ترجمة وتحرير نون بوست
منذ بداية الحرب على غزة قبل أربعة أسابيع، لجأ المسؤولون الإسرائيليون والمؤيّدون الغربيون لحكومة نتنياهو إلى مجموعة متنوّعة من الحجج لتبرير العدد الهائل من القتلى المدنيين.
فوق صورة تعود لحيّ تعرّض للقصف في المنطقة، علّقت القوات الإسرائيلية بقول “حماس، منظمة الإبادة الجماعية الإرهابية، هي المسؤولة عن كل ما يحدث في غزة”، بتعلّة أن حماس تغسل أدمغة الأطفال الفلسطينيين وتطلق الصواريخ من الأحياء المدنية وتتموقع داخل مناطق المدنيين مما يجعلهم “أهدافًا عسكرية مشروعة”.
قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيشت، لمراسل شبكة “سي إن إن” وولف بليتزر، عندما سُئل عن القصف الإسرائيلي لمخيم جباليا للاجئين في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، “هذه هي مأساة الحرب يا وولف”. وأضاف “كنا نقول منذ أيام، تحركوا جنوبا، أيها المدنيون غير المرتبطين بحماس، من فضلكم تحرّكوا جنوبا…. فيما يتعلق بالمدنيين هناك، كنا نبذل كل ما في وسعنا لتقليل عددهم. سأقولها مرة أخرى، من المؤسف أنهم يختبئون بين السكان المدنيين”.
أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت مؤخرا “إننا نبذل كل ما في وسعنا لتقليل ومنع وقوع خسائر في صفوف المدنيين في غزة. في نهاية المطاف، حماس تقول للمواطنين بسخرية إنهم لا يستطيعون التحرك هنا، لا يمكنهم الانتقال إلى هناك، يُستخدم المواطنون، أو بالأحرى مواطني حماس، أعني مواطني غزة، كدروع بشرية. وبهذا المعنى، فإن حماس هي المسؤولة في نهاية المطاف عن قتل المدنيين في غزة”.
قال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، للصحفيين عندما سُئل عن الضحايا المدنيين: “هذه حرب، هذا قتال. الحرب معروفة بطبيعتها الدموية، والقبيحة، والفوضوية. وسوف يتعرض المدنيون الأبرياء للأذى في المستقبل. أتمنى لو تمكنت من إخبارك بشيء مختلف”.
نفى السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة ارتفاع عدد القتلى في غزة، وأصرّ على أنه “لا أنت ولا أنا نعرف كم منهم من الإرهابيين المسلحين وكم منهم من المدنيين”، في حين زعمت الحكومة الإسرائيلية خلال مناسبات عدة أن حماس تختبئ في شبكة من الأنفاق وتملك حتى قاعدة عسكرية تحت المستشفيات التي هاجمتها.
إذا كانت هذه الحجج تبدو مألوفة، فذلك لأنها الحجج ذاتها التي استخدمها المسؤولون الإسرائيليون لسنوات لتبرير الخسائر غير المتناسبة في صفوف المدنيين نتيجة القصف الدوري الذي تشنه إسرائيل على قطاع غزة. لكن تاريخها يعود لفترة قديمة: فقد استُخدمت كل هذه الذرائع تقريبًا منذ عقود من قبل المسؤولين الأمريكيين والفيتناميين الجنوبيين لتبرير عدد القتلى المدنيين المروع الذي سببته حرب الولايات المتحدة في فيتنام – وهي الحرب التي ينظر إليها الأمريكيون اليوم بشكل سلبي للغاية، والتي لا يبررها سوى القليل من حملات القصف الوحشية.
هذا هو بالضبط ما فعله المسؤولون والمعلّقون الأمريكيون بعد مرور سنة على عملية هزيم الرعد في فيتنام، وهي حملة القصف التي شنّها الرئيس ليندون جونسون لمدة ثلاث سنوات وشهدت إسقاط 864 ألف طن من القنابل والصواريخ على البلاد وأسفرت عن مقتل 21 ألف مدني. شهد عيد الميلاد سنة 1966 نشر أول رسالة من فيتنام الشمالية من قبل مراسل صحيفة نيويورك تايمز هاريسون سالزبوري، الذي أصبح أول صحفي أمريكي يكتب تقريرا من هانوي، ومن خلال تغطية مباشرة، دحض تأكيدات الإدارة بأن الجيش الأمريكي كان يستهدف فقط “الخرسانة والفولاذ، وليس حياة البشر”. ولعل ردود المسؤولين الأمريكيين تذكرنا بما يحدث اليوم في غزة.
