أثار القرار الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بخصوص إنهاء عضوية رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، بسبب ارتكابه مخالفات قانونية، العديد من التساؤلات حول مستقبل الدور السياسي للحلبوسي في العملية السياسية، خصوصًا أن القرار الذي أصدرته المحكمة حسب توصيفها، هو قرار قطعي وباتّ ولا يجوز الطعن فيه.
جاء قرار المحكمة الاتحادية بناءً على شكوى بالتزوير ضد الحلبوسي، قدّمها ضده النائب السابق ليث الدليمي، ونظرت المحكمة في وقت سابق في الدعوى عدد (9- اتحادية- 2023)، وقررت بموجب الحكم الصادر فيها إنهاء عضوية الحلبوسي.
إذ أفاد محامي النائب ليث الدليمي، في وقت سابق، أن المحكمة الاتحادية قررت إنهاء عضوية الحلبوسي، وذكر المحامي في تسجيل فيديو أن المحكمة الاتحادية نظرت في الدعوى المقامة من موكله ليث الدليمي ضد الحلبوسي، مبيّنًا أن القرار الذي اتخذته المحكمة تضمّن فقرات كثيرة وصفها بـ”المهمة والكبيرة”.
مثّل الحلبوسي الجيل الثاني من القيادات السنّية التي ظهرت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وتمكن من أن يكسب السباق على الزعامة السنّية بعد أن نجح في إقصاء العديد من القيادات، وحقق في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أُجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، المرتبة الأولى على مستوى المحافظات السنّية، عبر قيادته لتحالف “تقدم”.
ونجح عبر تفاهمات مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، أن يشكل تحالفًا ثلاثيًّا، قبل أن يعلن الصدر انسحابه من العملية السياسية ويتفكك التحالف، ليجد الحلبوسي نفسه مجبرًا على الانخراط في تحالف إدارة الدولة بقيادة قوى الإطار التنسيقي، وتشكيل حكومة محمد شياع السوداني.
إن انخراط الحلبوسي ضمن هذا التحالف، لم يجعله في مأمن عن إمكانية استهدافه سياسيًّا، خصوصًا عبر نجاح قوى الإطار في توظيف العديد من القرارات التي صدرت عن المحكمة الاتحادية، في فرض مزيد من الضغوط على إقليم كردستان العراق بوقت سابق، سياسيًّا واقتصاديًّا.
ورغم أن الحلبوسي حاول أن يكسب ثقة بعض قوى الإطار، وفي مقدمتهم زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، إلّا أنه واجه هجومًا عنيفًا من قيادات أخرى في الإطار التنسيقي، وتحديدًا الفصائل المسلحة التي نظرت إليه على أنه جزء من مشروع إقليمي يستهدف وجودها في العراق.
العودة إلى قاعدة الإقصاء من جديد
بعيدًا عن الجانب القانوني في قضية الحلبوسي الأخيرة، إلّا أنه من جهة أخرى أعادت هذه القضية الحديث عن القرارات المسيَّسة للمحكمة الاتحادية، خصوصًا أن قرارها الأخير تضمّن العديد من الإشكالات الفنية والقانونية.
فما حدث للحلبوسي لم يكن الأول ولن يكون الأخير، إذ إنه وعلى مدار 20 عامًا من التجربة السياسية في العراق بعد عام 2003، لم تستطع أية زعامة سنّية أن تستمر لأكثر من دورة انتخابية، وذلك نابع بالأساس من حالة الصراع السياسي داخل الوسط السنّي، فضلًا عن نجاح القوى السياسية الشيعية في إدارة وتوظيف هذا الصراع لصالحها.
إن طريقة تعامل القوى السياسية الشيعية لم تختلف مع القيادات السنّية، فرغم انخفاض الخطاب السياسي الطائفي في البلاد بعد نهاية الحرب على تنظيم “داعش”، إلّا أن هناك عنصرًا حاسمًا في استراتيجية تعامل القوى الشيعية وإيران مع الوسط السياسي السنّي، والذي يتمثل بعدم السماح ببروز قيادات سنّية يمكن أن تغير من المعادلة السياسية، ولعلّ هذا ما دلّلت عليه السيناريوهات التي انتهت إليها القيادات السنّية بعد عام 2003، ما بين منفي ومعتقل ومبتعد عن العمل السياسي.
وليس هذا فحسب، بل سبق قرار المحكمة الاتحادية العديد من الإجراءات التنفيذية التي اتخذتها حكومة السوداني بالضدّ من شخصيات سياسية محسوبة على الحلبوسي، وتحديدًا عبر تحريك العديد من ملفات الفساد الخاصة بمحافظ الأنبار، إلى جانب إجراءات إدارية طالت بعض المناصب الخدمية في محافظة الأنبار ونينوى، وهو ما يضفي مسحة سياسية على محاولات إقصاء الحلبوسي عن المشهد السياسي.
