ترجمة حفصة جودة
خلال الأسبوع الماضي، حاولت التواصل مع عائلتي وأصدقائي في غزة، لكن لم يجب أحد على اتصالاتي، بعد عدة أيام تمكنوا أخيرًا من التواصل معي، ويا ليتهم ما فعلوا.
يقول المثل “من أفواه الأطفال تأتي الحقيقة”، في مخيم خان يونس للاجئين، سألت شهد – ابنة أخي ذات الأربع سنوات – والدتها “أمي، هل الموت مؤلم؟ أيهما أقل ألمًا الموت بسبب صاروخ أم قذيفة دبابة؟”.
وسألت أيضًا “عندما أُقتل يا أمي هل يمكنك أن تدفنينني بجوار ابنة عمي جوليا، فلا أريد أن أبقى في القبر وحدي بعد أن يرحل الجميع، أريد اللعب مع جوليا”، كانت جوليا قد قُتلت يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول عندما دمر القصف البناء الذي كانوا يعيشون فيه فقتل أكثر من 50 من أفراد عائلتي وأقاربي وجيراني.
أناشد العالم كأم، أن يتمعن جيدًا في قصص هؤلاء الأطفال.
أُصيب ابني أخي بشار وعبود – كلاهما 13 عامًا – بصدمة نتيجة المذبحة، ولا يشعرا بعد الآن بأن منزل العائلة في المخيم آمن، لذا قررا الاحتماء بالجراج الضيق المغطى بالزنك والاسبتسوس حيث يترك عمي سيارته، أصبح الجراج ملجأً لهما لأنهما يعتقدان أنه سيكون من الأسهل استخراج جثتيهما من هناك عندما يأتي هذا الوقت الذي لا مفر منه.
بالنسبة للأطفال في غزة، فقد أصبح الموت واقعًا محتومًا، شبحًا يحوم فوق حياتهم اليومية، لم يعد الأمر متعلقًا بـ”لو” بل “متى”.
أصبحت كلمة “النقص” مصطلحًا يُعرّف غزة، نقص في المياه والطعام والطاقة والوقود والإنترنت والدواء، نقص في كل شيء، حتى إن الهواء النقي يصبح شحيحًا في بعض الأحيان، تُظهر المقاطع المباشرة إخراج الأطفال من تحت الأنقاض وهم يلهثون لالتقاط أنفاسهم.
هناك أكثر من 2700 شخص مفقود، بينهم أكثر من 1500 طفل، وبسبب ندرة سيارات الإسعاف والمعدات والجرافات، تواجه فرق الإنقاذ تحديات ضخمة، ولم يعد هناك خيار أمام الناس إلا الحفر بأيديهم المجردة.
قضى عبود وبشار وبعض أفراد عائلتي وسكان المخيم يومين كاملين في محاولة استعادة بعض جثث وبقايا عائلتي من تحت الأنقاض بأيديهم.
أرسلت لي صديقتي المقربة منال خبرًا مروعًا، فقد أخبرتني أنها فقدت حفيدها فاضل، ذلك الفتى الذكي الوسيم، يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني كان من المفترض أن يحتفل فاضل بعيد مولده الـ10، كان حلمه أن يصبح طيارًا ليهرب من حصار غزة ويستكشف العالم.
لكن روحه غادرتنا يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول، يحكي جده أنه سمعه – قبل أن يذهب لشراء بعض الضروريات – يتحدث مع صديقه المقرب أحمد ويخبره أنه تمكن سرًا من ادخار بعض النقود لمفاجأة والدته بهدية عيد الميلاد، بعدها بوقت قليل قصف الصاروخ منزلهم وقُتل الولدان، ليصبح سر الهدية آخر لحظة لهما معًا.
وصلت الأخبار السيئة تباعًا في ذلك اليوم، فبعد رسالة منال، وصلتني رسالة من صديقة طفولتي نورس التي تعمل في منظمة “المساعدة الطبية للفلسطينيين”، كان ابنها البكر مجد – 27 عامًا – يعمل مسعفًا بدرجة ممرض طوارئ، كان مجد قد تطوع مع منظمة الهلال الأحمر الفلسطينية في كثير من الأوقات الصعبة بما في ذلك مسيرة العودة الكبرى، التي قُتل فيها الكثير من المتظاهرين السلميين برصاص الجيش الإسرائيلي بشكل يومي لمدة 19 شهرًا قبل أن توقف جائحة كوفيد المظاهرات.
في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، انتقل مجد مع عائلته إلى خان يونس في محاول يائسة للعثور على بعض الأمان في منزل عمه، عاد مجد إلى غزة لاستعادة بعض الأشياء الضرورية، وفي أثناء وجوده في غزة طلب منه بعض أصدقائه في شركة سيارات أجرة محلية التطوع لإجلاء الناس، فوافق.
أوصل مجد عائلة إلى منزل أقاربهم وعاد إلى مكتب الشركة بانتظار المهمة التالية، في تمام الساعة الـ3 مساءً يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول تعرض الحي لقصف شديد، وأصابت قديفة مجد خلال انتظاره في السيارة، ففصلت رأسه عن جسده، وقد رأيت لقطات لأشخاص من المنطقة وهم يجمعون بقاياه في كيس بلاستيكي يحمل تاريخ وفاته.
أخبرتني نورس أن كل ما كانت بحاجة إليه فرصة أخرى لتقبيل ولدها ووداعه، لكنها لن تحظى بتلك الفرصة مطلقًا، بل ودعته في كيس أسود بلاستيكي يحمل رأسه، هذه لمحة بسيطة من قصص الموتى الذين يشكل 70% منهم نساء وأطفال.
أناشد كل أم تقرأ هذا المقال، لا يجب أن تتحمل أي أم هذا الألم الذي تتعرض له الأمهات في غزة كل يوم، لا يجب أن تقضي أي أم بقية حياتها وهي تحلم أن تمنح ابنها قبلة الوداع، لا ينبغي أن تتحمل أي أم ذنب سماع طفلها يبكي تحت الأنقاض ويقول “أمي، أخرجيني من هنا، أين أنتِ؟”.
لا ينبغي أن تسحب أي أم جثث أطفالها من تحت أنقاض منزلهم لأن قذيفة وزنها طنين سقطت عليه بينما كانت تتسوق في الخارج، لا يجب أن تضع أم وليدها بينما تدور معركة في الحي الذي تقع فيه المستشفى، ولا أن ترى طفلها الخديج بينما تُفصل عنه أجهزة دعم الحياة لأن الوقود نفد من المستشفى.
هذه الصدمات لا أستطيع أن أتصورها كأم، لذا على غرار لقاء أمهات بلازا دي مايو كل خميس الساعة الثالثة والنصف، أناشد كل أمهات العالم أن يلتقين كل يوم في الساعة الـ3 – وقت وفاة ابن نورس – لجذب الانتباه لمعاناة الأمهات والأطفال الفلسطينيين.
لقد أصبحت غزة مقبرة كبيرة، مقبرة للأطفال والأمهات، ومقبرة لوعي العالم، وشاهدةً على فشل مؤسسات العالم في حماية المدنيين، لقد أصبحت غزة مقبرة لحقوق الإنسان.
المصدر: الغارديان