من بلاد الأندلس إلى تونس انتقلت أكلة الحلالم أو بالأحرى نقلت عبر البحار خلال الهجرة الأندلسية إلى بلدان شمال إفريقيا سنة 1906م و1908م، لتتوارثها الأجيال وتحذقها النسوة على مر الأيام والسنين والعقود. وتصبح بذلك من أشهى الأكلات الشعبية التي تتصدر الطاولات والموائد التونسية إما في سائر الأيام أو خلال شهر البركة، شهر رمضان المبارك.
اشتهرت أكلة الحلالم في البداية بمدن الشمال حيث استقر المهاجرون الأندلسيون
وقد اشتهرت أكلة الحلالم في البداية بمدن الشمال حيث استقر المهاجرون الأندلسيون، مثل بنزرت ورفراف وراس الجبل والعالية وقلعة الأندلس وتستور، لتتحول فيما بعد إلى المناطق الساحلية والداخلية وحتى الأرياف.
تحويل العجين لخيوط باليد ليتم استخدامها في صناعة الحلالم
وفي القديم حين كانت النسوة يقبعن بالبيوت ويعشن في بيت العائلة الممتدة، كن يتجمعن لصناعة “الحلالم والنواصر والرشته” وجلها من الأكلات الأندلسية العريقة التي تعكس حذق الأندلسيين للحرف والمهن اليدوية المبتكرة، إضافة إلى “عولة الكسكسي والمحمص” التي تعد من العادات البربرية والأمازيغية، مما يعد شاهدًا على ثراء التاريخ التونسي وتنوع ثقافاته وعاداته وتقاليده.
واليوم لئن باتت أغلبية النساء يكتفين بشراء الحلالم الجاهزة للطبخ من محلات بيع المواد الغذائية وذلك لأن منهن من باتت تتخذها مصدرًا للرزق، فذلك لا يعني أن جل النسوة يرضين بما هو جاهز لذلك تراهن يهوين صناعة وإعداد المأكولات الشعبية بكلتا أيديهن.
ولا تتوانى الواحدة منهن أن تقوم بإعداد “الحلالم” بمفردها، فتراها تحضر الطحين أو الدقيق وزيتًا طبيعيًا وماءً فاترًا وقليلاً من الملح وتضعهم في قصعة وتقوم بالخلط والعجن حتى تصير عجينًا لينًا متماسكًا يسهل التعامل معه.
ولا تنسى صانعة الحلالم أن تحضر غرابيل، لتضع عليها ما سيعد من حبات حتى تجف وتصير جاهزة للطبخ، ويتهدج رنين صوتها بأغنية من أغاني الفنانة صليحة:
بخنوق بنت المحاميد عيشة ** ريشة بريشة عامين ما يكملوش النقيشة
بخنوق بنت المحاميد حده ** ردّه بردّه عامين مايردعوش بضدّه
يا مسلمين الله طيعوا الأسمر ** ما طاعت العربان باي العسكر
بخنوق بنت المحاميد دوجه ** موجه بموجه عامين ما يكملوش حروجه
قلت نهار السوق يا كذابة ** تعديت على حوشك مسكّر بَابَه
بخنوق بنت المحاميد بيّه ** ليّه بليه عامين تشعل علينا الثريا
بعد اللي لفظتِ علاش قلتِ لالا ** واللفظ عند الجِـيدّين عداله
لو كان ليلة البارح الليلة ** أنا والخليلة وعامين تشعل علينا الفتيلة
فيما مضى حبيتني وحبيتك ** واليوم طحنا للعناد رميتك
وعلى ترانيم صوتها العذب تحول “الحلالم”، بأنامل سحرية وأصابع تتسم بالخفة والسرعة من عجين إلى خيوط عجين قصيرة ثم تحول إلى حبات صغيرة كحبات المطر حين يتساقط في انسجام.
وبحركة رشيقة متوارثة، تحذقها النساء التونسيات، وخاصة منهن ربات البيوت، تتساقط حبات الحلالم من بين أصبعي السبابة والإبهام وتنسدل في انسجام واتقان لا يخفيا على عين الرائي لتقع وسط الغربال محدثة تسلسلاً وتقاطعًا في شكل شبكة عنكبوتية.
ولا تكاد ساعة من الزمن تنقضي حتى تنهي ما بيدها وتتركها لتجف في الهواء الطلق إما في فناء الدار أو على الشباك أو حتى فوق السطح.
بعد تقطيع العجين يتم تركه ليجف على أسطح المنازل
وما إن يحل المساء، حتى تفوح رائحة الحلالم، تنبئ عن مذاق طيب ونكهة رائعة، مزيج من الخضراوات المفيدة من سلق وبقدنوس وبصل وجزر مقطع جزئيات صغيرة الحجم وحبات حمص وفول وثوم وعدس وزادتها نكهة طعم الهريسة الشهية التي تتسم بالمذاق الحار والقليل من الطماطم الحمراء المعجونة التي أبدًا لا يخلو منها مطبخ تونسي، إضافة إلى التوابل، التي لا يكتمل طعامًا إلا بإضافتها إلى القدر، ولا ننسى كذلك النعناع المجفف والفلفل الأخضر اللذان يتركان إلى حين الانتهاء من الطبخ.
بعض العائلات التونسية تهوى إضافة “اللحم المقدد”(القديد) إلى الحلالم
ومن العائلات التونسية من تهوى إضافة “اللحم المقدد” (القديد) إلى الحلالم وهو لحم يقع تجفيفه تحت أشعة الشمس ويمكن الاحتفاظ به لمدة طويلة قد تتجاوز السنة. والحلالم ليست فقط أكلة الجدات وإنما هي أكلة الحاضر والمستقبل، يحبها الصغار ويعشقها الكبار، لما فيها من مكونات غذائية متكاملة وطاقة مفيدة لجسم الإنسان.