كشفت معركة “طوفان الأقصى” عن تضخم دور الدين وتحكم الأيديولوجيا في السياسة الأمريكية تجاه فلسطين، بجانب النظر إلى الحدث من زاوية لا تحتمل أي تفسير سوى ما تراه “إسرائيل”.
فحتى سياسة التوفيق بين المصالح والأيديولوجيا التي سارت عليها إدارة بايدن بدرجات متفاوتة، اختفت تمامًا عند التعامل مع الصراع الأخير بين المقاومة والكيان الصهيوني، وأصدرت الإدارة الأمريكية مجموعة من السياسات العدائية تجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام وحماس بشكل خاص.
هذه السياسات انطلقت في مجملها من البُعد الأيديولوجي والأفكار الدينية التي تعتنقها معظم القوى الفاعلة في المجتمع الأمريكي، أكثر من لغة المصالح وحسابات المكاسب السياسية والأمنية والاقتصادية، إذ بدا أن المصلحة الصهيونية سياسة مقدسة تتقدم على أي مصلحة أخرى، ويمكن قراءة أسباب ومنطلقات صانع القرار الأمريكي في معارضة حركة حماس أثناء “طوفان الأقصى” وتأييده اللامحدود لـ”إسرائيل”، من خلال تشابك الأبعاد الثلاثة التالية:
حبل متين: البُعد الديني
يلعب الدين أهمية كبيرة في تشكيل الوعي الأمريكي تجاه حركة حماس، إذ ظلَّ إحدى أدوات السياسة الأمريكية في رسم سياستها تجاه فلسطين، ولذا يلاحظ ثبات السياسة الأمريكية مع مرور الوقت بشأن هذه القضية.
وهذا الخلط بين الدين والسياسة والروابط الروحية والدينية بين الصهاينة والساسة الأمريكيين، يلاحَظ بوضوح في البيانات والتصريحات التي يلقيها الزعماء والسياسيون، فدائمًا ما توجد “إسرائيل” في قلب التفكير.
فعلى سبيل المثال، يمكن توضيح مدى تأثير البُعد الديني في الإدارة الأمريكية الحالية، من خلال الخطابات الأخيرة للرئيس الأمريكي بايدن عن العناية الإلهية للصهاينة، وادّعائه أخلاقية الجيش الإسرائيلي في الحرب، ووصف نفسه بـ”الصهيوني”، والتزامه كمسيحي في استئصال سرطان كراهية اليهود، إلى حدّ أن لغة كلامه واستدعاءه التاريخ والانتقائية في تحديد الشر والخير، أشبه بالإيمان الروحي أكثر من أنهما لغة سياسية لرئيس دولة يفترض أنه علماني.
كذلك كانت معظم لقاءات وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، مع الإسرائيليين عاطفية للغاية، وذات دلالات دينية عميقة، إذ قال خلال زيارته لـ”إسرائيل” بعد “طوفان الأقصى”: “جئت إلى إسرائيل كمواطن يهودي أولًا قبل أن أكون وزير خارجية”.
استعلاء البُعد الديني والهوياتي في الصراع والحجج الدينية الجياشة ظهرت بشكل فجّ في الكونغرس، على سبيل المثال يتبنّى مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكي الحالي، موقف المسيحيين الصهاينة من القضية الفلسطينية، ويتمسّك بالتفسير الديني للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
فعند حديث جونسون عن الصراع الدائر بين حماس و”إسرائيل” عقب “طوفان الأقصى”، لم يعتبر فقط أن حماية “إسرائيل” من أول أولويات الكونغرس الأخلاقية، بل ذهب إلى أن الحرب ضد حماس نوع من حرب مقدسة تشنّها اليهودية بالتحالف مع المسيحية ضد البربرية، ويجب أن تستمر الحرب حتى نهاية التاريخ.
ويلخّص جونسون موقفه من “إسرائيل” في ترديد جملة لا تفارقه، فيقول: “بصفتي مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس، الإنجيل يوجّهنا بوضوح إلى الوقوف بجانب إسرائيل، ويخبرنا أن الله يبارك الأمة التي تساند إسرائيل”.
كما علّق السيناتور الجمهوري من ولاية كارولاينا الجنوبية، ليندسي غراهام، واصفًا الأحداث الأخيرة بين حماس والكيان الصهيوني بالحرب الدينية، ولذا هو يقف مع “إسرائيل” ويلوم أي شخص ينتقد المذابح التي يرتكبها الكيان الصهيوني.
ومن اللافت حقيقةً أن وقت اشتعال الصراع الأخير بين حماس والكيان الصهيوني، رشّح الرئيس جو بايدن سفيرًا للولايات المتحدة في “إسرائيل” يدعى جاك ليو، وبالفعل صدّق مجلس الشيوخ الأمريكي في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري على تعيينه.