فرغم أن قرار المحكمة الاتحادية أنهى عضوية الحلبوسي في مجلس النواب، إلّا أن حالة الأبوية السياسية التي تتسم بها العملية السياسية في العراق، جعلت هناك رابط عضوية بين “الزعيم” و”الأتباع”، وهو ما بدا واضحًا في إعلان تحالف “تقدم” الذي يقوده الحلبوسي مقاطعته لجلسات مجلس النواب، فضلًا عن إعلان وزراء التخطيط والصناعة والثقافة التابعين للتحالف تقديم استقالاتهم من مجلس الوزراء.
إن التوقيت الذي صدر فيه قرار المحكمة الاتحادية يثير العديد من التساؤلات حول الأسباب التي تقف وراءه، خصوصًا مع استعداد العراق لإجراء الانتخابات المحلية في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، إذ إن إعلان الصدر عن مقاطعة العملية الانتخابية يوم الاثنين الماضي، إلى جانب إمكانية إعلان الحلبوسي عن المقاطعة أيضًا، قد تنعكس سلبًا على مشروعية الانتخابات المقبلة.
وبالتالي سينعكس ذلك سلبًا على حالة الاستقرار السياسي في البلاد، والتي تأتي مترافقة مع حالة ارتباك أمني يعيشها العراق، نتيجة قيام بعض الفصائل المسلحة بتوجيه ضربات صاروخية لمواقع ومقرات أمريكية داخل العراق، أو على الحدود مع سوريا، بسبب الحرب الدائرة في غزة، فضلًا عن تصاعد الهجمات التركية على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
المستقبل السياسي للحلبوسي
رغم أنه من المبكّر الحديث عن المستقبل السياسي للحلبوسي، إلّا أنه بناءً على الردود الأولية التي صدرت عن تحالف “تقدم”، في بيان له ردًّا على إنهاء عضوية الحلبوسي، الأمور ماضية نحو التصعيد السياسي في البلاد، فإزاحة الحلبوسي عن المشهد السياسي قد تنتج بدورها حالة من الفراغ السياسي في الوسط السنّي، وهو فراغ ستسعى العديد من القوى السنّية والشيعية لشغله.
فالتركة السياسية لتحالف “تقدم”، سواء على مستوى البرلمان أو الحكومة، قد تعيد تشكيل المشهد السياسي، فضلًا عمّا يمكن أن تنتجه من تداعيات سياسية على مستقبل تحالف “تقدم”.
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة السيناريوهات التي انتهت إليها الزعامات السنّية السابقة، يشير بما لا يقبل الشك إلى أن المستقبل الذي ينتظر الحلبوسي لن يكون استثناءً من القاعدة، كما أن ابتعاد الحلبوسي عن المشهد السياسي فيما لو تم، سيهدد بدوره مستقبل “تحالف تقدم”.
قهو في النهاية ليس حزبًا سياسيًّا أيديولوجيًّا، إنما قائمة انتخابية جمعتها علاقة زبائنية مع الحلبوسي، قد تجد نفسها مجبرة على الاندماج ضمن تحالفات أخرى، أو التفكك وإعادة تشكيل تحالف جديد بقيادة جديدة، ضمن عناوين محلية على مستوى كل محافظة.
فقرار المحكمة الاتحادية الأخير لم ينهِ المستقبل السياسي للحلبوسي فحسب، إنما سيمنعه من الترشح أو قيادة أي تحالف سياسي، وهو واقع قد تجد بعض قيادات تحالف “تقدم” غير قادرة على الاستمرار به، ما سيجعلها أمام خيارات معقدة، بين الاستمرار مع الحلبوسي أو الانشقاق عنه.
ومن ثم إن التحديات التي تنتظر المستقبل السياسي للحلبوسي كبيرة ومتعددة، فضلًا عن تداعيات هذا المستقبل على الدول الإقليمية الراعية له، فهي الأخرى ستكون مجبرة على إعادة ترتيب أوراقها ضمن الواقع السياسي الجديد، خصوصًا أن الحلبوسي جعل من نفسه جزءًا من توازن إقليمي داخل الوسط السنّي بصورة خاصة، والعراقي بصورة عامة.
إن التحدي الأبرز الذي يشكّله إنهاء دور الحلبوسي، يتمثل في إمكانية أن يؤدي ذلك إلى إعادة تشكيل الهيكل السياسي السنّي، الذي يواجه العديد من الضغوط الداخلية والخارجية، خصوصًا أن قوى الإطار التنسيقي ستحاول استغلال هذا الخلل السياسي، الذي يأتي مترافقًا مع انسحاب تامّ للصدر من العملية السياسية.
ويمكن القول إن الصراع على ملء فراغ الحلبوسي سيكون له تأثيرات محتملة على مستوى الحراك السنّي، ومع ذلك إن إمكانية بروز هذه التأثيرات سيكون مرتبطًا بصورة كبيرة على مدى التفاعل السياسي السنّي من جهة، والقبول والدعم الإقليمي من جهة أخرى، لأي قيادة جديدة.
إذ إنه وبعد مغادرة قيادات سنّية سابقة، حدثت العديد من المتغيرات في الساحة السياسية العراقية والسنّية تحديدًا، وتشكلت توازنات إقليمية على أساس هذه المتغيرات، ومن ثم إن مرحلة ما بعد الحلبوسي ستكون خاضعة لمحددات داخلية وخارجية متعددة ومترابطة.