اقتحام بالدبابات الثقيلة، تفجير لمستودعات الأدوية والمستلزمات الطبية والقبو الداخلي، استهداف ممنهج لغرف العمليات، طرد واعتقال الأطقم الطبية والموجودين في الداخل، نزع أجهزة التنفس الاصطناعي عن المرضى ودفعهم للخروج، ترهيب الجرحى والمصابين وذويهم عبر إطلاق الرصاص والقذائف من داخل الأقسام، إسقاط عشرات الشهداء من الأطفال الخدج والنساء وكبار السن بين الدقيقة والأخرى، دفن جماعي للضحايا ممن لقوا حتفهم جراء القصف ونقص العلاج.. كان هذا ملخص ما دار داخل مجمع الشفاء الطبي بوسط غزة صباح اليوم الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 على أيدي قوات الاحتلال البربرية.
على مدار أسبوع كامل يمارس جيش الاحتلال بحق مجمع الشفاء الطبي كل أنواع الانتهاكات التي جرمها القانون الإنساني الدولي، حصار بالمدرعات، قطع للوقود والكهرباء والمياه، منع دخول المستلزمات الطبية، فصل كل أنواع الخدمات المقدمة لغرف العمليات الجراحية والأطفال، قطع الأكسجين عن حضانات الأطفال الخدج، ترهيب جميع من بالداخل عبر البيانات التحذيرية والقصف الذي لم ينقطع بين الحين والآخر، لإجبار الجميع على الاستسلام والخروج.
عاجل | مصادر للجزيرة مباشر: قوات الاحتلال قامت بتفجير مستودع للوقود وغرف بمبنى الجراحات التخصصية وإتلاف مولدات كهربائية في #مجمع_الشفاء_الطبي #الجزيرة_مباشر #غزة #غزة_لحظة_بلحظة pic.twitter.com/3N42Fr6YZt
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 15, 2023
ينطلق الاحتلال الغاشم في إجرامه بحق هذا الصرح الطبي الذي يحتمي به الآلاف من المرضى والأطفال الخدج والرضع، والنساء والعجزة، والفارين بحياتهم من ويلات القصف، استنادًا إلى مزاعمه بأن المجمع يضم مركز قيادة تابعًا لحركة المقاومة الإسلامية حماس، معطيًا لنفسه الحق عبر مزاعمه الواهية في ارتكاب جريمة حرب لم يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وبينما تدخل الحرب المعلنة على غزة يومها الأربعين، ها هو الكيان المحتل يحقق انتصارًا مدويًا في معركة قتل الأطفال والنساء، واستهداف الجرحى والمصابين، وتدمير المستشفيات ومراكز الإيواء، أما الأهداف التي أعلنها بشأن القضاء على حماس وتدمير بنيتها التحتية، فالفشل هو سيد الموقف حتى اليوم.
جريمة حرب مكتملة الأركان
بينما كان الاحتلال يدعي إعلاميًا بأنه يجلب الحليب للأطفال وحضانات جديدة لهم، إذ به يقطع عنهم الأكسجين ويمنع وصول المياه والوقود ويفصل الكهرباء ويحول نهارهم إلى ليل دامس، وأنسهم داخل غرفهم وعياداتهم إلى أشباح موحشة، في تناقض فاضح يكشف زيف ادعاءاته وسياسة التضليل والخداع التي يمارسها مع الرأي العام الدولي.
يصف المدير العام للمستشفيات في قطاع غزة محمد زقوت تفاصيل الاقتحام قائلًا إن العملية تمت دون أي مقاومة من داخل المستشفى، حتى من الأطقم الطبية، خشية تعرض المرضى والأطفال للإيذاء، لافتًا في مقابلة له مع “الجزيرة” إلى أن قوات الاحتلال اقتحمت مبنيي الجراحات والطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، كما دخلت قبو المجمع وفتشته.
وأضاف أن جنود الاحتلال الذين دنسوا المستشفى، أطلقوا النار على كل من حاول الخروج من الممر الآمن الذي طالب جيش المحتل الموجودين بالمجمع الخروج منه، مضيفًا أنه أبلغ مندوبة الصليب الأحمر أن جيش الاحتلال اقتحم المجمع، محملًا إياه مسؤولية ما يترتب على تلك المجزرة من ضحايا.
