخبارات الصهيونية الوصول إليه.
لم يغب أبو عبيدة منذ ذلك التاريخ عن شاشات التلفزة، فغالبًا ما يطلّ بهويته المجهولة لنقل رسائل وبيانات كتائب القسام وحركة حماس إلى الشعب الفلسطيني والعالم الخارجي، وفي تقديم تصريحات وبيانات تتعلق بالأحداث والتطورات في غزة وكامل فلسطين المحتلة.
نجومية لم يطلبها
أصبح أبو عبيدة محط متابعة كل مهتم بالقضية الفلسطينية، وبلغ نجومية لم يطلبها ولم يصلها أحد قبله من قادة المقاومة، إذ أصبح أقرب إلى الأيقونة أو الرمز، يختزل صوت المعركة.
تجتمع العائلات في هذه الأيام حول شاشات التلفزة في انتظار طلته البهية، لمعرفة آخر تطورات الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، التي أسفرت حتى أمس عن استشهاد 11240 فلسطينيًا، بينهم 4630 طفلًا و3130 امرأةً، وإصابة 29 ألف وتدمير 41120 وحدةً سكنيةً و94 مقرًا حكوميًا و253 مدرسةً و71 مسجدًا و3 كنائس.
ينتاب الفضول جميع المهتمين بالقضية الفلسطينية لمعرفة شخصية أبو عبيدة، لكن القلوب تلهج بالدعاء له وتتمنى له السلامة أكثر من محبتها لتعرف هويته في وقت يعد فيه أحد أبرز الملاحقين في لوائح الشرف التي تنشرها دولة الاحتلال. صوته المميز وكوفيته الحمراء تكفيان الآن.
يحتاج الفلسطينيون والمسلمون كافة إلى ناطق باسمهم، يشدّ أزرهم ويرفع معنوياتهم ويكسر شوكة المحتل الصهيوني الغاصب، ويعبر عن الغضب العارم المكتوم داخلهم، ووجدوا في أبي عبيدة ضالتهم، فهو بمثابة المعبّر عن أمل الأمة.
خلال إطلالاته التليفزيونية، يسكت الجميع ويصغي إليه، فقد خصته كتائب الشهيد عز الدين القسام بتفصيل وتفسير سير العمليات العسكرية للمقاومة الفلسطينية الأبية وبيان المواقف في أغلب الجبهات، فأصبح الناس على موعد شبه يومي معه.
حتى الإسرائيليين، أصبحوا يصدّقون أبي عبيدة أكثر من قياداتهم الحربية التي تروج لانتصارات وهمية، أثبتت المعارك الميدانية أنها من نسج خيال الإسرائيليين حتى يحافظوا على وحدة المجتمع الداخلية، ويضمنوا دعم قادة الغرب لهم.
إطلالاته شبه اليومية في هذه الأيام لا تمر مرور الكلام، ففضلًا عن متابعتها والإصغاء إليها عن كثب، يظل الشباب العربي يردد العديد من عباراته، خاصة تلك التي ينهي بها عادة مداخلاته الإعلامية، “وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد”.
مؤخرًا، انتشرت صورة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مدن عربية، التُقطت من داخل صالة رياضية في العاصمة الأردنية عمان، أظهرت عددًا من الشبان داخل الصالة، وهم يوقفون تمارينهم الرياضية لمتابعة خطاب يدلي به أبو عبيدة.
صوت يطمئن الأمة
سر اهتمام العرب به، منحهم الطمأنينة والكبرياء في زمن عرفت فيه الأمة الذل والهوان، نتيجة ارتهان قادتها إلى الغرب الاستعماري، وتغليب مصالحهم الشخصية على مصلحة الشعوب التي تتوق للحرية والصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
غاب القادة العرب الذين يفترض أن يعبروا عن وجدان الشعوب، فحضر أبو عبيدة، فصوت رجل واحد يطمئن أمة تتوق منذ عقود إلى تحقيق انتصار عسكري ضد الاحتلال الصهيوني، قال أبو عبيدة: “زمن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر قد ولّى، والمعركة الحاليّة ستكون فاصلة في تاريخ الأمة”، وقد صدق في ذلك.
في إطلالاته شيه اليومية، أكد أبو عبيدة أن المقاومة تتحكم بمجريات الميدان في معركة “طوفان الأقصى” المستمرة، ومستعدة لمعركة طويلة، وخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قائلًا: “عليك أن تعد جنودك جيدًا.. فلا تخطئوا التقدير”.
طمأن أبو عبيدة الشعوب وتهكّم على القادة، ففي إحدى إطلالاته السابقة قال موجهًا كلامه للزعماء: “إننا لا نطالبكم بالتحرك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم، لا سمح الله”… وسرت “لا سمح الله” على كل لسان بعد ذلك.
لكل سلاحه الذي يتقن الحرب به
يحارب عناصر المقاومة في الميادين، مرابطين دفاعًا عن شرف الأمة، لا يخافون آلة الحرب الإسرائيلية ولا يخشون عتاد الصهاينة الذي أثبت واقع الميدان أنه مجرد خردة حولتها المقاومة إلى كومة من الحديد في شوارع غزة الصامدة.
فيما يحارب أبو عبيدة في مجال آخر، وهو الحرب الإعلامية، الذي أثبتت حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية تفوقها فيها أيضًا، إذ نجح أبو عبيدة في إيصال رسائل المقاومة للأنصار والأعداء على حد سواء طيلة أيام الحرب الماضي، وما زال يواصل في ذلك.
أصبح أبو عبيدة جزءًا من حرب نفسية شديدة الوطأة على الإسرائيليين، وهو ما أقر به علنًا نتنياهو نفسه ورئيس حربه والمتحدثين باسم جيش الاحتلال، وهو ما يعني أن الملثم بات رقمًا صعبًا في معادلة الحرب الإعلامية.