لم يعلم ذلك الشاب الفقير في مقاطعة تشيجيانغ الصينية أن إصراره ومثابرته سيضعانه في أعلى المراتب في بلده، فمرات الفشل التي واجهها في مسيرته لم تثنه عن المحاولة، إذ تقدم للكثير من الوظائف وتلقى أكثر من 30 رفضًا، كما لم يكن شخصًا مبدعًا في المدرسة وفشل مرتين في تجاوز امتحان القبول لدخول الجامعة، وينظر إلى الجامعة التي التحق بها على أنها أسوأ جامعة في مدينته وهي جامعة هانغشتو.
إلا أن بطل قصتنا يعتبر فشله الدراسي في بداية حياته، مثالاً على أهمية النظر إلى الإبداع وليس إلى مجاراة الرتابة المدرسية، وتعثّره في البداية، أحد العوامل التي ساعدته على تأسيس شركة “علي بابا” الصينية.
فحماسة ذلك الشاب وتوقه للتعلم والوصول جعل منه نجمًا صاعدًا في بلده وهو اليوم يتربع على عرش أغنى شخص من بين ملياري شخص في الصين، ذلك الشاب هو “جاك ما” مؤسس ومدير شركة “علي بابا” الذي بات اليوم أغنى رجل في الصين وفقًا لما أوردته مجلة فوربس مؤخرًا، حيث بلغت صافي ثروة الرجل نحو 31.1 مليار دولار، فضلاً عن كونه في المرتبة الـ21 ضمن قائمة أثرياء العالم، كما أدرج اسمه بين أسماء عمالقة التكنولوجيا في العالم أمثال جيف بيزوس مدير ومؤسس شركة أمازون، وتيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل، ومارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيس بوك.
بداية الشركة
ولد جاك ما في أسرة فقيرة، والداه كانا فنانين يؤديان أغانٍ شعبية من نوع السرد القصصي الملحن، اهتم باللغة الإنجليزية وشغف بها حتى تعلمها بنفسه، حيث كان يركب دراجته 40 دقيقة يوميًا وعلى مدى 8 سنوات للوصول إلى فندق بالقرب من بحيرة “هانغشتو” للاحتكاك مع السياح وتقديم خدماته لهم كدليل سياحي، فضلاً عن رغبته في ممارسة اللغة الإنجليزية، إذ ساهمت تلك السنوات في صقل لغته الإنجليزية جيدًا، ويقول في إحدى مقابلاته إن ما تعلمه في المدرسة والكتب مختلف جدًا عما تعمله مع السياح.
تعد مجموعة علي بابا أكبر شركة تجارة إلكترونية في العالم، حيث تتجاوز مبيعاتها السنوية 170 مليار دولار ويعمل بها أكثر من 22 ألف موظف
لم تكن المهنة التي امتهنها بعد التخرج من الجامعة سوى عامل محفز له نحو البحث والتطور، إذ عمل بعد تخرجه من الجامعة كمدرس لغة إنجليزية براتب 100 إلى 120 يوان أي ما يعادل نحو 12 – 15 دولارًا شهريًا، فتقدم للسفر إلى الولايات المتحدة إلا أن طلبه رفض مرتين، إلى أن سنحت له الفرصة وسافر في العام 1995 ليعمل كمترجم في ولاية سياتل، التي منها بدأت رحلته نحو اقتناص الفرص وبناء الثروة.
في تلك الزيارة عرف جاك الإنترنت من أصدقائه ولمس لأول مرة في حياته لوحة مفاتيح الكومبيوتر، فلمعت أولى الأفكار في ذهنه، وهي البيانات، وفكر كيف يمكنه أن يسخر البيانات المنتشرة في بيئة الأعمال الصينية، وتمثل الحل بافتتاح دليل للأعمال التجارية يجمع فيه بيانات الشركات العاملة في الصين وأطلق على الموقع اسم “الصفحات الصينية”.
إلا أن الفكرة لم تلق رواجًا كبيرًا ولم تحقق ما كان يصبو إليه، فأدخل تعديلات على الفكرة لتصبح شركة للتجارة الإلكترونية وافتتحها في العام 1999 بعدما جمع 18 صديقًا في شقته في مدينة هانغشتو الصينية.