جاك ليو يهودي متديّن، وفي غاية التعصُّب تجاه الفلسطينيين، ومشهور بتاريخه الطويل في دعم الجماعات الصهيونية بالولايات المتحدة، ويعتبر جاك ليو نفسه من خلال منصبه الجديد أنه يخوض معركة ضد حماس دونما اعتبار لمصير الفلسطينيين بغزة، لحدّ قوله في جلسته الأخيرة بمجلس الشيوخ: “لا أتذكر وقتًا في حياتي لم تكن فيه إسرائيل في صدارة ذهني”.
وحين ذهب جاك ليو إلى “إسرائيل” كسفير للولايات المتحدة، كان أول شيء قام به زيارة حائط المبكى، وصلّى مع حاخام حائط المبكى شموئيل رابينوفيتش.
هذا إضافة إلى ظهور سيل الأدبيات الغربية والجمعيات الثقافية والإنجيلية المتشددة، التي تؤمن أن الله سيغضب على الإدارة الأمريكية إذا تخلت عن “إسرائيل” في هذا الوقت.
وما زالت هذه المنظمات التي لها تأثير كبير على الأمور المتعلقة بفلسطين، تمارس نفوذًا على صانع القرار الأمريكي، وتؤثر في الرأي العام للوقوف خلف “إسرائيل”، وبالتالي إن موقف العداء الأمريكي تجاه حماس لا يستهدفها فقط كحركة مقاومة مسلحة بقدر ما يستهدف مرجعيتها، فالإدارة الأمريكية الحالية اتّبعت سياسات انطوت صراحة على بُعد أيديولوجي متطرف.
وبالتالي إذا كانت الإدارة الأمريكية تستند إلى أيديولوجيا دينية متصلبة في دعم “إسرائيل”، فبالمنطق نفسه لماذا ترفض تمسك الطرف الآخر بهويته؟ ولا تقبل بأي مرونة أو تكيُّف يبديها إلا إذا قبل بكل ما يُملى عليه؟ مع العلم أن الذي أدخل البُعد الديني إلى المنطقة هو الصهيوني الذي أتى ليغتصب ويسرق الأرض.
لذا يمكن القول إن البُعد الديني والأيديولوجي تجاه حركة حماس لم يشهد تراجعًا في ظل إدارة بايدن، بل إن الأخير بتكوينه الشخصي وبنيته الفكرية وظّف الدين كإطار مرجعي في الصراع، ما أدّى إلى انتعاش وصعود التحيزات الثقافية والدينية الأمريكية القديمة.
والواقع أن العداء الذي نظرت به الإدارة الأمريكية الحالية إلى الفلسطينيين، والألقاب التي اُستخدمت لوصف حماس، كانت أكثر عدوانية من العداء الذي كانت تنظر به الإدارات الأمريكية السابقة.
حرب غزة ومآلاتها الإقليمية والدولية
يبدو أن تعليقات الرئيس التركي أردوغان عقب “طوفان الأقصى”، واستحضاره صورة الصراع الصليبي، وحديثه عن أن الغرب يريد أن يعيد الصراع بين الهلال والصليب، يوصف الواقع بشكل دقيق أكثر من أنه خطاب سياسي.
عمق العلاقة: اللوبي الصهيوني
يتفق كثيرون على أن سبب استجابة أي إدارة أمريكية للأجندة الإسرائيلية ومتطلباتها الأمنية، إلى حدّ ترجيح كفّتها على المصلحة الأمريكية مهما كانت تكاليف هذه الحماية وتداعياتها مضرّة، راجعٌ بدرجة كبيرة إلى اللوبي الصهيوني الذي يملك نفوذًا هائلًا، ولذا يستثمر السياسي الأمريكي في الدفاع عن “إسرائيل”.
ورغم وجود جماعات ضغط أخرى ذات مصالح خاصة، إلا أنها لم تتمكن من التأثير في مسار السياسة الأمريكية، بعكس اللوبي الصهيوني الذي احتل بالفعل مواقع مهمة في الإدارة الأمريكية، وأصبحت لديه قدرة على توجيه السياسة لخدمة مصالح “إسرائيل”.
مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان المستقيل: اللوبي الإسرائيلي لم يتوقف عن الضغط على المؤسسات الدولية وقد شهدت ضغوطاً لإسكات مسؤولين أمميين. #طوفان_القدس #مجزرة_جباليا pic.twitter.com/TXjY2V0Gzs
— نون بوست (@NoonPost) November 1, 2023
ومن الركائز الأساسية لفعالية اللوبي الصهيوني، سيطرته على العديد من المعاهد والمؤسسات البحثية التي يعتمد عليها صانع القرار الأمريكي، بجانب وجود شبكة علاقات واسعة مع الاقتصاديين والسياسيين المؤثرين.
والأهم نفوذه داخل مجلس الشيوخ والنواب، مثل عضو الكونغرس الأمريكي براين ماست الذي خدم متطوعًا في الجيش الإسرائيلي، وقبل أيام وقف براين في الكونغرس معترضًا على من ينتقدون الضربات الإسرائيلية على المدنيين بغزة، معتبرًا أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطينيين أبرياء، ثم بعد أن جرّدهم من إنسانيتهم وصفهم بـ”النازيين”.