شهادة امرأة عالقة في #مستشفى_الشفاء لحظة اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي له#الجزيرة_مباشر #غزة #غزة_لحظة_بلحظة pic.twitter.com/SbLD2lIlY0
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 15, 2023
وما إن دخل جنود الاحتلال المستشفى حتى مارسوا أبشع الجرائم بالداخل، ففجروا القبو الداخلي ومخازن الأدوية والمستلزمات المتبقية لإسعاف وعلاج المرضى، ودمروا مولدات الكهرباء لفصل التيار بالكامل عن الأقسام كافة، كما نكّلوا بكل الموجودين بالداخل، فرق طبية ومدنيين، وأخضعوا البعض لتحقيقات واستجوابات قاسية، استخدموا فيها الضرب والتعذيب وفق شهود عيان.
جريمة تتم بالصوت والصورة على مرأى ومسمع من العالم المتحضر الذي يدعي زورًا دفاعه عن الإنسانية والحضارة، وعبر الهواء مباشرة أمام أشاوس العرب والمسلمين الذين اكتفوا كغيرهم من النساء بمتابعة تلك التراجيديا السوداء من مقاعد الثكالى والمتفرجين، وسط عجز إقليمي ودولي عن نصرة الآلاف من المحاصرين داخل المجمع، في مشهد سيكون له تبعاته بلا شك بعد أن يُسدل الستار على تلك الحرب، أيًا كانت النتائج.
رواية مزيفة
منذ اليوم الأول للحرب يروج الاحتلال روايته المزعومة التي يحاول من خلالها تبرير استهداف المشافي والمدارس ومراكز الإيواء، تلك الرواية التي تستند إلى مزاعم اتخاذ حماس من تلك البنايات مقارًا لها، ومركزًا رئيسيًا لشبكة الأنفاق الأرضية، ومخازن أساسية لتخزين السلاح والذخائر التي تستخدمها ضد قوات الاحتلال.
تلك الرواية تجد صدى كبيرًا لها لدى الأوساط الأمريكية التي تستقي معظم معلوماتها التي تبني عليها مواقفها ومقارباتها من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومن ثم تدعم إدارة جو بايدن تلك العملية وسابقتها بشكل مطلق، لافتة إلى أنها عملية عسكرية في المقام الأول، الأمر الذي حولها إلى متورط وشريك أساسي في تلك الجريمة بحسب المحللين والخبراء والمنظمات الحقوقية.
المزاعم ذاتها استندت إليها قوات الاحتلال حين استهدفت مشافي الرنتيسي وشهداء الأقصى والقدس والأهلي المعمداني، وغيرها من المدارس في القطاع، وأودت بحياة الآلاف من الأبرياء، معظمهم من الأطفال، لكنها لم تسفر عن أي شيء، فلا مقار للمقاومة تم العثور عليها، ولا مقاتلين يتخذون منها مخابئًا، ولا مخازن للأسلحة، ولا نقاط ارتكاز لشبكة الأنفاق الأرضية.
وبعد الفشل في الخروج بأي نتيجة مقنعة بشأن المبررات التي ساقها الكيان المحتل لشرعنة اقتحام المستشفيات، لم يتبق أمامه إلا مجمع الشفاء الطبي، هذا الصرح الكبير الذي يسبق في نشأته تاريخ دولة الاحتلال بعامين كاملين، وما له من رمزية سياسية وتاريخية ولوجستية تقزم من حجم الكيان المحتل وتذكره بتاريخه الفاشل والقصير.