لم يكن عدم امتلاك المال مانعًا لجاك ما لعمل المشروع، إذ اتبع فكرة “التمويل الجماعي” مع أصدقائه وجمعوا نحو 60 ألف دولار لإطلاق موقع “علي بابا” نسبة إلى قصة مغارة علي بابا المليئة بالكنوز والمعروفة عالميًا باسم “علي بابا واللصوص الأربعين”، فما إن يفتح الزائر الموقع حتى يرى كنوزًا أمامه من سلع وخدمات بأسعار مناسبة للجميع.
دخلت علي بابا بوابة العالمية في 2014 بعد عرض أسهم الشركة للاكتتاب العام أمام المستثمرين في بورصة نيويورك، حيث جمع ما يصل إلى 25 مليار دولار، مما جعل منه أكبر اكتتاب على الإطلاق
إطلاق الموقع شكل انعطافة مهمة في حياة “جاك ما” فالخدمة التي وفرها كانت جديدة على الصين وجذابة بالنسبة للشركة التي تود تصريف منتجاتها وللمستهلك الذي يريد أن يشتري إلكترونيًا، بحيث يرى عروضًا متنوعة وأسعارًا مختلفة وفي منصة واحدة.
ألهمت جاك فكرة موقع “إي باي” الأمريكي للتسوق الإلكتروني، وحاول دائمًا مجاراته ومنافسته، و “إي باي” هو موقع للتسوق الإلكتروني انطلق في العام 1995 ويمثل دور الوسيط بين البائع والمشتري، ويفتح المجال لأي شخص لعرض أو شراء المنتجات.
وفي العام 2003 توسعت شركة علي بابا أكثر وبدأ يستقطب الأنظار وكجزء من تطور الشركة أطلق جاك الموقع الإلكتروني التجاري “تاوباو” لينافس موقع إي باي الصيني، وبحلول العام 2005 اكتسب الموقع 70% من سوق التسوق الإلكتروني في الصين.
وفي العام 2005 تحالف موقع ياهو الصيني مع شركة علي بابا الصينية مما زاد من أرباح واستثمارات الشركة، وفي أواخر العام 2012 تم إدراج الشركة في بورصة هونغ كونغ للأوراق المالية وهو ما أعطاها رافعة مالية كبيرة جعلها من أكبر الشركات قيمة في العالم.
تتجه شركة علي بابا لتصبح أول شركة تجارة إلكترونية في التاريخ تجري فيها معاملات بيع وشراء بقيمة تريليون دولار أمريكي
ودخلت بوابة العالمية من أوسع أبوابها في سبتمبر 2014 بعد عرض أسهم الشركة للاكتتاب العام أمام المستثمرين في بورصة نيويورك، حيث جمع ما يصل إلى 25 مليار دولار، مما جعل منه أكبر اكتتاب على الإطلاق.
إمبراطورية علي بابا
تعد اليوم مجموعة علي بابا أكبر شركة تجارة إلكترونية في العالم، حيث تتجاوز مبيعاتها السنوية 170 مليار دولار ويعمل بها أكثر من 22 ألف موظف في أكثر من 70 مدينة حول العالم، وتعمل الشركة بشكل رئيسي على تسهيل التجارة الإلكترونية بين الأفراد والشركات والتجار على الصعيدين العالمي والصيني.
ومجموعة مواقع “علي بابا” مسؤولة عن أكثر من 60% من الطرود التي يتم تسليمها بالصين وتمثل الشركة نحو 80% من التجارة الإلكترونية في الصين، كما أن خدمة الدفع الإلكتروني “علي باي” تتولى تقريبًا نصف التحويلات المالية الإلكترونية ضمن الصين.
موقع تاوبو التابع لشركة علي بابا يعد من بين أكثر 20 موقع زيارة في العالم، والشركة عبارة عن موقع يستطيع فيه المستخدمون بيع بضائع لبعضهم البعض، مثل موقع إي باي، ويقدر عدد المنتجات في الموقع بما يقارب مليار منتج من 7 مليون مستخدم، كما دخلت علي بابا في مجال الإقراض أيضًا، فمنذ ثلاث سنوات تقدم الشركة قروضًا صغيرة (وسطيًا 8000 دولار أمريكي) للتجار الذين يستخدمون الموقع، مما منحها كمًا هائلاً من البيانات التي تستطيع استخدامها لتبني عليها استراتيجيتها، وقدمت الشركة قروضًا بقيمة 600 مليون دولار في عام 2012.
