هناك حقيقة قانونية تفيد بأن الاعتراف سيد الأدلة، فإذا ما اعترف المتهم بالذنب الذي ارتكبه، فلا حاجة للبحث عما يثبت مسؤوليته عنه، والشاهد في ذِكر هذه الحقيقة القانونية، ما صرح به رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يوم الأربعاء الماضي، وإقدامه على الاعتراف علنًا بمسؤولية ما يسمى “الحشد الشعبي” بالإضافة إلى منتسبين في الأجهزة الأمنية، بالضلوع في عمليات الخطف والإخفاء القسري وحتى الاغتيالات التي تشهدها الساحة العراقية.
توصل إلى تلك الحقائق عبر تحقيقات أُجريت مع الذين ألقيَّ القبض عليهم من تلك العصابات، واعترافهم بانتمائهم لمليشيات الحشد والأجهزة الأمنية، وبما أن العبادي دستوريًا هو القائد العام للقوات المسلحة، وما يسمى بـ”الحشد الشعبي” يرتبط به مباشرة حسب قرار البرلمان الذي أعطى لتلك المليشيات الشرعية القانونية، بالتالي فإن العبادي يعتبر المسؤول الأول عن تلك الجرائم قانونيًا.
كشفه لتلك الجرائم لا يعفيه من مسؤوليته عنها
ولا يُعفى العبادي من مسؤوليته عن تلك الجرائم بمجرد الاعتراف بوجودها وتشخيص الذين قاموا بها، إلا إذا قام باتخاذ الإجراءات القانونية بحق تلك المليشيات الإجرامية، وبحق من ينتسبون للقوى الأمنية، وإلا فإن القانون الدولي يجرمه بحسب ما جاء في المادة 6 من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والعراق من الدول التي وقعت على تلك الاتفاقية، والتي تنص: “المسؤولية الجنائية تقع على كل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئًا أو يشترك في ارتكابها، وتقع هذه المسؤولية، أيضًا على من تعمد إغفال معلومات كانت تدل على وجود جريمة اختفاء قسري، أو أنه لم يتخذ التدابير اللازمة لأغراض التحقيق والملاحقة القانونية لمرتكبي تلك الجرائم”.
للعبادي دور كبير في تحرير الرهائن القطريين الذين اختطفوا في العراق من قبل إحدى المليشيات التابعة للحشد الشعبي وهي “مليشيا حزب الله”، والفدية التي قدمتها الحكومة القطرية استلمتها الحكومة العراقية وباعترافها
والأدلة كلها تشير بأن العبادي ساهم بإخفاء معلومات مهمة تتعلق بجرائم الخطف والقتل الطائفي والتعذيب، حيث يشير اعترافه أن لديه معلومات على تورط المليشيات ومنتسبي الأجهزة الأمنية بتلك الجرائم، ومع ذلك فهو لم يشارك تلك المعلومات للأجهزة القضائية لتتخذ الإجراءات القانونية بحقهم، كما أنه لم يتخذ أي إجراء بحق المليشيات المتورطة بهذه الجرائم بصفته التنفيذية، ولم يبق للمتضررين من تلك الجرائم سوى اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية لتقديم أولئك المجرمين إليها.
يُذكر أن للعبادي دورًا كبيرًا في تحرير الرهائن القطريين الذين اختطفوا في العراق من قبل إحدى المليشيات التابعة للحشد الشعبي وهي “مليشيا حزب الله”، والفدية التي قدمتها الحكومة القطرية استلمتها الحكومة العراقية وباعترافها، بالإضافة إلى تصريحات وزير الخارجية القطرية الذي أفاد بأن الأموال التي طلبها الخاطفون تم تسليمها للحكومة العراقية التي يرأسها العبادي، مما يدلل بشكل قاطع على ارتباط العبادي بعلاقة وثيقة مع تلك المليشيات، ويتم تبادل المنافع معها.