"10 ساعات مرت منذ اقتحام #مستشفى_الشفاء.. هذه الساعات يفترض أنها كافية ليخرج الاحتلال بشيء يؤكد صدق روايته المزعومة.. يجب العمل على نشر ما يعني فشل الاحتلال في إثبات روايته".. الصحفي حافظ أبو صبرة يتبنى تحذيرات مدير صحة #غزة منير البرش بشأن تحضير الاحتلال مسرحية مضللة في مجمع… pic.twitter.com/YsPUxBm4Z6
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) November 15, 2023
ما أهداف الاحتلال من اقتحام الشفاء؟
بعد 5 أيام من الحصار الكامل، وما يزيد على شهر تقريبًا من الاستهداف بين الحين والآخر، ها هو الاحتلال يدخل مجمع الشفاء، مدنسًا بأقدام جنوده ثرى جميع الأقسام والغرف والمخازن، ومحيط باحته بسرب من الدبابات والمدرعات والأسلحة الثقيلة.. فهل وجد مزاعمه؟
يدعي الاحتلال أن دخول المستشفى جاء بناء على معلومات استخباراتية توصل إليها بشأن اتخاذ المقاومة لهذا التجمع مقرًا لها، وعليه كانت عملية الاقتحام، لكن بعد ساعات قليلة من التغول داخل جنبات المجمع، كشف جيش الاحتلال أنه “لا معلومات عن وجود الرهائن في المستشفى” مؤكدًا أن عملية التمشيط متواصلة، وأنه لم تقع إصابات في صفوفه خلال العملية.
حركة الجهاد الإسلامي تقول إن الاحتلال حين فشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية في غزة اضطر للاستقواء على المدنيين والمرضى والأطفال والنساء، فكان اقتحام المشفى، في جريمة ضد الإنسانية ترتكب على مرأى من العالم أجمع، دون تحرك يحفظ ماء وجه الإنسانية الدولية المزعومة.
📍أدان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان اقتحام الجـ،ـيش الإسـ،ـرائيلي بتعزيزات عسكرية كبيرة مجمع #الشفاء الطبي في غزة وتحويله إلى ثكنة عسـ،ـكرية ومركز للاعتـ،ـقال والتنكيل بالمرضى والنازحين فضلًا عن الأطقم الطبية#أنقذوا_مستشفى_الشفاء pic.twitter.com/VLiu6bIh19
— نون بوست (@NoonPost) November 15, 2023
الصحفي المصري المتخصص في القضايا الإقليمية، أحمد إبراهيم، يرى أنه ليس هناك أي رمزية سياسية أو عسكرية لاقتحام مستشفى أو السيطرة عليه من الاحتلال، مستعرضًا 5 أهداف رئيسية يسعى جيش الاحتلال لتحقيقها من وراء تلك العملية: الأول: البحث عن أدلة تدعم روايته عن وجود أنفاق أسفل مستشفى الشفاء، الثاني: محاولة التوصل إلى خيط يقود إلى أسراه، الثالث: استغلال المجمع كثكنة عسكرية، الرابع: ادعاء تحقيق نصر وهمي، الخامس: محاولة إحباط معنويات المقاومة، مختتمًا كلامه بأنه يسير من فشل إلى فشل، خسائره فادحة وتفوق المعلن بأضعاف كثيرة، على حد تعبيره.
رأي آخر يشير إلى أن الهدف الرئيسي من وراء تلك العملية – بجانب ما تم ذكره – تدشين منطقة عزل آمنة بين قطاع غزة وغلاف المستوطنات بما يعزز العمق الأمني ويحول دون تكرار 7 أكتوبر/تشرين الأول مرة أخرى، وذلك في محاولة لإقناع النازحين من المستوطنين المغادرين لمستوطناتهم منذ بداية الطوفان بالعودة مرة أخرى، وإنقاذ إستراتيجية “الكيبوتس” التي يعتمد عليها الكيان لتوسعة رقعته الجغرافية في الأراضي المحتلة.
ماذا لو فشلت المهمة؟
السؤال الآن: ماذا يمكن أن تسفر عنه عملية اقتحام المجمع من نتائج وتداعيات؟ وهنا سيناريوهان: الأول هو الفشل بالفعل في العثور على أي أدلة تثبت مبررات المحتل الواهية في الاقتحام، وهنا سيكون عرضة للانتقادات الحقوقية والدولية، لا سيما بعد الانتهاكات التي ارتكبها بحق المشفى والمرضى والأطفال، التي رغم إثارتها للرأي العام الدولي لكن المواقف الرسمية تشبثت بالرواية الإسرائيلية المزيفة، وهي المواقف التي ستصبح في مأزق حقيقي إذا ما ثبت كذب ادعاءات الاحتلال.
