في ضوء تأسيس القوة الذاتية، أصبحت حسابات القوة لا تقتصر على الجانب العسكري للدول فحسب، بل بات يقاس معها أيضًا حجم تأثيرات الدولة الدينية والعرقية والثقافية والجغرافية والاقتصادية والمجتمعية على محيطها الإقليمي والساحة الدولية.
ومن هذا المنطلق، تغيّر مفهوم التأثيرات الجيو ـ سياسية، فبينما كانت ترتبط بالسيطرة الجغرافية السياسية والأمنية والاقتصادية المباشرة على المناطق الاستراتيجية، باتت تُطبق من خلال توظيف التأثيرات الدينية، أي المعتقدات أو المذاهب، والعرقية والثقافية والاقتصادية والإعلامية لفرض سيطرة غير مباشرة على المناطق الاستراتيجية.
الجيو ـ سياسية أو الجيوبوليتيك أحد فروع علم السياسة الذي يتناول في المقام الأول حجم تأثير المناطق الجغرافية (برها وبحرها ومرتفعاتها وثرواتها وموقعها) على المسار السياسي للدول التي تضطر لرسم سياستها في إطار رصد إمكانيات الاستفادة من هذه المميزات بشكلٍ استراتيجي، ويُطلق على خطط الدولة التي تهدف إلى السيطرة على مناطق جغرافية وفق منظور مستقبلي طويل الأمد بالخطط “الجيو ـ استراتيجية”.
أيضًا، كلمة جيو كلمة يونانية تعني الأرض، وركونًا لذلك يُشير مصطلح جيو ـ سياسة إلى الروابط السببية بين السلطة السياسية والحيز الجغرافي الذي تسعى للسيطرة عليه.
تعتبر التأثيرات الجيو ـ سياسية أو التأثيرات الجغرافية لبلدٍ ما على محيطها الإقليمي البري والبحري، عوامل أساسية في صناعة توازن القوى مع الخصوم الإقليميين والدوليين، ومنطلقًا لرسم السياسات الاستراتيجية التي يعتمد عليها أي بلد يتمتع بتلك المؤثرات في إدارة مصالحه القومية على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.
تملك إيران ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي بعد روسيا في العالم
وانطلاقًا من الصعيد الاقتصادي، بدأت إيران منتصف عام 2010 في رسم خطط جيو ـ سياسية اقتصادية ترمي إلى بناء تأثير جيو ـ سياسي في العراق وسوريا ولبنان، عبر مد خط نقل لغازها الطبيعي عبر الدول المذكورة نحو أوروبا.
تملك إيران ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي بعد روسيا في العالم، والذي يُقدر بـ14 تريليون متر مكعب، وهذا ما يدفعها للبحث عن أسواق جديدة لزيادة مواردها الاقتصادية، ولقد رغبت في رفع مواردها الاقتصادية عبر مشروع الخط “الفارسي” أو “الإسلامي”.
وفي سياق حديثه عن تفاصيل المشروع، يُشير الباحث في مجال الاقتصاد السياسي تامر بدوي، في مقاله بنون بوست “ماذا تعني سوريا بالنسبة لإيران جيو ـ استراتيجيًا؟”، إلى أن مشروع خط الغاز الإسلامي يمثل أحد أكبر مشاريع إيران الاستراتيجية لتصدير غازها الطبيعي إلى العراق، ومنها إلى سوريا ولبنان، ومن ثم ليمتد في المستقبل إلى أوروبا.
يُتوقع أن يبلغ طول خط الغاز “الإسلامي” أو “الفارسي” الممتد حتى الجنوب اللبناني تقريبًا 2000 كيلو متر
ونقلًا عن مصادر فارسية، يوضح بدوي أنه في تموز/ يوليو 2010 عقدت إيران مفاوضات أولية مع كل من العراق وسوريا لمناقشة المشروع، وفي تموز/ يوليو 2011، توصلت الدول الثلاثة إلى اتفاق لتنفيذ المشروع بتكلفة 10 مليارات دولار، وفي مارس 2013 وعلى الرغم من استمرار الأزمة السورية، توصلت الأطراف إلى اتفاق نهائي، وفي النهاية اتفق الجانب العراقي مع الإيراني في تموز/ يوليو 2013، على زيادة حجم الغاز الذي سيتم تصديره.
يُتوقع أن يبلغ طول خط الغاز “الإسلامي” أو “الفارسي” الممتد حتى الجنوب اللبناني تقريبًا 2000 كيلو متر، ينطلق خط الغاز من “عسلوية” المُطلة على الخليج العربي وصولًا إلى الحدود العراقية، ليتم ضخ الغاز إلى العراق عن طريق خطين فرعيين، خط “عيلام” الذي سيغذي بغداد والمنصورية والصدر، وخط “خرمشهر” الذي سيغذي البصرة، بحسب بدوي.
