تناولنا في الجزء الأول المحورين الرئيسين من مدخلات العطاس الفلسفية وهما: الجذور التاريخية للفكر الغربي المسيحي، ومفهوم العلمنة والعلمانية، وسنكمل الحديث عن المحاور الرئيسية المتبقية وتشمل الأسلمة والمأزق الإسلامي.
مفهوم الأسلمة
“الأسلمة عملية تحرير الإنسان من رؤيتين، الرؤية الخرافية، والرؤية العلمانية للوجود” – سيد محمد نقيب العطاس
تعني “الأسلمة”: تحرير الإنسان من السحر والأساطير والعقائد الخرافية وتحريره كذلك من التقاليد القومية والثقافية المناقضة للإسلام، ومن جهةٍ أخرى تحريره من سيطرة الرؤية العلمانية للحياة على فكره ولغته.
وبالتالي يعرف العطاس العلمنة بوصفها عملية تحرير، وما دام الإنسان كائنًا روحيًا وماديًا، فعملية التحرير تتجه إلى روحه وعقله وجسمه، وينتج عن عملية التحرير هذه أن تتوافق روح الإنسان وجسده ويسيران بطمأنينة نحو تحقيق طبيعة الإنسان الأصيلة، المتوائمة مع الطبيعة والوجود وباقي الكائنات.
ويرى العطاس أن بداية علمنة الدين المسيحي كانت بنقل مركز المسيحية من القدس إلى روما، علامة على بداية التغريب westernization وخضوعها لحشد من العناصر الثقافية الغربية، وأول تجليات هذا التغريب هو ترويم (جعلها لاتينية) Latinized مصطلحات الفكر الديني المسيحي، حتى إن مصطلحي الحكمة والمعرفة العلمية، أصبحا مصطلحين متنافرين نتيجة لهذا التغريب، وصارت العقلانية المادية المجردة وحدها هي المعنى المشار إليه، وفي مثل هذا السياق يمكن أن نفهم بشكل أوضح ما الذي قصده القاضي عبد الجبار المعتزلي عندما أشار لمثل هذا، حينما قال: “قد ترومت النصرانية، ولم تتنصر الروم”.
ونتيجة لهذه الملاحظة التاريخية، يرى العطاس أن الأسلمة أولًا، هي أسلمة اللغة، وقد بين القرآن هذه الحقيقة بوضوح وهو يتنزل على العرب، فاللغة والفكر والعقل أمور مترابطة، تتساند وتتعاضد في تكوين رؤية الإنسان الكلية للوجود ونظرته إلى الحقيقة.
فأسلمة اللغة مهمة لأن اللغة هي الوعاء الناقل للثقافة وهي أداة التعبير عن الحقيقة وعن وعي الإنسان ونظرته الخاصة للكون وذاته والوجود بأكمله، وأهمية أسلمة اللغة تكمن في كون مفرداتها الإسلامية الأساسية غير خاضعة للتغيير أو التطوير، ولا هي محكومة بتقلبات التغير الاجتماعي كما هو الحال في كل اللغات الأخرى التي تستمد فاعليتها من الثقافة والتقاليد.
يرى العطاس أن الإسلام هو الدين الذي يتعالى على تأثيرات “التطور الإنساني” ولا تحكمه أوضاع التاريخ والقيم الأساسية التي ينطوي عليها هي قيم مطلقة
والأسلمة على مستويين: الفردي والجماعي، أما على المستوى الفردي والوجودي، فالأسلمة عملية عودة ورجوع الإنسان إلى الطبيعة الأصلية والفطرة الأصيلة، حيث يمثل الرسول ﷺ المثل الأعلى للكمال البشري الذي يسعى الإنسان لتحقيقه.
وعلى المستوى الجماعي، فالأسلمة جهاد الجماعة وكدحها للتحقق بالصفات والخصال الخلقية للكمال الاجتماعي الذي تحقق في عهد الرسول ﷺ بهدي الله تعالى وتوجيهه.
