تقف تركيا، وهي تخطو أولى خطواتها نحو المئوية الثانية من عمر الجمهورية، على أبواب استحقاق مصيري، يتمثل في وضع دستور جديد للبلاد، إذ لم يعد دستورها الحالي (المكتوب عام 1982، مع تعديلاته اللاحقة آخرها عام 2017) يلبّي طموحات الحاضر، أو توجهات تركيا نحو المستقبل.
عمليات التحضير مستمرة داخل الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم، كما المعارضة باختلاف مكوناتها، لإجراء تعديلات دستورية موسعة، تستند إلى مبدأ “سيادة الأمة” والمسارات الرسمية المتعارف عليها.
التعديلات الدستورية، التي يؤكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنها ستكون شبه كاملة، ترتبط بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتغيرة في البلاد، فالفرق كبير بين وقت كتابة الدستور الحالي قبل أكثر من 40 عامًا، وما تفرضه ديناميكية المواد الدستورية من مواكبة للتطورات الداخلية والخارجية.
ثمة ما يرجّح أن حسم التعديلات سيكون بعد الانتخابات البلدية في مارس/ آذار المقبل، حيث لا توجد مبررات (زمنية مؤقتة أو موضوعية بسبب طبيعة نظام الحكم) تحظر التعديلات، فلا ثورات أو انقلابات أو حالة حرب تبرر إرجاء كتابة الدستور التركي الجديد، علمًا أن أسباب “الحظر” في العالم محل خلاف قانوني بين الدستوريين.
واقع دستوري
أصبح الاستحقاق الدستوري أمرًا واقعًا منذ افتتاح الدورة البرلمانية الحالية، بعدما جدد أردوغان دعوته لكتابة دستور “يسهم في التخلص من إرث الانقلابات، ويضمن الحريات، دستور مدني جامع وشامل، يوضع بالحوار والتوافق، ويليق بالمئوية الثانية لتركيا”، تأكيدًا على قرب الخطوة المنتظرة منذ سنوات.
وتنتهي مواد الدستور (إلغاء كل النصوص) عندما تصبح غير قادرة على مواكبة التطورات، وفي الحالة التركية فإن التعديلات المرتقبة ستكون “عادية” و”لا ثورية”، ومن ثم صياغتها (الديباجة والتعريفات والأحكام العامة والختامية) ستحظى بالتأنّي، حتى تكون دقيقة وواضحة ومتناسقة ومتطوّرة، ويسهل تفسيرها وتطبيقها.
ويعترف أردوغان بأن “الدستور الحالي أصبح مترهّلًا، نتيجة تعديله أكثر من 19 مرة منذ وضعه في 12 سبتمبر/ أيلول 1982″، وتؤكد دوائر أخرى في السلطة والمعارضة أن “الدستور المطبّق تم فرضه على الشعب التركي، ولا تتوافق بعض مواده مع الحاضر والمستقبل والقيم التركية”.
ولأن الدستور الحالي، بحسب رئيس البرلمان التركي نعمان قورتولموش، “تمّت صياغته بهدف التحكم في المستقبل”، فإن هناك اتجاهًا لإعادة النظر في معظم المواد الحالية، بينما ترغب بعض أحزاب المعارضة في تعديلات وإضافات لا تزال محل خلاف، حتى داخل الأحزاب نفسها.
تبايُن سياسي
يحاول أردوغان، وفق تصريحاته المتتابعة واجتماعاته مع الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم، بناء حالة توافق حول التعديلات المرتقبة: “أدعو الأحزاب السياسية والأكاديميين والجامعيين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وجميع المفكرين، للمشاركة في إعداد ومناقشة الدستور الجديد”.
وتشير معلومات إلى أنه ستكون هناك خلافات عميقة بين تحالف “الشعب” الحاكم من ناحية، وأحزاب يسارية وعلمانية من ناحية أخرى، حول “مضمون” الدستور الجديد، خاصة هوية الدولة ونظام الحكم ومرجعيته والصلاحيات والمواطنة وقضايا أخرى، بحكم الأيديولوجيات.
وستكون الخلافات الرئيسية على “علمانية الدولة، والمرجعية الإسلامية، الانتماء الوطني والعرقي، النظام الرئاسي والنظام البرلماني، صلاحيات الرئيس، ومدة بقائه في السلطة، واللغة التركية والكردية، وحرية ارتداء الحجاب، ووضع الاقتصاد وتوجهاته، وملفات اجتماعية وحقوقية”.