سَمِّن كلبك يأكلك
تقول الحكاية القديمة إن رجلاً كان له كلب، فكان يسقيه اللبن، ويطعمه اللحم ويسمنه ويرجو أن يصيد به، أو يحرس غنمه، فأتاه الكلب ذات يوم وهو جائع، فوثب على صاحبه فأكله، فقيل بعدها: سمِّن كلبك يأكلك، وحال ذلك الرجل يشبه كثيرًا حال العبادي.
فلطالما دافع العبادي وحكومته عن تلك المليشيات، وكذّب كل التقارير التي تشير لمسؤوليتهم عن الجرائم التي ارتكبوها بحق العراقيين، بل إن العبادي سعى هو ومن معه، لإضفاء الشرعية على تلك المليشيات من خلال قانون الحشد الذي أقره البرلمان، وأضافوا عليه هالات من القدسية فوصفوه “بالحشد المقدس” وهو أقرب للوضاعة منه إلى التقديس، وأغدقوا عليه من الأموال الشيء المبالغ فيه، حتى وصل الأمر إذا تأخرت استحقاقاتهم المالية، لجأوا لسرقة المواطنين أو خطفهم لقاء الفدية المالية، فالعبادي الآن غير قادر على تأخير تلك الرواتب أو تقليلها خشية من انفلاتهم وتهديد سلطته.
أصبح للحشد الشعبي طموحات سياسية، فهم يهيئون أنفسهم للمشاركة بالانتخابات من أجل السيطرة على كامل الدولة بمقدراتها
لم تكتف المليشيات بذلك، بل أصبح لهم طموحات سياسية، فهم يهيئون أنفسهم للمشاركة بالانتخابات من أجل السيطرة على كامل الدولة بمقدراتها، لكيلا يبقوا على منيَّة العبادي أو غيره من السياسيين، بل إنهم يتوقون لإعادة تجربة الحرس الثوري الإيراني في سيطرته على كل مفاصل الاقتصاد الإيراني، وبالنهاية هم يريدون ربط العراق وكل مقدراته بالنظام الإيراني.
ومن أجل تحقيق ذلك، فهم يتحالفون مع المالكي ضد ولي نعمتهم العبادي، حتى انطبق عليهم المثل العربي القديم “سمن كلبك يأكلك”، وها هي المليشيات الآن تكشر على أنيابها بوجه العبادي بعد أن فضحهم ويكاد يتخلى عنهم، ولا نستبعد أن ينقضوا عليه قريبًا، إلا إذا وقف بصفه أسياده الجدد (الأمريكان) ليدافعوا عنه.
ما لنا لا نسمع للسيستاني صوتًا؟
رجل الدين الشيعي “علي السيستاني” الذي أفتى بما يسمى “الجهاد الكفائي” بحجة مساعدة القوات الحكومية بقتال داعش، جعلت شباب الشيعة ينضمون للمليشيات، لتقودهم تلك الملشيات ليلقوا حتفهم في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والسؤال الذي يتبادر للذهن، هل كانت قوات الحكومة العراقية يا ترى، بحاجة للمزيد من الرجال؟
ففي الموصل كان هناك ما يزيد على ثلاث فرق عسكرية، من غير الشرطة المحلية وشرطة الحدود وغيرها من التشكيلات العسكرية، بواقع يصل إلى تسعين ألف مقاتل، ومع ذلك فقد هربت كل تلك القوات أمام 300 مسلح داعشي، تاركةً خلفها ترسانة هائلة من الأسلحة هدية وغنيمة لهذا التنظيم الإرهابي، أم إن وراء تلك الفتوى أغراض أخرى؟ نرى نتائجها الآن، من تطهير طائفي لكل المناطق التي استولت عليها مليشيات الحشد، وتحطيم للبنية التحتية فيها والبدء بحملات التغير العقائدي على النازحين في مخيمات النزوح، هل كان هذا هو الهدف الحقيقي من تلك الفتوى؟
هناك مساعٍ لبعض النواب للتنسيق مع كتلة الأحرار البرلمانية (التابعة للتيار الصدري) برفع مذكرة للرئاسات الثلاثة تدعوها لاتخاذ قرار تاريخي بحل مليشيات الحشد الشعبي
كل ما قام به السيستاني ردًا على تلك الجرائم، أنه انسحب ليعتكف بصومعته اعتراضًا على ما يدور حسب ما ينقل عنه وكلائه، في حركة منه لذر الرماد في العيون، وهل الانسحاب والاعتكاف الآن سيطفئ النار التي أشعلتها فتواه؟ ألا يجدر به أن يخرج للناس ويعلن براءته من أفعال المليشيات وما ترتكبه من جرائم؟ ألا يجدر به أن يصدر فتوى جديدة بحل تلك المليشيات؟ على اعتبار أن الأساس الذي بُنيت عليه تلك الفتوى قد انتهى.