ويرى العطاس أن الإسلام هو الدين الذي يتعالى على تأثيرات “التطور الإنساني” ولا تحكمه أوضاع التاريخ والقيم الأساسية التي ينطوي عليها هي قيم مطلقة، وأن للإسلام نظرته المطلقة لله تعالى وللكون وللحقيقة وللإنسان، وأنه له تفسيره الخاص لمفهوم الحقيقة بأبعادها الوجودية والنفسية، وله رؤيته الكلية للوجود ونظرته الخاصة للآخر وما تنطوي عليه من مغزى للوجود الإنساني.
العلمنة والإسلام
“ولأن مفهوم الدين في الإسلام يشمل الحياة في جوانبها كافة، فإن كل فضيلة هي فضيلة دينية” – سيد محمد نقيب العطاس
إن نمط التفكير الذي يفصل الوجود والحياة إلى ما هو “ديني” وما هو “دنيوي” ليس من التفكير الإسلامي في شيء، وإنما نمط تفكير معلمن، يرسم حدودًا وقطيعة بين الديني والدنيوي لغايات التجريد ونزع القداسة وإطباق هيمنة الرؤية المعلمنة على فكر الإنسان.
كما أن تجريد الطبيعة والوجود من مغزاها الروحي وبعدها العلوي، حولها إلى مجرد شيء صدفوي بلا أي معنى أو مغزى، وإنما مجرد تشكلات عشوائية يمكن تفسير حدوثها وتكونها علميًا، ومن جهةٍ أخرى نزع البعد الروحي من الإنسان، فتحول إلى مجرد كائن أرضي ومادي، تمحور حول نزعته الإنسانية، مما أدى إلى تأليهه هو نفسه، وأن يحل هو بدلًا من الخالق، وأخذ يعتمد على قدراته العقلية فحسب في بحثه في قضاياه الكبرى المتعلقة بمنشأه ومصيره، وفي إدارة الكون والمجتمعات، فتخبط وظلم نفسه وغيره وأخل بتوازنه الطبيعي.
والنظرة المعلمنة تجعل الإنسان ينظر إلى الدين، بوصفه دين ثقافي، أي أن الدين لا يعدو أن يكون مجرد ثقافة وتقاليد، ونظام من القيم والتقاليد والمعتقدات التي نشأت عبر التاريخ نتيجة لصراع الإنسان مع الطبيعة، مما يعني أنها أمور تتطور وتتغير وفق ما يمليه الشرط التاريخي والثقافي على الإنسان، وهو ما يختلف عن نظرة الدين الإسلامي لنفسه ولفاعليته وثباته كما توردها النصوص القرآنية والنموذج النبوي في أكثر من موضع.
الإنسان الغربي يميل دائمًا للنظر إلى ثقافته وحضارته على أنهما طليعة الحضارات والثقافات الإنسانية، وينظر إلى تجربته الخاصة ومستوى وعيه الوجودي باعتبارهما “أرقى” ما بلغه الجنس البشري
ويوجه العطاس نقدًا مباشرًا لأسطورة التقدم التي تتبناها الفلسفة الوضعية والرؤية المعلمنة، متسائلًا: إن التقدم ينبغى أن يكون باتجاه غاية واضحة، وثابتة ومعروفة، لا متغيرة وغير مجهولة، إذ كيف يقرن الوجهة بما هو “سيكون” وهو غير معروف، فإذا كانت الغاية غير معلومة، فكيف يكون الانخراط فيها تقدمًا؟ إن أولئك الذين يتلمسون طريقهم في الظلام لا يمكن القول بأنهم يتقدمون، وقد وصف القرآن ذلك، في قوله تعالى: {مثلهمْ كمثل الذي اسْتوْقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهب الله بنورهمْ وتركهمْ في ظلماتٍ لا يبْصرون} – البقرة (17)
إن الإنسان الغربي يميل دائمًا للنظر إلى ثقافته وحضارته على أنهما طليعة الحضارات والثقافات الإنسانية، وينظر إلى تجربته الخاصة ومستوى وعيه الوجودي باعتبارهما “أرقى” ما بلغه الجنس البشري، وهو يرى أن الآخرين جميعًا متخلفين عنه بمراحل، وأنهم سيبلغون مبلغه من الوعي والتجربة والخبرة يومًا ما في الوقت المناسب، فهو ينطلق في رؤيته هذه من إيمانه العميق بنظريات التطور الإنساني وأساطير التقدم والتحرر التي يقرأ بها التاريخ والإنسان والوجود.