أما السيناريو الثاني فهو عثور جيش الاحتلال على أدلة تدعم مبرراته، وهو السيناريو المستبعد حاليًّا في ظل المؤشرات الأولية بعد ساعات من الاقتحام، ونفي المقاومة له شكلًا ومضمونًا، والتي طالبت بتشكيل فريق من الخبراء الدوليين لزيارة المستشفى وتفتيشها للوقوف على كذب ادعاءات الاحتلال، هذا بخلاف تفنيد مسار المواجهات وأداء مقاتلي المقاومة لتلك الرواية، حيث الاشتباك في المناطق الشمالية من القطاع وليس في الوسط حيث يوجد مجمع الشفاء.
#عاجل | القناة ١٢ عن مسؤول إسرائيلي كبير: لم نكن نعتقد أننا سنعثر على مختطفين بالمستشفى لكن بالتأكيد سنحدد مكانهم pic.twitter.com/K3u8Rjcwdw
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 15, 2023
اعتاد الكيان المغتصب انتهاج سياسة قلب الحقائق والتضليل لتبرير إجرامه البربري، وعليه وأيًا كان السيناريو المحقق سيكون مضطرًا للترويج لأي انتصار زائف يدعم مزاعمه الكاذبة، ويجمل صورته الملطخة لدى الداخل والخارج على حد سواء، كما ذهب المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، الذي قال في تصريحات متلفزة: “الاحتلال سيفشل في إثبات أن مستشفى الشفاء هو مقر لقيادة المقاومة”، متوقعًا أن يُدخل الاحتلال أسلحة للمستشفى ويقوم بترتيبها بشكل معين ثم تصويرها لإيهام الرأي العام بصدق أكاذيبه.
الفشل سيد الموقف
وبعد 40 يومًا من بداية الحرب على غزة بات واضحًا أن النتيجة المحققة للكيان المحتل هي الفشل عبر أبعاده الثلاثة:
البعد العسكري.. حيث الفشل في إنجاز أي انتصار عسكري على حساب المقاومة، فلم يخرج أحد بأي أرقام أو إحصائيات بشأن عدد الضحايا في صفوف حماس والمقاومة وعدد الأسرى وعدد القواعد التي تم السيطرة عليها، بخلاف الخسائر الكبيرة التي تكبدتها قوات الاحتلال على أيدي مقاتلي حماس والموثقة بالصوت والصورة.
البعد الاستخباراتي.. إذ لم ينجح الجهاز الاستخباراتي لجيش الاحتلال في العثور حتى اليوم على أماكن الأسرى والرهائن لدى المقاومة، فبعد 40 يومًا كاملة من الحرب لم يستطع تحرير أسير واحد، وهو الملف الذي تفوقت فيه المقاومة بشكل كبير وواضح على كيان الاحتلال، ما أوقعه في مأزق كبير أمام الشارع الإسرائيلي المحتقن.
البعد السياسي.. فشل تحقيق أي إنجاز عسكري أو استخباراتي منذ انطلاق الحرب، يقابله انتهاكات إجرامية ضد المدنيين والأطفال، كل هذا زاد من تأزم الموقف السياسي الدولي تجاه الكيان المحتل، رغم الإصرار على الدعم المطلق، لكن هناك حالة من التململ داخل تلك المواقف بسبب الضغوط الشعبية المتصاعدة والرأي العام المحتقن.
وأمام هذا الفشل لم يجد الاحتلال أي سبيل للانتصار إلا على حساب الخدج والأطفال والنساء والعجزة، عبر قصف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، وتشريد مئات الآلاف وتفريغ مناطق الشمال من سكانها، وتشديد الحصار وتضييق الخناق بشكل يعرض حياة عشرات الآلاف للخطر، هذا الانتصار الذي يتوهم الكيان المغتصب أنه سيداري عورات فشله الفاضح، لكنه سرعان ما يتحطم فوق صخور عمليات المقاومة الباسلة وصمود أهل غزة.