أيباك المنظمة اليهودية التي تسيطر على الكونغرس
هذا النفوذ الذي رسم معالم السياسة الأمريكية تجاه الشعب الفلسطيني وفقًا لأي إدارة أمريكية، يرجع نجاحه بشكل كبير إلى جهود منظمة أيباك، وقدرتها على تولي مراكز حسّاسة في الإدارة الأمريكية.
وهذه المنظمة من أبرز منظمات اللوبي التي تعمل مباشرة لصالح الكيان الصهيوني، لدرجة أن مشاركة الرؤساء الأمريكيين وكبار رجال الدولة في الاجتماع السنوي لها أصبح أمرًا روتينيًّا، وما زالت أيباك وأخواتها تمارس نفوذها وتضايق مسؤولي الأمم المتحدة الذين يتحدثون عن الإبادة الإسرائيلية.
مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان المستقيل: “هناك تحركات إسرائيلية لإسكات مسؤولين أمميين”.
المنفعة الاستراتيجية: البقاء والنفوذ
في تصريح سابق للرئيس بايدن، قال: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها”، في الواقع هذه المقولة توضح أن المصالح الأمريكية بالمنطقة العربية ستكون مهددة لولا وجود “إسرائيل”، التي تعتبرها الإدارة الإمريكية خط الدفاع الأول عن أمنها القومي، وبالتالي كلما كانت “إسرائيل” أقوى، كلما كانت قادرة على خدمة المصالح الأمريكية.
فالدعم العسكري الأمريكي لـ”إسرائيل” غير مشروط، كما أن الأخيرة غير قادرة على أن تتقدم خطوة إلى الأمام من دون هذا الدعم، ولذا تربط أي إدارة أمريكية مستقبل مصالحها في المنطقة بـ”إسرائيل”، إلى حد أنها تضع مصلحة الأخيرة فوق إطار المصالح الأخرى، مهما كانت النتائج والتداعيات عكسية، وفي كثير الأحيان تكون متجاوزة حدود المعقول.
فقد بدا بايدن في دعمه لـ”إسرائيل” أكثر تطرفًا من “إسرائيل” نفسها ومقارنة بالرؤساء السابقين، واتخذ خطوة نادرة بحضور اجتماع مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه أرسل مستشارين عسكريين إلى “إسرائيل”، بما في ذلك الجنرال جيمس غلين الذي شارك في القتال ضد تنظيم “داعش” في العراق.
بجانب أن الكونغرس عقب معركة “طوفان الأقصى” اعتبر أن حماية “إسرائيل” أولى أولوياته، ولم يتردد في تدفق المعونات التي قُدّمت كمنح لا تردّ، فإلى الآن “إسرائيل” أكبر متلقٍّ للمساعدات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية، رغم كونها دولة ثرية دخل الفرد فيها مرتفع.
فمن دون أي مناقشات، اتخذت إدارة بايدن نهجًا غير مسبوق في الحرب، إذ أجاز مجلس النواب الأمريكي بعد “طوفان الأقصى” إرسال المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل”، في حين أنه كي يجيز إرسال المساعدات لأوكرانيا أخذت المسألة وقتًا ونقاشات مطوّلة، ما يعني أن التزام الإدارة الأمريكية تجاه “إسرائيل” أقوى من التزامها تجاه أوكرانيا، وأن التهديد الذي تمثله حماس أكبر من روسيا.
#غزة_العزة pic.twitter.com/of2cKcql41
— نون بوست (@NoonPost) November 11, 2023
وهذه المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل” لم تقتصر على تزويدها بالمعدّات العسكرية فحسب، بل إعفائها من ثمن الأسلحة التي اشترتها، والبيع لها بقروض ميسّرة وأسعار خاصة، وإقامة مناورات عسكرية مشتركة، ومساعدتها بالخبرات والتكنولوجيا التي تحتاجها، والواقع أن “إسرائيل” تسلَّح بآخر التقنيات الأمريكية، ولديها أسلحة لم تزود الولايات المتحدة دولة أخرى بها، بما فيها دول الناتو.
ومن هذا المنطلق، الدفاع عن “إسرائيل” مسألة لا نقاش أو مواربة فيها، مثلما عبّر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، الذي يجرى مكالمات هاتفية يومية مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، ودعم الولايات المتحدة الأمريكية لـ”إسرائيل” ليس من أجل مصلحة “إسرائيل”، لكن من أجل مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
إن روح الصراع الأيديولوجي مع الجانب المصلحي متغلغلة ونافذة في الإدارة الأمريكية، وبالتالي هذه الاعتبارات تفسّر لنا النمط الرسمي الأمريكي لحصانة جرائم الحرب الصهيونية، والدعم المذهل الذي تقدمه لـ”إسرائيل” في مساعيها لإبادة الفلسطينيين.