تروج أخبار قريبة من اليقين في تونس أن الجهات الدولية المانحة وبالأخص البنك الدولي ألقى أوامره إلى حكومة تونس ورئيسها خاصة بأنه غير راضٍ عن تمرير قانون “مصالحة الفاسدين”، لأنه لم يعد قادرًا أو بالتدقيق راغبًا في ضح أموال في ماكينة فساد غير منتجة، ويمكن أن يتخلى عن الاقتصاد التونسي ويترك البلد لمصيره المجهول الذي يفتح على الفوضى.
ولهذه الأخبار أثر كبير على السياسة في تونس، وسنحاول هنا استقراء بعض ما يمكن أن ينجر عن مثل هذه التهديدات من تحولات سياسية قريبة ومتوسطة المدى، أما المدى البعيد فاعتقد أنه لن يخرج عن سيطرة مؤسسات الإقراض الدولية التي تقبع في خلفية الصورة وتلقى الأوامر للدول الحائرة في أمرها مثل تونس.
الملاحظة الأولى: القانون لم يسقط بقوة داخلية
قامت مظاهرات شبابية كثيرة ضد القانون آخرها يوم 13 من مايو 2017 واجتمع فيها خلق كثير من شباب مستقل وشباب تيارات سياسية متخف، ورفعت صوتها عاليًا ضد القانون لكن لم يصدر من الحكومة والرئيس (صاحب المشروع) أي ردة فعل منسجمة مع طلبات الشارع.
فاعقب ذلك نوع من الإحباط أو الترقب اليائس، لكن منذ رواج خبر الأوامر البنكية بدأت تيارات سياسية تعلن استبشارها بنهاية القانون وتعطف على نهاية نظام الفساد.
الخلاصة أن الحكومة لا تعطي أي قيمة للاحتجاج الشعبي ولا تجامله بل تنظر إليه من عليائها المتغطرسة، والواقع أن لها بعض الحق في تكبرها على شارع سياسي مفتت ومتناحر بشأن القضايا الفرعية تناحرًا ضيع قدرته على التوافقات الكبرى بخصوص القضايا الكبرى.
الشارع المتحزب لم يفلح في إثارة الشارع العادي ضد القانون
هذا الشارع المتحزب لم يفلح في إثارة الشارع العادي ضد القانون لكن لما قام شباب حر بذلك قفز السياسيون لركوب المظاهرة، وفي الأثناء فرضوا على هذا الشارع شعارات سياسية من أجنداتهم التقليدية الميتة، وكان الرئيس يراقب ويعرف أن مثل هذا الشارع لا يسقط قانونه، فهو شارع قابل للاختراق والتحريف نحو تفاصيل فرعية، وربما كان هو من اخترقه بقطاع الطرق السياسية الذين نعرفهم الآن ونعرف أجنداتهم القصيرة النفس.
تسود الآن روح شماتة في الرئيس لأن البنك الدولي أسقط أو يوشك أن يسقط قانونه، لكن لا أحد ينتبه أن تلك الشماتة أكبر علامة عجز سياسي تعيشها الساحة التي تفرح بقرارات مؤسسات دولية مخترقة للسيادة، يشبه أمر النخبة السياسية حالة استبشار رجل عاجز جنسيًا بحمل زوجته من جهة مجهولة، فالمهم أنه سيصير أبًا على الورق، قد نكتب في الأسبوع القادم انهزم الرئيس بقرار دولي ولم تنتصر المعارضة.
الملاحظة الثانية: الساحة ستتغير كثيرًا بسقوط القانون
كان مرور هذا القانون كجرعة أكسجين لطبقة رجال الأعمال التي مولت حزب النداء منذ نشأته وربح بأموالها انتخابات 2014، وسيكون جرعة حياة تجعل حزب النداء يستعيد لحمته ويطمع في الحكم بقية المدة وما بعدها إلى خمس سنوات قادمة أو أكثر.