ولأننا نعلم أنه لن يفعل ذلك الآن، ولن يفعل ذلك مستقبلًا، فالتاريخ سيكتب ذلك ويُدوّن أنه كان مشارك لهم بكل جرائمهم، وسيوثق التاريخ أنه ومن معه من أئمة المذهب، لم يصدروا فتوى واحدة بتجريم الانتهاكات الجسيمة التي اقترفها “الحشد” بحق العراقيين، وأنه ساهم ومعه العبادي وحكومته بتبرير جرائمهم.
صحوة متأخرة
إلا إذا استثنينا الصحوة المتأخرة التي جاءت لمقتدى الصدر، فبعد تاريخ حافل من التطرف الطائفي والحملة الشعواء التي شنها على العرب السنة، قتلًا وخطفًا وهدمًا للمساجد، جاء اليوم علينا لينتقد جزءًا من الحشد ويصفهم بـ”المليشيات الوقحة”، ولكننا نقول أن تأتي متأخرًا خيرًا من ألا تأتي.
فالمعلومات الواردة عن مجلس النواب أن هناك مساعٍ لبعض النواب للتنسيق مع كتلة الأحرار البرلمانية (التابعة للتيار الصدري) برفع مذكرة للرئاسات الثلاثة تدعوها لاتخاذ قرار تاريخي بحل مليشيات الحشد الشعبي، إلى جانب تشكيل لجنة تحقيق بصلاحيات قضائية تقوم بمحاسبة كل من ثبت تورطه في جرائم الاختطاف، وهي خطوة تعتبر بالاتجاه الصحيح، لو بقي الصدر ثابتًا عليها، ولم يتخل عن وجهته باللحظة الأخيرة كما يفعل كل مرة.
العبادي يُقر بأن وراء الاختطافات أسبابًا سياسية
ذكر العبادي من مجمل ما ذكره، وجود اختطاف سياسي، والذي يتطلب نوعًا آخر من التعامل حسب رأيه، وكل الذي نخشاه أن يشكل العبادي لجنة تحقيقية كما يفعل كل مرة، في مهزلة سياسية أصبحت مفضوحة ومعروفة للجميع، ذلك لأن مصير تلك اللجان الوهمية الإهمال والتسويف ولن تسفر عن شيء.
لكن الجدير بالملاحظة أنها المرة الأولى التي يقر فيها مسؤول رفيع في هذه الحكومة، على الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن الأحزاب المشتركة بالعملية السياسية الحالية بالعراق تستخدم العنف من خلال المليشيات في صراعها السياسي.
تصريح العبادي يشكل اعترافًا صريحًا بفشل العملية السياسية التي تعتمد على القتل والخطف في صراعها السياسي
وتصريح العبادي يشكل اعترافًا صريحًا بفشل العملية السياسية التي تعتمد على القتل والخطف في صراعها السياسي، كما أن هذا الاعتراف يفسر للآخرين ما هو واضح لنا، من أن جميع الاغتيالات والاختطافات التي طالت السياسيين السنَّة كانت بدوافع سياسية لإقصائهم عن المشهد السياسي العراقي، والحال على هذا فإنه يتطلب تدخلًا دوليًا لإيقاف هذه العملية السياسية القائمة على إرهاب الخصوم السياسيين، والمساهمة بإعادة صياغة عملية سياسية جديدة مبنية على أسس ديمقراطية حقيقية.