وتتعدد الطموحات حول التعديلات الدستورية المرتقبة، فالمعارضة التركية ترحّب بمواد “واضحة، تسهم في دستور مدني يحترم حقوق الإنسان والقانون، يراعي الحريات والمساواة والمرأة والديمقراطية ويعزز الاقتصاد، مع إعادة النظر في تعديلات سابقة، ومنح المزيد من الحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية“.
وتشكّل العلاقة المدنية العسكرية ملفًّا شائكًا في كتابة المواد الدستورية الجديدة، حرصًا على التعاون لا التنافر بين المؤسسات، وتعزيز الرقابة المدنية على القوات المسلحة، وفق آليات ديمقراطية تضمن توازن العلاقة بين المكونات المؤسسية، بحيث يصبح دور الجيش التركي الدفاع عن البلاد أمام الخطر الخارجي فقط.
نصوص محمية
ينص الدستور التركي على حماية بعض المبادئ العامة، ويمنع المساس بها (الأحكام غير القابلة للإلغاء) كما في المادة الرابعة: “لا يجوز تعديل أحكام المادة الأولى التي تحدد شكل الدولة كجمهورية، وأحكام المادة الثانية سمات الجمهورية، وأحكام المادة الثالثة، ولا يجوز التقدم بمقترح لذلك”.
وتشمل المادة الثالثة من الدستور الحالي ثوابت أساسية: “تركيا لغتها التركية. وعلمها يتكون من هلال ونجمة أبيضَين على خلفية حمراء. وعاصمتها أنقرة”.
حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، أجرى حوالي 12 تعديلًا دستوريًّا مهمًّا خلال المدة المذكورة، تضمنت التعديلات التي أجراها عام 2003 تقليص نفوذ الجيش، تعيين قضاة مدنيين بدلًا من العسكريين في اللجان الأمنية العليا، واستهدفت تعديلات عام 2010 الحد من سيطرة الجيش على المجال العام، قبل أن تمنع تعديلات أُجريت عام 2017 ترشُّح العسكريين للبرلمان.
وقبل التعديلات الدستورية الأخيرة التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، كان للجيش التركي دور واضح في الحياة السياسية، قبل تحييد محسوب لهذا الدور خلال السنوات الأخيرة عبر سياسات حزب العدالة والتنمية، وإن كانت تتطلب إطارًا دستوريًّا جديدًا يحدد الصلاحيات بشكل واضح.
ويتبنّى حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه مطلع الألفية كتابة دستور ديمقراطي، يتم من خلاله التغلب على مظلوميات تاريخية (حرية الاعتقاد، والتنوع العرقي، وتمكين الفئات المهمشة، مع تفعيل المؤسسات الوطنية بشكل أفضل)، كون الحالي الذي تم وضعه في عهد الرئيس الأسبق كنعان إيفرين، لا ينتصر لمدنية الدولة.
مؤشرات وإجراءات
ومشروع الدستور الجديد كان ضمن البرنامج السياسي لتحالف “الشعب” الحاكم خلال الانتخابات العامة الأخيرة، وسبق أن طرح زعيم حزب الحركة القومية التركية، دولت بهشلي (صاحب الكتلة البرلمانية الثانية في التحالف الحاكم)، صيف عام 2021، مسودة مقترحة لدستور جديد للبلاد.
لا يعترض زعيم حزب الحركة القومية على نظام الرئاسة التنفيذية (الذي يجمع صلاحيات رئيسَي الدولة والحكومة معًا)، لكنه يقترح تعديلات من بينها انتخاب نائبَين لرئيس الجمهورية، وأخرى تخصّ صلاحيات مؤسسة الشؤون الدينية والمحكمة الدستورية (التي رأت النور بموجب دستور عام 1961).
وفي تركيا، “يجوز لرئيس الجمهورية أن يطرح للاستفتاء أي مشروع قانون لتعديل الدستور، اعتمدته أغلبية ثلثَي إجمالي أعضاء البرلمان مباشرة أو بعد إعادته إليها، أو إذا اعتبرت مواده ضرورية، فيما تنشر في الجريدة الرسمية القوانين أو المواد المتعلقة بتعديل الدستور التي لم تطرح للاستفتاء”.