المأزق الإسلامي والمشكلات الكبرى للمجتمع المسلم
“فالمشكلة إذًا مشكلة تربوية في الأساس، أعني غياب أو انعدام التربية الإسلامية المناسبة” سيد محمد نقيب العطاس
يستعرض العطاس تاريخ العالم الغربي وعلاقته بالعالم الإسلامي، مبينًا أثر الحضارة الإسلامية في تشكيل تاريخ العالم وأفكاره، ويستند في ذلك على العديد من المؤرخين مثل المؤرخ البلجيكي هنري بيران Henri Pirenne، الذي اعتبر أن ظهور الإسلام وانتشاره هو الذي قاد إلى انطلاق العصور الوسطى في أوروبا، وكيف أثرت الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وكذلك مراكز العلم في العالم الإسلامي، وعدد كبير من فلاسفة مسلمين وعلماء في التأثير على الفكر الغربي والمسيحي.
ويرصد العطاس كيف كانت الحضارة الإسلامية تضطلع بدور قيادي في إدارة الشؤون العالمية وسيادة العالم، ومن ثم تهاوت وتراجع دورها ونكصت، وأصابها ضعف متلاحق أدى إلى فقدان الحضارة الإسلامية فاعليتها وحضورها العالمي.
ويرجع العطاس هذا الضعف لعوامل خارجية وداخلية، أما العوامل “الخارجية” فتتمثل بالتقدم الأوروبي الذي بدأ بالثورة العلمية في القرن الثالث عشر والنمو التدريجي خلال القرون اللاحقة في الجوانب العسكرية والاقتصادية، بالإضافة للتوسع الجغرافي لأوروبا وإقامتها مراكز تجارية في المحيط الهندي خلال القرن السادس عشر قد كان لها انعكاسات اقتصادية خطيرة.
أما العوامل “الداخلية” فيمكن إجمالها بالآتي:
– التشويش والخطأ في المعرفة.
– انعدام الأدب وفقدان العدل.
– تولي قادة غير مؤهلين قيادة الأمة.
– زرع عناصر الرؤى الغربية للعالم في العقل المسلم من خلال أنظمة التربية والتعليم.
ويقصد بالتشويش، انحراف العقل المسلم عن رؤية التصور الإسلامي للوجود والمعرفة والحقيقة، فهو خطأ في فهم طبيعة المعرفة وطبيعة الإنسان وطبيعة الوجود.
وأما انعدام الأدب، فيعني فقدان النظام والانضباط الذي يستطيع به الإنسان أن يعرف مقامه المناسب في علاقته بنفسه وبالمجتمع وبالأمة، وأن يدرك قدر نفسه وإمكاناته الروحية والجسدية ويوازن بينها، ويتصل انعدام الأدب بفقدان العدل، والعدل هو الحال والوضع المتناغم بحيث يكون كل شيء في مكانه المناسب والمعد له، ويشمل هذا أن يكون الإنسان متسق مع طبيعته الإنسانية، وأن يكون النظام الكوني في تناغم، كل في مقامه يؤدي دوره دون اعتداء.
وأما القادة فهم قادة لا يتوفرون على الصفات الخلقية والفكرية والروحية العالية اللازمة للقيادة الإسلامية، بل إنهم يسعون إلى إدامة الوضع السيء.
ونجم عن هذه العوامل الداخلية تبعات فاقمت الوضع، وهي:
– تسوية العلماء والحكماء بمن هم دونهم.
– نخب مشوهة من أدعياء التحديث والإصلاح.
