“نحن نحاول ألا نكرر ذات الطريقة مرتين، التقنيون لدينا يقضون جل وقتهم في ابتكار طرق جديدة للقتل”، يقول أحد مدراء جهاز الموساد، لكن يبدو أن منهجية الاغتيال على الأراضي التونسية تكاد تخلو من أي إبداع أو ابتكار يدعيه العدو الصهيوني ويتبجح فيه بقدرات جهازه الموساد بوصفه آلة القتل الأعلى كفاءة بين جميع أجهزة الاستخبارات العالمية.
فالموساد وتونس حكاية الأمس التي نثرت فصولها بين ست عمليات منذ عام 1985 في أولى عملياتها ضد المقاومة الفلسطينية والتي عرفت آنذاك بـ”الساق الخشبية” بالتعاون مع سلاح الجو الصهيوني، إلى أحدث عملياتها باغتيال النسر القسامي محمد الزواري في الخامس عشر من شهر كانون الأول لعام 2016.
في الـ30 من شهر نيسان لعام 2017 بثت قناة الجزيرة الإخبارية تحقيقًا ضمن برنامجها “ما خفي أعظم” بعنوان “طيار المقاومة” تناول الفيلم ملابسات اغتيال الزواري، مجموعة من الحقائق والروايات وقف عليها الفيلم تستحق المراجعة.
في صفاقس جمعية للطيران علنية
يغادر الزواري تونس مجبرًا عام 1991 بعدما أصبح ملاحقًا ومطلوبًا أمنيًا لنشاطه الطلابي المدافع عن الحريات والحقوق، يعود إلى تونس في عام 2011 وبعد عامين يؤسس أول جمعية للطيران من نوعها في تونس، تعرف بـ”نادي طيران الجنوب”، الجمعية لا ترعى أعمال الهواة أو صناعة الطائرات الورقية بل تؤسس لصناعة معقدة في عالم الطائرات بلا طيار، والممول الوحيد لهذه الجمعية هو الزواري.
ولم يكتفِ الزواري بتعليم طلابه صناعة الطائرات، بل وكيفية تصنيع مستلزمات تلك الطائرات في حال عدم توفر المواد الأولية، وأكد رضوان الزواري شقيق محمد الزواري بأن شقيقه كان يعلِم السلطات الأمنية التونسية بموعد تجارب الطيران قبيل كل تجربة طيران يجريها مع تلاميذه.
جمعية علنية بهذه المواصفات في عالم عربي كافية لتقلق العدو الصهيوني وتطلق إشارات التنبيه في سراديب الموساد لمعرفة ماهية هذه الجمعية التي استطاع منفي منذ 20 عامًا عن وطنه تدشينها بعد عامين فقط من وصوله وتحمل أعبائها المالية
إن جمعية علنية بهذه المواصفات في عالم عربي كافية لتقلق العدو الصهيوني وتطلق إشارات التنبيه في سراديب الموساد لمعرفة ماهية هذه الجمعية التي استطاع منفي منذ 20 عامًا عن وطنه تدشينها بعد عامين فقط من وصوله وتحمل أعبائها المالية كافة.
بلا شك ستحظى هذه القصة باهتمام الموساد حتى وإنْ لم يكن لدى الموساد أي شبهات تربط المهندس بكتائب عزالدين القسام، فكيف إن كانت هناك تصورات سابقة لدى الموساد عن شخصية طيار المقاومة؟ هذا الظهور المكشوف لخبرات وقدرات النسر القسامي هل كان ضروريًا؟ إنْ كان الهدف تأسيس مختبر يدعم المقاومة الفلسطينية ممثلة بكتائب عز الدين القسام هل كان لزامًا على الزواري تصدر المشهد؟
“كريس سميث” الخطر يقترب
في أوائل شهر آب لعام 2015 يراسل شخص مجهول باسم “كريس سميث” جامعة “تونس المنار” حيث يكمل الزواري دراسته في المدرسة الوطنية للمهندسين التابعة لها، يقدم سميث نفسه على أنه مدير تنفيذي لإحدى الشركات التنقية التي ترغب بالتعاون مع الجامعة في مجال الطائرات دون طيار، يقول محمد الصالح عبيد المشرف على أبحاث الزواري بأن سميث جاء وقابل الزواري وحينها أعرب الأخير عن شكوكه في هذا الشخص الذي علم بمشروع محلي على صعيد محدود، ومما زاد شكوك الزواري عن حقيقة سميث هو انقطاع أخباره واختفائه بعد مقابلة واحدة أجراها مع الزواري.
يقول تامر المسحال وهو مقدم برنامج “ما خفي أعظم” بأن المعلومات التي عرف بها سميث نفسه كاذبة باستثناء قدومه من المجر.