و”يستلزم دخول قوانين تعديل الدستور المطروحة للاستفتاء الحصول على موافقة أكثر من نصف الأصوات الصحيحة، ويحدِّد البرلمان التركي، عند اعتماده لقانون بتعديل دستوري، أي الأحكام تطرَح للاستفتاء مجتمعة وأياها تطرح منفردة، في حال طرح القانون للاستفتاء”.
ويتم تشكيل لجنة الوفاق الدستوري عبر البرلمان، لوضع وكتابة الدستور الجديد، أما الاستفتاء الدستوري فتقوم به جمعية نيابية منتخبة، أو عبر رئيس الجمهورية، قبل استفتاء عام على التعديلات، ويتطلب إجراء استفتاء موافقة 360 نائبًا على الأقل (ولتحالف “الشعب” الحاكم حوالي 323 نائبًا)، وتعدّ موافقة أكثر من 400 نائب حاسمة.
مرونة وجمود
وعند إجراء التعديلات المحدودة أو الموسّعة، يكون المشرعون أمام نوعَين من الدساتير “المرنة” ذات الإجراءات المبسّطة في حسم التعديلات المطلوبة، و”الجامدة” بحكم تشدد نصوصها وإجراءاتها الحاكمة للتعديلات، لا سيما النسب المئوية المطلوبة للموافقة على طلب التعديلات ومسارها ومصيرها النهائي.
ويُحسب الدستور التركي على النوع “الجامد” (كالأمريكي والأسترالي)، ووفقًا للمادة 175 منه: “يقترح التعديل الدستوري كتابيًّا ممّا لا يقل عن ثلث إجمالي عدد أعضاء البرلمان، ثم تناقش مرتَين في الجلسة العامة، ويتطلب اعتماد أي مشروع قانون لتعديل الدستور أغلبية ثلاثة أخماس إجمالي البرلمان في اقتراع سرّي”.
مسار التعديلات الدستورية عالميًّا يقود إلى 3 اتجاهات: الإجماع الشعبي على التعديلات، وهذا يستحيل تقنيًّا وسياسيًّا؛ البرلمان، عبر مبادرة نوابه باقتراح التعديلات عبر آليات محددة؛ السلطة التأسيسية التي يحددها الدستور منذ تطبيق التجربة للمرة الأولى عام 1776، بعد استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا.
ومقترح التعديلات الدستورية إما أن يصدر عن عدد محدد من الناخبين (الحالة السويسرية)، وإما يقرّه البرلمان كما في معظم دول العالم، وإما عبر السلطة التنفيذية، وإما بمعرفة الجهتَين الأخيرتَين عبر هيئة يحقّ لها إقرار التعديلات، والآلية التي تتم بها (الأغلبية البرلمانية أو الاستفتاء الشعبي بعد موافقة رئيس الجمهورية).
وخلال كتابة الدساتير عبر جمعية تأسيسية، تقوم الأمّة بانتخاب هيئة خاصة تتولى وضع الدستور باسمها ونيابة عنها، وينتهي بانتهاء إقرار الدستور أو استفتاء دستوري (طرح المواد للاستفتاء الشعبي)، ولا يحق للبرلمان (السلطة التشريعية المنتخبة) وضع دستور بل تعديل بعض مواده، إلى جانب وضع التشريعات العادية فقط.
وهناك فروق محددة بين آلية الجمعية التأسيسية وآلية الاستفتاء الدستوري الأكثر استقلالية، كون الشعب يمارس سيادته بنفسه، لكنها تفتقد الخبرة والتخصص في الحكم على المواد الدستورية وتداعياتها في المستقبل، على عكس خبرة الكفاءات في الحكم على مواد الدساتير قبل إقرارها.
مسار تاريخي
مصطلح الدستور فارسي الأصل، يعني التأسيس والتكوين والنظام والقاعدة المؤسسة للعملية التشريعية (أنظمة وقوانين ولوائح خاصة بكل القطاعات)، وهو عنوان لشكل الدولة ونظام حكمها (ملكي أو جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أو برلمانية أو رئاسة تنفيذية كما في تجربة تركيا)، فضلًا عن واجبات وحقوق الأفراد والجماعات.
تاريخيًّا، عرف العالم “الدستور المنحة” (صادر عن إرادة الحاكم المطلق لمنح بعض الحقوق للشعب)، وبظهور نظريات فلسفية اجتماعية تعارض الحكم المطلق، شاركت الشعوب نسبيًّا في وضع “الدساتير التعاقدية”، وبانتشار المبادئ الديمقراطية (الشعب مصدر السيادة) ظهر دور الجمعيات التأسيسية المنتخبة لكتابة الدساتير.