جاء في بيان للبنتاغون ردا على تقرير سالزبوري: “يتم اتخاذ كل العناية الممكنة لتجنب وقوع إصابات بين صفوف المدنيين”. لكن “من المستحيل تجنب كل الأضرار التي تلحق بالمناطق المدنية، لاسيما عندما يتعمّد الفيتناميون الشماليون وضع مواقع دفاعهم الجوي، ومواقعهم [البترولية] المتفرقة، وراداراتهم وغيرها من المرافق العسكرية في مناطق مأهولة بالسكان، في بعض الأحيان، على أسطح المباني الحكومية”. وأصر المسؤولون الأمريكيون على أن المناطق المدنية حول مدينتي نام أونه وفو لي، التي أبلغ سالزبوري عن تدميرها، كانت “مليئة” ببطاريات المدافع المضادة للطائرات ومواقع إطلاق الصواريخ.
انضمت إليهم مجموعة متنوعة من المسؤولين الأميركيين، حيث تساءل الرئيس السابق دوايت د. أيزنهاور: “هل هناك مكان في العالم لا يوجد فيه مدنيون؟ أعلم أن العمليات الأمريكية تستهدف حصرا الأهداف العسكرية، ولكن لسوء الحظ هناك بعض المدنيين حول هذه الأهداف”. في السياق ذاته، صرح السيناتور بورك بي هيكنلوبر (جمهوري عن ولاية أيوا): “لا يمكن أن تخوض حربًا دون قتل الناس”.
تحدثت الإدارة عن ذلك بشكل علني، فقد أصر متحدث باسم وزارة الخارجية على أن الأضرار التي لحقت بالمناطق المدنية كانت عرضية بحتة، في حين قال مسؤولون مجهولون لصحيفة لوس أنجلوس تايمز إن الأضرار التي لحقت بالمناطق المدنية لم تكن في الواقع مصادفة، لأن الأهداف كانت في الواقع عسكرية. ومع تزايد الغضب المحلي من حملة القصف التي شنها جونسون، أصر مسؤول صحفي آخر في وزارة الخارجية في وقت لاحق على أن “السياسة المتعلقة بالأهداف لا تزال كما كانت – فهي أهداف عسكرية أو مرتبطة بالجيش”، لكنه أشار إلى أن المدنيين قد يموتون “حتى مع اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة”.
حتى قبل تقرير سالزبوري، كان أنصار الحرب يبرّرون قتل القوات الأمريكية للمدنيين الفيتناميين، غالبا من خلال الإشارة إلى ممارسة الفيت كونغ الحقيقية المتمثلة في الاختلاط مع المدنيين. في إشارة إلى حادثتين مثيرتين للجدل في الوقت الذي قتلت فيه مشاة البحرية الأمريكية خمسة مدنيين، من بينهم ثلاثة أطفال، وأضرمت النار في 51 منزلاً، أكد مراسل شيكاغو ديلي نيوز ومراسل الحرب المخضرم في آسيا كيز بيتش للأمريكيين في عمود أعيد طبعه على نطاق واسع في آب/ أغسطس 1965 أن “مشاة البحرية لا يستمتعون بشكل خاص بإطلاق النار على النساء والأطفال. كما أنهم لا يشعرون بالارتياح عند حرق المنازل. ولكن هذه حرب. الحرب ليست رائعة أبدا، لكن بعض الحروب أبشع من غيرها. تتمثل المشكلة باختصار في كيفية فصل العدو عن الأبرياء في حرب عصابات ليس لها جبهة”.