يتفرع خط الغاز العراقي (الذي سيزود العراق بـ40 إلى 45 مليون متر مكعب يوميًا من الغاز الإيراني، والذي يبلغ طوله 500 كيلو متر) من داخل الأراضي العراقية إلى سوريا، ليغذي دمشق بطاقة 25 ـ 30 مليون متر مكعب يوميًا عبر خط يبلغ طوله 600 ـ 700 كيلو متر، ويمتد الخط من دمشق إلى الجنوب اللبناني ليغذيه بطاقة 5 ـ 7 ملايين متر مكعب يوميًا.
تبلغ طاقة ضخ الخط الإسلامي كليًا ـ وفقًا لبدوي ـ ما يقارب 110 مليون متر مكعب من الغاز يوميًا، و40 مليار متر مكعب سنويًا، ومن المحتمل أن تعود صادرات الغاز من هذا الخط على الخزانة الإيرانية بـ3 ـ 7 مليار دولار سنويًا، وفي حال تم تمديد الخط حتى اليونان وإيطاليا قد يبلغ 4900 كيلو متر.
يمكن استيعاب الإصرار الإيراني، بمشاركة عراقية مباشرة، على وأد الثورة السورية والإبقاء على النظام السوري قائمًا، عبر التمعن في الميزة الجيو سياسية والاقتصادية التي تمثلها الجغرافيا السورية بالنسبة لهما
وبحسب الاتفاقية التي وقعتها إيران مع العراق وسوريا عام 2011، كان من المفترض أن يبدأ ضخ الغاز بين عامي 2014 و2016 بمعدل 110 مليون متر مكعب يوميًا، إلا أن الأزمة السورية حالت دون ذلك.
إذًا يمكن استيعاب الإصرار الإيراني، بمشاركة عراقية مباشرة، على وأد الثورة السورية والإبقاء على النظام السوري قائمًا في سوريا، عبر التمعن في الميزة الجيو ـ سياسية والاقتصادية التي تمثلها الجغرافية السورية بالنسبة لهما.
منذ بدء المفاوضات بينها وبين الغرب، وإيران تتطلع لتصدير طاقتها إلى الدول الأوروبية والآسيوية على حدٍ سواء، وفيما استطاعت بناء خطوط طاقتها المتجهة نحو الدول الآسيوية كالصين والهند، عبر دول وسط آسيا، رأت أنها بحاجة إلى دولٍ قابلة لتصبح دولًا تابعةً يمكن التحكم بها، على أن تكون قريبة من الجغرافية الأوروبية، فكانت العراق وسوريا ولبنان الدول المثلى لذلك.
إن تحقيق إيران سيطرة أمنية مستحكمة على هذه الدول، لا شك سيمنحها قوة نفوذ سياسية وعسكرية تُرجح كفة “ميزان القوى” في المنطقة لصالحها ضد الدول الإقليمية كتركيا والمملكة العربية السعودية، والدول العُظمى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، الأمر الذي يخدم مصالحها السياسية والأمنية القومية على صعيد استراتيجي، وعلى الصعيد الاقتصادي أيضًا يوفر لها الكثير من الميزات الإيجابية التي دفعتها وما زالت للقتال بشراسة في سوريا.
رغبت روسيا، في بداية الثورة، في إفشال المسعى التركي الرامي لتحويل تركيا إلى ممر مركزي لخطوط نقل الطاقة، كخط “تانابات” و”نوباكو” الممتد بين قارات العالم القديم
وفي سياق ذلك، يمكن فهم جزءٍ من الأسباب التي تقف وراء دفع روسيا صوب بذل جهود مضنية للحفاظ على نفوذها الواسع في سوريا، فروسيا تريد إحراز نوعٍ من التوازن في القوة العسكرية والاقتصادية الفاعلة مع الدول الأوروبية، والذي ما زالت تميل كفته في الميزان لصالح الأوروبيين، ولإحراز هذا التوازن عليها احتكار خطوط الطاقة المتجهة نحو الدول الأوروبية، وينافسها في ذلك تركيا وقطر بشكلٍ كلي وإيران بشكلٍ جزئي.
لقد رغبت روسيا، في بداية الثورة، في إفشال المسعى التركي الرامي لتحويل تركيا إلى ممر مركزي لخطوط نقل الطاقة كخط “تانابات” و”نوباكو” الممتد بين قارات العالم القديم، لكي تتمكن من تحقيق ما ترنو إليه من ميزانٍ للقوى يفسد السيطرة الروسية على مصادر النفط المزودة لأوروبا، ولإحراز ذلك الهدف حرضت أكراد سوريا ضد تركيا، وساندت النظام السوري بكل ما أوتيت من قوة.
استمرت روسيا في تنفيذ تلك الإجراءات ضد تركيا حتى عام 2014، حيث احتلت القرم وفرض الاتحاد الأوروبي عليها عقوبات اقتصادية شملت دفع بلغاريا لتجميد مفاوضات مد خط “ساوث ستريم”.