منذ مسودة حمورابي في بابل العراقية عام 1754 قبل الميلاد، عرف العالم الدساتير الحديثة في بولندا وأمريكا وفرنسا وفي الشرق الأوسط (تونس عام 1861، إسطنبول عام 1867 والقاهرة عام 1882)، عبر محاولات استهدفت إنقاذ الحكومات التي كانت تواجه عدة مخاطر داخلية وخارجية.
وفي تركيا (العثمانية)، بدأت مؤشرات الاهتمام بمفهوم الدستور في عهد السلطان سليم الثالث، ومصطفى الرابع (حكم عامي 1807-1808) والسلطان عبد المجيد، ثم أعلن السلطان عبد الحميد الثاني الدستور قبل تجميده، والعمل به في فترة الثورة الدستورية مطلع أغسطس/ آب 1908.
ورغم أن التجارب الدستورية العثمانية لم تصمد بسبب الاضطرابات التي شهدتها الإمبراطورية نتيجة العدائيات الإقليمية، فقد تم في القرن العشرين وضع حوالي 4 دساتير (أعوام 1921، 1924، 1961 و1982)، والأخير لا يزال معمولًا به حتى الآن، وشهد ما يقرب من 19 تعديلًا.
وقرر أول برلمان وطني في تركيا (20 يناير/ كانون الثاني 1921) إلغاء دستور عام 1876 الذي كان معمولًا به إبّان الدولة العثمانية، واستبدله بدستور جديد، ومع نهاية حرب الاستقلال وافق ثلثي أعضاء البرلمان التركي (20 أبريل/ نيسان 1924) على الدستور الجديد للبلاد (تم تعديله لاحقًا حوالي 7 مرات).
النظام السياسي التركي منذ معاهدة لوزان عام 1923 وإعلان ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، كان مدعومًا بنظام دستوري يمنحه كل السلطات لحماية “المبادئ الكمالية” (الجمهورية والشعبية والعلمانية والقومية وسيطرة الدولة والإصلاح).
وتواصل العمل بدستور عام 1924 حتى عام 1960، وتم إلغاؤه بعد انقلاب 27 مايو/ أيار 1960، والبدء بكتابة دستور جديد أقرّه استفتاء 9 يوليو/ تموز 1961، إلى أن بادر قادة الانقلاب العسكري (12 سبتمبر/ أيلول 1980) بوقف العمل به، وإقرار دستور 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1982 بعد استفتاء شعبي.
خلاصات ضرورية
بالمحصلة، فإن الدستور (أي دستور) ليس حزمة قوانين صمّاء، بل عملية تشاركية وتوافقية تجمع بين مصالح متناقضة أحيانًا ومتباعدة سياسيًّا أو ثقافيًّا في حالات أخرى، تأكيدًا على تلاقي القوى والتيارات الفاعلة حول ضرورات الحاضر ومسارات المستقبل، من خلال تجسير العلاقة بين مقومات السلطة وآفاق الحرية.
وسواء كان الدستور مكتوبًا أو عرفيًّا، مطولًا أو مختصرًا، دائمًا أو مؤقتًا، مرنًا أو جامدًا، فالمطلوب أن يوضح أهداف الدولة وإطارها الشامل وكل ما يتعلق بمؤسساتها، خاصة أنه قد جرت العادة في معظم الاستفتاءات (على نسبية نزاهتها وشفافيتها وعدد المشاركين فيها)، على أن تنتهي بـ”نعم” لما هو مطلوب.
يحدث ذلك رغم سخونة الصراعات السياسية بين القوى المتنافسة، وعمق عمليات الاستقطاب فيما بينها لأسباب ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وعليه إن كتابة الدستور التركي الجديد، أو حتى تمريره إجرائيًّا، ليس نهاية المطاف، فالأهم تلاقي الرغبات حول تعزيز الاستقرار والتوسع في التنمية.
النصوص الدستورية، على أهميتها، ليست مقياسًا، قيمتها تنبع من القيم والقواعد التي ترسخها، وألا تصبح (بسبب التناقض والتعارض والهشاشة والغموض والانحياز) عرضة للتعديلات الدائمة التي تعرقل بناء مؤسسات قوية متوازنة وديمقراطية تقوم بمسؤوليتها بكفاءة، فهل تفعلها تركيا وتنجز دستورًا يليق بالمئوية الثانية؟