المواقف لا تظهر إلا في الشدائد والأزمات، فهي التي تكشف لك الحقائق المخفية، وهذا ما حصل مؤخرًا بشكل جلي خلال العدوان الصهيوني المتواصل منذ أكثر من شهر ضد أهلنا في قطاع غزة والضفة الغربية وباقي فلسطين المحتلة.
الكثير من قادة الدول العربية كانوا لا يفوتون فرصة للحديث عن دعمهم اللامحدود للقضية الفلسطينية، ويغازلون الشعوب بالكلام المعسول والشعارات الرنانة عن دعم فلسطين والانتصار للقضية المركزية الأولى للعرب وفق ادعاءاتهم المتكررة.
بعض القادة تجاوزناهم، نعرف حقيقتهم ويدهشنا إن أقدموا على القيام بخطوات ملموسة -لا سمح الله- تضامنًا مع الفلسطينيين، لكن ثمّة قادة سحروا الشعوب بمواقفهم الكلامية وعنترياتهم الصوتية للتعبير عن مدى ارتباطهم بالقضية الفلسطينية.
من هؤلاء؛ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي سبق أن أكد في أبريل/نيسان 2022 أن فلسطين هي توأم الجزائر، وأنه لن يتخلى عنها مهما كان الحال، لكن الأسابيع الأخيرة كشف أن تصريحاته القوية ليس أكثر من كتابة على الماء.
ادعاءات تبون بنصرة فلسطين
ضمن حديثه المتكرر عن القضية الفلسطينية، أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن هذه القضية بالنسبة للجزائر بمثابة “أم القضايا عبر كل الأزمنة”، مشددًا على أن الشعب الفلسطيني يجب أن يحصل على حقوقه غير منقوصة، وأن القدس هي عاصمة دولة فلسطين.
قارب عدد شهداء فلسطين خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 12 ألف شهيد
في موضع آخر، قال تبون في اجتماع حكومي إن “فلسطين هي قضية وطنية بالنسبة إلى الجزائر، ونحن لا نقبل الاستعمار” لها، مضيفًا أنه “لو استعمرت فلسطين أقوى دولة في العالم فسنبقى ندعمها. وفلسطين للفلسطينيين، وليست لغيرهم”.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحدث تبون في أكثر من مناسبة عن دعم بلاده للحق الفلسطيني، واصفًا ما يحدث في غزة بـ”جرائم حرب مكتملة الأركان”.
موقف باهت
يقول تبون إن نظامه كان دائمًا إلى جانب الشعب الفلسطيني قولًا وفعلًا، لكن للأمانة لم نسمع إلا القول فقط أما الفعل فلم نر منه شيئًا حتى هذه اللحظة، فتبون امتهن الكلام كغيره من القادة العرب.
دعت الجزائر إلى اتخاذ مواقف أكثر حزمًا تجاه القضية الفلسطينية، وتوحيد الصف العربي من أجل هذه القضية، إلا أن رئيسها غاب عن القمة العربية الطارئة التي عقدت، السبت، في العاصمة السعودية الرياض، كرد على عدم مشاركة الملك سلمان أو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في القمة العربية التي استضافتها الجزائر نهاية العام الماضي.
بلى، نحن متفقون على أن لا جدوى من القمة العربية التي عقدت في الرياض، لكن كان يمكن لحضورها أن يعني شيئًا أكثر من الغياب وحده.
دعا عبد المجيد تبون لرفع دعوى قضائية ضد الكيان الإسرائيلي في محكمة الجنايات الدولية لإنهاء عقود من الإفلات من العقوبة التي استفاد منها هذا الكيان المحتل، متسائلًا عن العدالة في العالم والحق للشعوب المضطهدة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، وقد كان له أن يعطي أوامره لسلطات بلاده لتقديم هذه الدعوة وهو أمر بسيط مقدور عليه، لكنه أبى أن يفعل ذلك واكتفى بالكلام كالعادة.
أقصى ما استطاع فعله النظام الجزائري بقيادة تبون، موافقته على احتضان الجزائر لكل مباريات المنتخب الفلسطيني لكرة القدم، سواء الودية أم الرسمية في تصفيات كأس العالم وكأس آسيا والتكفل بكل التكاليف المتعلقة بهذه الأحداث الرياضية، وهو الأمر الذي رفضه الاتحاد الأسيوي، كون الجزائر تنتمي للاتحاد الإفريقي.
الزعيم #عمي_تبون #تبون_يمثلني #فلسطين #غزة pic.twitter.com/je8hsHqd0u
— صحراوي منير 🇩🇿🇵🇸 (@SmOunir1) November 7, 2023
حتى المظاهرات الشعبية الداعمة لأهلنا في فلسطين، منعها نظام تبون، واكتفى بالسماح ببعض المظاهرات المتفرقة، إذ يمنع النظام الجزائري التظاهر منذ وصول تبون إلى سدة الحكم في ديسمبر/كانون الأول 2019.
