في أعالي المنحدر الصخري المُطل على ضاحية قرطاج وخليج تونس، وقفت “سيدي بوسعيد” شامخة بزرقتها التي استمدتها من معانقة السماء، تبعث لزائريها الصفو والهدوء، وتمكنهم من مشاهد طبيعية خلابة وأخرى عمرانية فريدة تجسد حضارة المنطقة.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي، إلى واحدة من أجمل القرى العالمية، سيدي بوسعيد التونسية، حيث الزرقة والتاريخ والزخارف العتيقة.
تاريخ وحاضر شكلا لوحة ساحرة
ليست كغيرها من القرى، فلها طابع خاص حباها الله به وعمل الإنسان على استغلاله، فجمالها فاق كل جمال وروعتها تغنت بها الأجيال، فكانت مقصد الجميع دون استثناء، التقى فيها جمال الطبيعة بعبق التاريخ، حتى كتب عنها الرسام السويسري بول كلي، إثر زيارته التاريخية لها لاستكشافها والوقوف على جمالها سنة 1914: “لقد وصلنا إلى شاطئ قريب من العرب الأوائل، وهناك قابلتنا الشمس الساطعة التي تغشي الأبصار وكان الجو صافي الألوان يثير في النفس أجمل الوعود”.
عندما تطئ قدماك هذه القرية المتوسطية، تأخذك نسماتها إلى ماضٍ بديعٍ، ماضٍ كان فيه هذا الجبل الذي سمي باسم “جبل المرسى” و”جبل المنار”، مكانًا للمراقبة والدفاع عن قرطاج الفينيقية في القرن السابع قبل الميلاد، ثم عن مدينة تونس لفترة طويلة. تاريخ انعكس على حاضرها، فشكل الاثنان قرية بديعة جميلة، بقي برزخها خاليًا من الناس لمدة طويلة، إلى أن أعطاها من منحها اسمه “أبو سعيد الباجي” الشيخ الزاهد مكانة متميزة في أعين مريديه، فكانت ملجأ الزاهدين مثل سيدي الظريف وسيدي بو فارس وسيدي الشبعان الذين وجدوا فيها خير مكان لممارسة طقوسهم الدينية.
غابة سيدي بوسعيد
لتتحوّل بعد ذلك، في القرن الثامن عشر إثر بناء حسين باي جامع الزاوية التي تشمل ضريح أبي سعيد، وبناء محمد باي مسكن قربها، إلى مقصد عديد من العائلات التي فضلت العيش في الهامش الريفي على الاستجابة لمغريات الحياة المدنية التي كانت تونس العاصمة من أوائل المدن العربية التي تآلفت مع أساليبها وصاغت قوانينها، فشيّدوا فيها منازل لهم فوق التل وحول مقام سيدي أبي سعيد لقضاء الصيف، فتحول التل من مكان دفاع إلى تصوف، فمكان للاصطياف، حيث يقضي الناس عطلة الصيف والاستفادة من طيب المناخ والعيش والتسلية في جو من الورع الديني، إذ كانت تقام احتفالات صوفية من أهمها “الخرجة.”
بيوت بيضاء ناصعة وشبابيكها وأبوابها زرقاء صافية
بعمرانها الفريد الذي يمثل لمسة وفاء لتاريخ حافل وحاضر مجيد، سحرت القرية القادمين إليها وكل من وصله أثرها، قرية حاكت لنفسها ثوبًا ساحرًا، مزج بين طبيعة خلابة وإبداع إنساني، لتُبرهن لزائرها تفوقها على باقي القرى والمدن.
عندما تطئ قدماك القرية، تلاحظ تميّز معمارها، فغالبية بيوتها ودورها مطليّةٌ باللّون الأبيض، ويغلب على شرفاتها وشبابيكها وأبوابها المعتّقة اللون الأزرق بمختلف تدرّجاته، تزينها زخارف وكتابات ونقوش بديعة، تجعل منها لوحةً فنيّةً قائمةً بذاتها، مضيئة بألوان بيوتها وتناسق مبانيها، تبعث في النفس الصفاء والطمأنينة.