هذه العقوبات أجبرت روسيا على التعاون مع تركيا واتخاذها كبديل لبلغاريا، وربما وصول إيران إلى اتفاق نهائي، في آذار/ مارس 2013، مع النظام السوري بشأن مد الخط “الفارسي” دفع روسيا للقبول بتحول تركيا إلى ممر لعددٍ من خطوط الطاقة التي تبيّن أنها لا تشكل منافسًا كبيرًا لها، والاتجاه للحيلولة دون تمكين إيران من مد خطها، ومن هنا برزت أولى نقاط الخلاف الاستراتيجية بين روسيا وإيران.
ترى روسيا إيران على أنها حليفٌ سياسيٌ وأمنيٌ مضاد لنفوذ القطب الغربي، لذلك تقيم معها تحالفًا عسكريًا وسياسيًا في سوريا، وهما تسعيان معًا لتحويلها إلى “عمودٍ” ترتكزان عليه في مواجهتهما للغرب، إلا أن الخلاف الجيو ـ اقتصادي يمثل نقطة خلاف رئيسية تحتاج لحل وسط بينهما، وإن لم يكن، فيبدو أن الطرفين سيواصلان تنافسهما السياسي والميداني البارز.
وعلى صعيدٍ آخر، تعد إزاحة نظام الأسد وإقامة دولة ديمقراطية متصلة بعمقها العربي والإسلامي، يهب سورية الاستقلال الجيو ـ اقتصادي عن المشاريع الروسية والإيرانية، والعودة إلى عمقها العربي الذي يحولها لأرضية استراتيجية للاستثمار الخليجي، لا سيما القطري، في مجال الطاقة.
تحتل قطر المرتبة الأولى بين دول الخليج، كونها الدولة الأكثر حيازةً للغاز الطبيعي، ويشكل أنبوب الغاز الإيراني تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة فيها، إذ يؤدي هذا الخط إلى تنويع مصادر الطاقة للاتحاد الأوروبي، وبالتالي يفضي إلى سعرٍ متدنٍ لتلك المصادر، لذا تسعى إلى تصدير غازها الطبيعي عبر السعودية وصولًا للأردن الذي يُعد أحد المحطات المهمة لخط “الأنبوب العربي” الذي ينطلق من مصر، ويمر بالأردن، ومن ثم سوريا، وينتهي في المواني التركية القريبة من الدول الأوروبية، والذي بدأت عملية إنشائه عام 2003.
رسمت إيران خطة الخط “الإسلامي”، لكن في ظل مخالفة أغلب الدول لهذا الخط، بالإضافة إلى التحديات الأمنية، وعدم اتضاح الموقف الأمريكي من نفوذها، يبدو أن تحول الخط إلى واقع بات أمرًا صعبًا
لقد ساهم مرور الخط، أي “أنبوب الخط العربي”، من أراضيها، إلى جانب التقاء مصالحهما السياسية والأمنية والاستراتيجية، في دفع تركيا وقطر للتحرك المشترك في سبيل تحجيم التغلغل الإيراني المذهبي في المنطقة عبر منع إيران من تمديد الخط “الفارسي” أو “الإسلامي”، لإجبارها على القبول بالأراضي التركية كبديلٍ للأراضٍ السورية، بهدف استغلال اضطرارها لاستخدام الأراضي التركية في نقل غازها الطبيعي، كأداة ضغط عليها في المستقبل.
ولعل الأنشطة الدبلوماسية التي تقوم بها تركيا، اليوم، في سبيل تحقيق تعاون عسكري مشترك مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الخليج في شرقي سوريا، يفصح عن التأثير الواضح للمشاريع الجيو ـ استراتيجية على سياستها حيال الملف السوري.
ختامًا، يمتاز الغاز الطبيعي بسعره الطفيف مقارنة بالنفط، وعوادمه النظيفة، الأمر الذي يجعله مرغوبًا لدى الدول المتطورة على وجه الخصوص، لتوظيفه في عمليات الصناعة والزراعة وخدمات المواطنين، كالتدفئة.
وانطلاقًا من شعورها برغبة الدول الأوروبية في تنويع مصادر الطاقة، رسمت إيران خطة الخط “الإسلامي”، لكن في ظل مخالفة أغلب الدول لهذا الخط، بالإضافة إلى التحديات الأمنية، وعدم اتضاح الموقف الأمريكي من نفوذها، يبدو أن تحول الخط إلى واقع أمرًا صعبًا، وقد تضطر إيران لنقل غازها عبر خط “تاناب” الذي يمر من تركيا، والذي يمكّن تركيا وقطر، الشريكين السياسيين في أكثر من نقطة، من الحصول على أداة ضغط على إيران تقوم على تقليل كميات الغاز المصدر في حال تمادت في سياساتها “المذهبية”.