تمثل علي بابا نحو 80% من التجارة الإلكترونية في الصين، كما أن خدمة الدفع الإلكتروني “علي باي” تتولى تقريبًا نصف التحويلات المالية الإلكترونية ضمن الصين
خبراء في التجارة الإلكترونية وصفوا مجموعة “علي بابا” الصينية المتخصصة في التجارة الإلكترونية بأنها تمثل “شركات إي باي وأمازون وخدمة الدفع (باي بال) دفعة واحدة” وذلك بسبب حجم المبيعات الضخم لتلك الشركة، والبالغ قرابة 170 مليار دولار سنويًا، وبرأس مال يترواح بين 120 و180 مليار دولار.
في العام 2013 جرت تداولات بقيمة 240 مليار دولار في شركتين لعلي بابا، وهذا الرقم ضعف حجم تداولات شركة أمازون، وثلاثة أضعاف حجم إي باي وثلث حجم تداولات الشركتين المنافستين مجتمعتين، ولدى علي بابا 231 مليون مشترٍ نشط سنويًا، يقومون بنحو 11.3 مليار طلب شراء سنويًا.
يشير محللون أن اسم الشركة ينطبق عليها تمامًا، إذ دخلت إلى مغارة علي بابا المليئة بالكنوز وأغلقت الباب ورائها كناية عن صعوبة منافسها في السوق، إذ تتمتع المجموعة بميزة قد تجعل منها منافسًا شرسًا “لإي باي” على المدى الطويل، وهي أنها – بخلاف مواقع البيع الأخرى – لا تفرض رسومًا لا على البائع ولا على المشتري، حيث تمول نفسها حصريًا عن طريق العائدات التي تجنيها من الإعلانات، الأمر الذي قد يمكنها من الاستحواذ على حصة كبيرة من سوق التجارة الإلكتروية العالمية.
في العام 2013 جرت تداولات بقيمة 240 مليار دولار في شركتين لعلي بابا، وهذا الرقم ضعف حجم تداولات شركة أمازون، وثلاثة أضعاف حجم إي باي
كما أن حجم مبيعات الشركة – وفق تقديرات الخبراء – يفوق حجم مبيعات موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” والذي يقدر بـ15 مليار دولار، وهو ما يدل على الإمكانيات الكبيرة التي تتوفر عليها “علي بابا،” ويشير خبراء أن الشركة تتجه لتصبح أول شركة تجارة إلكترونية في التاريخ تجري فيها معاملات بيع وشراء بقيمة تريليون دولار أمريكي، إذ لدى علي بابا فرص للنمو في المستقبل بشكل كبير، فمئات الملايين من المواطنين الصينين لم يجربوا التسوق إلكترونيًا بعد، وهؤلاء فرصة كبيرة لعلي بابا لجذبهم لهذه الخدمة، ويتوقع المحللون أن سوق التجارة الإلكترونية في الصين سيكون أكبر من الأسواق الحالية في كل من الولايات المتحدة، اليابان، ألماينا، فرنسا مجتمعة بحلول عام 2020.
حجم مبيعات علي بابا يفوق حجم مبيعات موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” والذي يقدر بـ15 مليار دولار
من منطلق البيئة التي خرج منها والإنجازات التي حققها لا يعتبر جاك أن النجاح أمرًا مستحيلًا حتى في ظروف اقتصادية سيئة كالتي يعيشها العالم في الأوقات التي لحقت الأزمة المالية العالمية 2009، ففي ذلك العام نصح جاك الشباب بأخذ زمام المبادرة وعدم انتظار من يحقق لهم أحلامهم وأمانيهم أو انتظار الوظائف الحكومية أو الخاصة، وعوضًا عن هذا التحرك لإطلاق المشاريع الخاصة واقتناص الفرص من المجتمع والواقع الذي نعيش به أيًا كان هذا الواقع، ويرى جاك أن أكبر الثروات في العالم حققها أناس استغلوا الفرص وأكد أن فترة ما بعد الأزمة العالمية هي فترة توفر أرضًا خصبة لإطلاق المشاريع الجديدة.