– التكييف الاجتماعي للإسلام Socialization of Islam
إذ نجم عن فقدان الأدب وانعدامه في الأمة الإسلامية أولًا، تسوية العلماء بمن هم دونهم، وهي عملية ذهنية وسلوكية يتم ارتكابها بواسطة تشجيع قيادات زائفة غايتها تدمير السلطات المرجعية الدينية، وهدم التراتب الهرمي الصحيح والشرعي لسلطة الحكماء والعلماء، والتقليل من شأنهم، مما يؤدي إلى تشويش معرفة المسلمين بالإسلام واضطرابهم، وحينها تصبح الساحة خالية لقدوم الشواذ والمتطرفين والمزيفين، ليؤثروا على الناس وتفكيرهم، بل وقد ينفذون إلى مواقع القيادة الدينية.
ونجم فقدان الأدب ثانيًا، تصدي نخب مشوهة تتدعي الإصلاح والتحديث، ومنها نخب تقليدية متحفظة ومنها نخب تحديثية معلمنة، نظرتهم للتراث والماضي متأثرة بالرؤى الغربية عن التطور الإنساني وأساطير التقدم ويدرسون التراث بأدوات استشراقية.
وهذه النخب التي تدعي أنها مسلمة وتريد تحديث الإسلام وإصلاحه، هي نخب بالأساس، لا يشكل الإسلام مبدأ تفكيرهم، وليس علماء المسلمين القدامى هم مثلهم الفكري الأعلى، بل مثلهم الفكري الأعلى رجالًا مثل روسو وكونت ومل وسبنسر وغيرهم، وإن ولاءهم منعقد للوطن على نحو يبدو فيه أن الولاء للوطن يفوق الولاء للإسلام.
وتمارس هذه النخب التحديثية عملية تكييف الإسلام اجتماعيًا وفق ما يطابق رؤاهم المستمدة من الرؤى الغربية المعلمنة، ويدعو التحديثيون إلى العقلانية على النمط الغربي، وهذه العقلنة تشمل كل شيء، بما فيه المقدس.
ولذا ينتج عن هذه العقلنة والعلمنة أمور عدة، مثل:
– التعامل مع الوحي كظاهرة طبيعية، وأحيانًا كأعراض سيكولوجية.
– التعامل مع القرآن الكريم، كأي كتاب آخر، يخضع للتحليل بأدوات نظريات التأويل واللسانيات.
– تسوية الرسول ومراحل حياته بمستوى جماهير الناس وإخضاعه لأدوات التحليل النفسي.
وأما النخب الإصلاحية التقليدية، فرغم محافظتها في كثير من الأحيان، إلا أنها وقعت في فخ العلمنة في كثير من الأحيان، بل وتأزم في مراحل معينة ما دفعه للتلفيق بدلًا من التوفيق، ويضرب العطاس مثال أولئك الذين انبهروا في القرن الماضي بمنجزات الغرب وحضارته وأفكاره، مما دفعهم مثلًا أن يتحدثوا وبحسن نية عن “الاشتراكية الإسلامية” أو “الاشتراكية في الإسلام”، ويحملهم العطاس المسؤولية عن التشويش المعرفي والديني الذي تسببوا به في أذهان عامة المسلمين وعما نجم من ذلك من خلاف وصراع.
وأخيرًا فالمشكلة بالأساس كما يرى العطاس، مشكلة تربوية، مشكلة في فلسفة التربية والتعليم في العالم الإسلامي، ويقترح العطاس تصورات أولية لفلسفة التعليم الصحيحة بنظره، وهو مشروع ممتد طور عليه وأثراه في مؤلفاته اللاحقة كما مارس تطبيق الكثير من رؤى فلسفته من خلال تطبيقها في المعهد العالي العالمي للفكر الإسلامي ISTAC الذي أسسه وصممه.
من الواجب التنبيه أن الكتاب لا ينتهي عند هذه المحاور، بل هناك فصول مهمة في الحديث عن مفهوم الدين وأساس الأخلاق في الإسلام، وكذلك في تحرير المعرفة من الرؤية الغربية، وملاحظات تربوية عديدة، بالإضافة لملحق الكتاب والذي هو عبارة عن دراسة حالة في الأسلمة: الأرخبيل الملايوي الإندونيسي.