منازل القرية بألوانها البيضاء والزرقاء
لوحة فنية أضافت إليها التزيينات النباتيّة والأشجار والورد والرياحين المُنتشرة في أزقّتها سحرًا وجمالاً يأسر الألباب، فكأنها وُلدت من رحم السماء، وفي هذه الأزقة الوادعة وشوارعها الضيقة المرصفة بحجارة بات سطحها من كثرة الخطوات التي وقعت عليها، وهي خطوات المتأملين القادمين من مختلف أنحاء العالم بحثًا عن المعجزة التي صنعت من قرية نائمة مزارًا، تكمن المتعة الحقيقة في التجول في القرية.
وترجع بيوت سيدي بوسعيد في شكلها إلى البيت الإغريقي الذي يتكون من عدة غرف مجمعة حول صحن مركزي تحيط به أروقة وتزينه بعض النافورات التي تروي النباتات والأزهار التي تضفي البهجة على هذا الفضاء المفتوح على السماء وأقفاص الطيور الملونة بالأبيض والأزرق، ألوان الطبيعة والحياة بحسب اعتقادات سكان سيدي بو سعيد، ونجد في آخر الصحن غرفة كبيرة صالحة للاستقبال تفتح على الصحن بواسطة عدة فتحات، كما يمكن أن نجد صحونًا أخرى ثانوية في البيوت الكبيرة تكون ضيقة نوعًا ما ومحاطة بأروقة على جوانبها ونجد حولها غرفًا تكون جناحًا خاصًا.
مع مرور الزمن فتحت بعض هذه البيوت العتيقة أبوابها أمام الجميع ليكتشفوا أسرار معمارها الفريد المخبأ خلف أسوارها العالية، على غرار دار العنابي التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، حيث يتميز البيت بطرازه الإسلامي المتميز وديكوره الجذاب وأشجار البرتقال والياسمين والأرضيات الرخامية والمصابيح الملونة.
قصر “النجمة الزهراء”
ولا يمر أحد من سيدي بوسعيد دون الذهاب إلى قصر “النجمة الزهراء” الذي كان يسمى قصر “البارون الفرنسي ديرلانجي”، وهو رسام مستشرق وموسيقي، عرف بمؤلفه الضخم “الموسيقى العربية”، قصر يطل بكل مهابة وشموخ على القرية، فكان أحد أبرز المعالم التي تحتضنها القرية لما يتميّز به من هندسة معمارية تجمع بين الفن الأندلسي والمعمار التونسي.
وفي طريقك إليه لك أن تقضي بعض الوقت في واحد من مقاهي القرية العتيقة ذات الإطلالات المرتفعة والساحرة لاحتساء الشاي بالنعناع، متأملاً سحر القرية التي احتضنت أشجار التمر والصبيّر (التين الشوكي) وأزهار الياسمين، فغدت أية من الجمال تزّين الوجه الحضاري لتونس الخضراء.
طبيعة ساحرة
إن قدمت إلى سيدي بوسعيد، فلا تفوت فرصة التمتع بجمال طبيعتها التي تمر حتمًا عبر المرور من أعلى الجبل “وسط القرية” إلى أسفل المرفأ والتدرج في ممر ذي 1000 درج، لتنعم بجمال المساحات الخضراء وغابات الصنوبر برائحتها المنعشة، وأنت على يقين من أن ما يفلت من حواسه هو أكثر مما تتمكن من احتوائه تلك الحواس.
مرفأ سيدي بوسعيد
هناك لك أن تشاهد كيف تداعب شواطئ المتوسط أجمل قرى تونس، وكيف يمتزج جمال الغابة بالبحر، فتعزف القرية سيمفونية من الجمال قلّ أن تستمع إليها في أي مكان تزوره برًا أو بحرًا أو جوًا، ويزيدها بائع مشموم الفل الذي يجوب المكان بطبقه المصنوع من السعف والمملوء بالمشموم بين السيّاح والتونسيين يعرض عليهم عود المشموم، نغمًا جميلاً على نغماتها البهية.
قرية صغيرة في حجمها، كبيرة في تاريخها، تعود بك أزقتها ومنازلها ودور عبادتها إلى عصور قديمة، تستنشق عبقها في جوانبها، ويأخذك جبلها وبحرها في لحظات صفو وهدوء لتبتعد بهدوئها عن صخب الحياة الرتيب.