يخشى النظام الجزائري أن يسمح بالتظاهر فيخرج الجزائريون عن بكرة أبيهم إلى الشوارع للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وأن يؤدي ذلك إلى: أولًا إحراج النظام الذي امتهن الكلام فقط دون أن يكون له فعل يُذكر، وثانيًا أن تتحول تلك المظاهرات إلى فعاليات شعبية مناهضة للنظام.
يعلم تبون جيدًا أن نسبة الثقة الشعبية في نظامه تكاد تكون منعدمة، لعدم قيامه بأي إنجاز منذ وصوله إلى سدّة الحكم قبل 4 سنوات، لذلك يخشى المظاهرات الشعبية، خاصة أنها سبقت أن أطاحت بسلفه الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
أوراق ضغط كثيرة
في يونيو/حزيران 2022، علقت الجزائر “معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون” مع إسبانيا المبرمة سنة 2002، احتجاجًا على تحول موقف مدريد إزاء ملف الصحراء الغربية ودعم موقف المغرب من هذه القضية، وتنص المعاهدة الإسبانية الجزائرية على تعزيز الحوار السياسي بين البلدين على جميع المستويات وتطوير التعاون في المجالات الاقتصادية والمالية والتعليمية والدفاعية.
صدر هذا القرار، رغبة من الجزائر في الضغط على مدريد حتى تعدل موقفها من قضية الصحراء الغربية، رغم أن الموقف الإسباني الجديد من القضية لم يسفر عن آلاف القتلى والمصابين، ولا عن تدمير مدينة بأكملها.
ترتبط الجزائر بعلاقات قوية مع إيطاليا وباقي الدول الأوروبية، وهذه الدول هي الداعم الأبرز لكيان الاحتلال
قارب عدد شهداء فلسطين خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 12 ألف شهيد، منهم 4650 طفلًا و3145 امرأة، فيما بلغ عدد المصابين 29 ألفًا و200، أكثر من 70% منهم نساء وأطفال، مع وجود 3600 بلاغ عن مفقود، منهم 1755 طفلًا لا يزالون تحت الأنقاض.
دمرت “إسرائيل” 25 مستشفى و52 مركزًا صحيًا، فيما تأثرت نحو 60% من الوحدات السكنية في قطاع غزة بالعدوان بين هدم كلي وغير صالح للسكن وهدم جزئي، أي أن عدد الوحدات السكنية التي تعرضت إلى هدم كلي بلغ 42 ألف وحدة سكنية، إضافة إلى 223 ألف وحدة تعرضت للهدم الجزئي.
لكن يبدو أن النظام الجزائري كغيره من الأنظمة العربية، لم ير حجم هذه الكارثة التي يعاني منها أبناء فلسطين الأبية، فإن كان يراها لما صمت هذا الصمت المريب؟ وإن كان يراها وصمت بإرادته فتلك الطامة الكبرى التي لا نريد تصديقها.
للجزائر أوراق ضغط كثيرة يمكن استعمالها لنصرة فلسطين، غير المواقف اللفظية طبعًا، فلها ورقة الغاز والنفط التي يمكن استعمالها للضغط على الدول الأوروبية الداعمة للكيان الصهيوني الغاصب، حتى تكف عن دعمه وتضغط عليه لوقف جرائمه ضد الفلسطينيين.
مظاهرة حاشدة لطلبة جامعة باتنة في الجزائر دعما لغزة.#مستشفى_المعمداني #فلسطين_الان pic.twitter.com/82bNEilCAN
— رؤى لدراسات الحرب (@Roaastudies) October 18, 2023
وترتبط الجزائر بعلاقات قوية مع إيطاليا وباقي الدول الأوروبية، وهذه الدول هي الداعم الأبرز للاحتلال، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وللجزائر أن تستغل هذه النقطة لصالح القضية الفلسطينية وتفعل دبلوماسيتها لحث هذه الدول على تعديل موقفها مما يحصل من إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
للجزائر أن تستغل ورقة التنسيق الأمني والاستخباراتي مع الدول الغربية وواشنطن حتى تضغط عليهم، فتستطيع أن تهدد بوقف هذا التنسيق في حال استمر الدعم الغربي الفاضح للكيان الصهيوني، وهي ورقة ضغط قوية.
ليس هذا فقط، يمكن أن تُفعّل الجزائر دبلوماسيتها الرسمية لحث الدول العربية والإسلامية والإفريقية لاتخاذ موقف أقوى بخصوص ما يحصل في غزة، فتواصل العدوان يُنبئ بكارثة أكبر بحق الشعب الفلسطيني.
يمكن ويمكن ويمكن، يمكن أن يكف عن ابتزاز شعبه باستخدام القضية الفلسطينية أداة لتعزيز شعبيته على طريقة “محور المقاومة” في إيران ولبنان وسوريا، إما القيام بخطوة جادة، أو إبلاغ الفلسطينيين أنهم لوحدهم.