لكن سقوط النص وبصيغته التي قدمها الرئيس سيكون الضربة القاصمة لظهر حزب النداء (أو من تبقى منه مع ابن الرئيس) سينقطع المدد المالي، فرجال الأعمال الفاسدين لن يناصروه بعد أن عجز عن حماية أموالهم ومواقعهم طيلة هذه الفترة، سيهرب منهم من يستطيع الهرب وهم قادرون ولديهم أموال كثيرة في الخارج، خاصة طبقة المستثمرين في السياحة.
اعتمدت مؤسسات الإقراض الدولية على نظام بن علي الذي كان يحكم الشارع بهذا الحزب ويمكنه تمرير السياسات اللاشعبية التي يأمره بها والآن وقد نزل الحزب ورئيسه تحت تلك السياسة بدرجات وهو ما جعل البنك الدولي يرفض الاستمرار في الاعتماد عليهم
لقد قام هذا الحزب على أنقاض حزب بن علي (التجمع) وعلى نفس القاعدة الانتهازية ربح السياسة بالمال وزيادة المال بالسياسة، ووصل الآن إلى نهاية طريقه، بما يعني أن احتمالات انهياره نهائيًا صارت ممكنة ومنظورة لكثيرين، وبما يعني السؤال المصيري من سيحل محله وأين سيذهب فلوله هذه المرة وقد انعدم رابطهم وانقطعت وشائجهم؟
لقد اعتمدت مؤسسات الإقراض الدولية على نظام بن علي الذي كان يحكم الشارع بهذا الحزب ويمكنه تمرير السياسات اللاشعبية التي يأمره بها والآن وقد نزل الحزب ورئيسه تحت تلك السياسة بدرجات وهو ما جعل البنك الدولي يرفض الاستمرار في الاعتماد عليهم، لا بد من بديل فمن يكون البديل؟ توجد معضلة حقيقية في أروقة البنك الدولي هنا لأن الرأس الأبرز في الساحة هي رأس حزب النهضة فهل يكون البديل؟ (حزب إسلام سياسي يسنده البنك الدولي ستكون أول حالة في التاريخ).
الملاحظة الثالثة: أمام فرصة تغيير حقيقة ما زال الصراع ضد الإخوانجية يحكم النخب
إسقاط القانون يهيئ كما أسلفت فرصة حقيقية للانقضاض على فلول التجمع المندسة في النداء وإخراجها وبالطرق الديمقراطية من الساحة السياسة وركنها في انتظار موتها البيولوجي لا السياسي.
لقد تهيأت هذه الفئة إلى موتها لأنها لم تفلح في مجاراة التاريخ وقانون التغيير الحتمي وأصرت على فسادها وما كان لها أن تفعل غير ذلك فقد ولدت فاسدة وتربت في الفساد ورعته لتعيش منه، والآن تبدو مشرفة على نهايتها حتى دون قانون العزل السياسي الذي لم يفلح المعارضون لها في فرضه.
لا يبدو الطيف السياسي العلماني واليساري والتقدمي (كل الصفات الحميدة له) مستعدًا لتنظيم نفسه والحلول محل حزب النداء أو أخذ مساحة واسعة من الفعل السياسي على حساب من تبقى منه، كما لا يبدو مستعدًا للإجهاز عليه بصفته حزب الفساد والإفساد، بل يبدو مستعدًا فقط لمحاربة حزب النهضة
إنها طبقة تحتضر وموتها أقرب، لكن معارضيها القدامى لا يقدرون على الحلول محلها لأنهم يعيشون فسادهم أيضًا وإن كان فساد رأي لا فساد مال (فلم يترك لهم التجمعيون فرصة أن يكونوا أغنياءً)، إن فسادهم هو بقاءهم في تلك المعركة الخاسرة سلفا ضد الإسلاميين (الإخوانجية).