لماذا لم تدفع الشكوك التي ساورت الزواري باتجاه اتخاذه قرار مغادرة تونس أو الاختفاء من جديد ولو مؤقتًا؟
والسؤال هنا لماذا لم تدفع الشكوك التي ساورت الزواري باتجاه اتخاذه قرار مغادرة تونس أو الاختفاء من جديد ولو مؤقتًا، ربما السفر إلى السودان مثلًا التي سبق وأقام فيها؟ لماذا لم يتم التأكد من هوية سميث قبل الموافقة على لقائه كما استطاع الصحفي تامر المسحال بسهولة التعرف على زيف بيانات سميث من خلال اسم الشركة التي نسب نفسه إليها؟
المشاهد الحصرية من غزة
بث فيلم الجزيرة مشاهد حصرية للزواري في غزة في أثناء اختباره لتجارب إطلاق طائرات في وضح النهار، يظهر فيها الشهيد – نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا – بهيئته ووجهه بشكل واضح كما هو في تونس، لماذا لم يسع الشهيد بعد مغادرته غزة البقعة المراقبة على مدار الساعة إلى التنكر وتغيير هيئته حتى وإن كان ذلك بأبسط طرق التنكر؟
إلى تركيا قبيل الاغتيال
يقول رضوان الزواري إن شقيقه سافر إلى تركيا قبيل اغتياله بأقل من عشرة أيام ولدى عودته ظهر عليه الاضطراب، كانت هذه إجابة رضوان عما إذا كان لدى الشهيد أي مخاوف من اغتياله على يد الموساد.
تركيا آخر وجهة للشهيد، هناك حيث يتحرك الموساد بأريحية بتعاون مع بعض الجهات الأمنية التركية، هذا وقد سبق أن قدم أعضاء من حركة حماس عدة تقارير لجهات الأمن التركية تفيد بتعرضهم للمراقبة وتلقيهم تهديدات حقيقية تستهدف حياتهم.
وأمام برودة استجابة أجهزة الأمن التركية لهذه المخاوف، أدركت حماس بأن ظهرها عارٍ ولا يمكنها الاعتماد على الحماية التركية، الأمر الذي أحدث حالة من القلق لدى الجناح العسكري لحركة حماس المقيم في تركيا، ومن المعلوم بأن الأراضي التركية شهدت سلسلة اغتيالات غامضة من مختلف أجهزة الاستخبارات العالمية لمعارضين يقطنونها وعديدة هي ملفات الاغتيال التي قيدت ضد مجهول، فهل كان سفر الزواري محسوبًا بدقة إلى أرض مشرعة الأبواب للبنادق المأجورة!
نقاط المراجعة لتحركات المهندس المشار إليها آنفًا لا تلمح أبدًا إلى إهمال من قبل المهندس في تحركاته، إنما هي مراجعات لرجل خطيئته الوحيدة إيمانه بوطنه حرًا مستقلًا واعتقاده بأن علمه موسوعة مجانية يعز عليه احتكارها
النسر القسامي محمد الزواري كان قطبًا نفيسًا وعميد هندسة لا يمكن الالتقاء به كل يوم ولا تتعثر به المقاومة على جنبات الطرقات، جمع بين إبداع عزيز الوجود ومصداقية البذل في سبيل قضية يؤمن بها إلى ما بعد الحياة، خامة علمية مصقولة بالنور تعد حمايتها مشروعًا في حد ذاته لا يقل أهمية عن مشاريع تطوير تقنية التسلح للمقاومة، ويتحمل الموساد الصهيوني جريرة اغتياله ويشترك معه تقاعس الأمن التونسي في ملاحقة الجناة وتجريم الاحتلال الصهيوني.
إن نقاط المراجعة لتحركات المهندس المشار إليها آنفًا لا تلمح أبدًا إلى إهمال من قبل المهندس في تحركاته، إنما هي مراجعات لرجل خطيئته الوحيدة إيمانه بوطنه حرًا مستقلًا واعتقاده بأن علمه موسوعة مجانية يعز عليه احتكارها، فآثر بذرها في أرض خصبة لشباب تونسي ماجد يرقب فلسطين على أجنحة الطير.
هل كان على الشهيد أن يستوطن الخنادق، أن يدفن نهار عمره في ظلمة الأنفاق وبلاده الخضراء على مد البصر؟! كم هي ظالمة بلادنا العربية عندما تلفظ الألماس من أبنائها وتبعثره زجاجًا يرشح بالدماء، لا أملك الإجابة على هذا السؤال، لكنني على يقين لو كتبت للشهيد الحياة كان مشروع الغواصة المسيرة عن بعد الذي عكف على تطويره كفيلًا بقلب موازين المعركة لصالح المقاومة.