يصر رموز كثر من النخبة السياسية الديمقراطية على خوض المعركة الخطأ في الوقت الخطأ ورغم مؤشرات كثيرة على أنهم يخسرون كل يوم مربعًا أمام الإسلاميين المتماسكين والذين يتقنون مناورات البقاء بل يربحون مربعات إضافية منها التهيؤ للفوز بثقة المقرضين الدوليين بصفتهم حزب قادر على القيادة ويمكن ألا يعيد ممارسات الفساد التجمعية السابقة (أقول يمكن ولا أجزم لأن مستويات الثقة في الحزب وممارساته ليست ممكنة قبل ممارسة الحكم فعلاً والاكتفاء بخطاب حسن النية لا ينتج موقفًا).
لا يبدو الطيف السياسي العلماني واليساري والتقدمي (كل الصفات الحميدة له) مستعدًا لتنظيم نفسه والحلول محل حزب النداء أو أخذ مساحة واسعة من الفعل السياسي على حساب من تبقى منه، كما لا يبدو مستعدًا للإجهاز عليه بصفته حزب الفساد والإفساد، بل يبدو مستعدًا فقط لمحاربة حزب النهضة الذي ينظر إلى مكان الحزب الأول ويريد الحلول فيه والحكم به.
عوض قسمة ميراث التجمع مع النهضة، يبدو لي أن كل الطيف السياسي يسعى لمنع النهضة من الغنيمة ولو ضحى هو نفسه بقسط متاح منها فالمهم عنده ألا تكون النهضة.
حكومة تكذب لتعيش
فجأة وبعد خطابات متشائمة طيلة الثلاثية الأولى من السنة المالية الجارية فاجأتنا الحكومة بالأخبار عن نسبة نمو تفوق 2%، من أين خرجت النسبة ولماذا الآن بعد خطاب الرئيس المضطرب والمرتبك؟ لا نعلم سوى أن النتائج على الأرض لا تدل على نمو إيجابي بل على مؤشرات سلبية، مؤشرات البطالة في ارتفاع وغلاء الأسعار يكوي الفقراء ورمضان على الأبواب وهو شهر الاحتكار والغش بامتياز.
الوضع الاقتصادي والسياسي لا يبشر بخير في تونس، ونعتقد أننا في نهاية مرحلة ربما تكون آخر مرحلة في انهيار دولة بورقيبة/ بن علي التي أفلحت في المرور من غربال الثورة لكنها لم تفلح في النجاة من فسادها الداخلي
نعتقد أن الحكومة قد دخلت مرحلة الكذب وهي مرحلة الأشهر الأخيرة من وجودها، لأنها تتنفس بقصبة مصطنعة من أرقام لا دليل عليها، وأزمتها الداخلية (خمسة وزراء مقالين) تدل على عجز كبير في الإدارة، وقد أخضعها اعتصام الجنوب إلى حلول لم تكن ترضيها لكنها انكسرت هناك وخضعت، والآن تتهيأ بقية المناطق لاعتصامات مماثلة ما دامت الحكومة يمكن أن تخرج فجأة من جرابها حلولاً مثل حل الجنوب (وهو حل سيثبت كذبه قريبًا) ليعود الاعتصام في آخر الصيف.
هنا قد تبدو الخلاصة متشائمة، نعم الوضع الاقتصادي والسياسي لا يبشر بخير في تونس، ونعتقد أننا في نهاية مرحلة ربما تكون آخر مرحلة في انهيار دولة بورقيبة/ بن علي التي أفلحت في المرور من غربال الثورة لكنها لم تفلح في النجاة من فسادها الداخلي الذي سينهار بها وستحمل معها في انهيارها كل الطبقة السياسية التي تربت على معارضتها علنًا والأكل من فتات مائدتها سرًا، لولا أن أملاً يولد في شباب جديد لم يقو على الانتظام الفعلي بعد لكنه يحاول وقد نجح في الكامور/ تطاوين جنوبًا وسينجح في اعتصام العرقوب (دوز/ محافظة قبلي).
دولة جديدة تتهيأ في رحم شعب عاطفي وغير منظم، لكن بوصلته واثقة من شمالها، وقد قدمت لهم هيئة الحقيقة والكرامة وجبة ثورية ليلة 20 من مايو بتقديم اعترافات أحد رموز الفساد يعترف ويعتذر ويتمسح بالأعتاب.