وأكد بيتش أن “العديد من النساء الفيتناميات شيوعيات مخلصات ويمكنهن التعامل مع السلاح مثل أزواجهن، إن لم يكن أفضل”، وأن “الشيء نفسه ينطبق غالبًا على أطفالهن”. وأعلن أن المنزل الفيتنامي لم يكن دائمًا مقر إقامة وإنما “موقعا محصنا” قد يؤدي إلى شبكة من أنفاق الفيت كونغ ويمكن أن يكون مميتًا لأي جندي يجرؤ على إلقاء نظرة خاطفة عليه”. ونقل بيتش عن أحد النقباء قوله “تسع من أصل 10 لا تعرف أبدًا من هو الفايت كونغ حتى يطلق النار عليك، وبعد ذلك غالبًا ما يكون الأوان قد فات”.
من عجيب المفارقات أن أحد الضباط، أثناء دفاعه عن سلوك مشاة البحرية تجاه بيتش، طمس مبررات المؤسسة العسكرية الأميركية لضرباتها الجوية، التي كثيراً ما تضمنت الإشارة إلى كل عناصر الفيت كونغ الذين يفترض أنهم قتلتهم. قال الضابط: “أتساءل كيف يمكن لطياري الطائرات التي تحلق على ارتفاعات عالية أن يميّزوا أحد أعضاء الفيت كونغ عن الفيتناميين الآخرين”. وأضاف “أليس من المحتمل أن تقتل قنبلة تزن 500 رطل أبرياء أكثر من بندقية مشاة البحرية؟”.
اعتبر الجنرال ويليام ويستمورلاند، قائد القوات الأمريكية في فيتنام، أن الوفيات العرضية بين المدنيين “مشكلة كبيرة” في سنة 1966، لكنه اتهم بالمثل بأن الحرب “صممها المتمردون والمعتدون لخوضها بين الناس”، مما يشير إلى أن الفيت كونغ مسؤولون في النهاية عن قتلهم.
وضع ويستمورلاند قواعد اشتباك كان من المفترض أن تهدف إلى الحد من الخسائر في صفوف المدنيين: كان لا بد من تحذير سكان القرية المشتبه في اختباء الفيت كونغ فيها أولاً عبر المنشورات أو مكبرات الصوت قبل تنفيذ غارة جوية، ما لم تكن تحت السيطرة الشيوعية الكاملة، وإلا تعتبر “منطقة هجوم محددة” – فيما عُرف فيما بعد باسم “منطقة إطلاق النار الحر” التي يمكن للقوات الأمريكية قصفها كما يريدون. وفي إحدى هذه الحالات، قتلت القوات الأمريكية 20 مدنيا وأصابت 32 آخرين.
علّق أحد الشخصيات العسكرية رفيعة المستوى قائلاً: “بعض هذا ناتج عن مجرد فشل بشري، وحوكمة سيئة”. وكما هو الحال مع المنشورات الإسرائيلية التي تطلب من سكان غزة الإخلاء اليوم، كانت هذه التحذيرات مجرّد مبرّر واهٍ لما تلا ذلك. كما هو الحال عندما قضت القوات ساعات وهي تطلب من المدنيين عبر مكبرات الصوت مغادرة المنطقة التي يسيطر عليها الشيوعيون في هجوم سنة 1968، ولكن “لسبب ما لم يغادروا قبل أن تهاجم القوات الأمريكية بالنابالم، مما أسفر عن مقتل 17 شخصًا”، وفقًا لوكالة أسوشيتد برس.
استغلّ المسؤولون الأمريكيون في حقبة حرب الفيتنام ادعاءات أضحت واسعة الانتشار في الحرب الحالية: وهي أن قوات العدو تستخدم الأبرياء كدروع بشرية. في إحدى الحوادث التي وقعت في كانون الثاني/يناير 1967، قصفت القوات الفيتنامية الجنوبية إحدى القرى، مما أسفر عن مقتل 10 أطفال وجرح 16 آخرين، لكن المتحدث باسم الولايات المتحدة ادعى – كذباً، وسرعان ما تبيّن ذلك – أن الفيت كونغ “حشدوا” المدنيين أمامهم أثناء تقدمهم. وأوضح المتحدث ذاته “أن “هذه الخسائر في صفوف المدنيين مؤسفة للغاية وتعزى بشكل مباشر إلى الاستخدام الوحشي للمدنيين من قبل الفيت كونغ في العمليات العسكرية”. وشاع انتشار مثل هذه الادعاءات طوال فترة الحرب.
كما كشف الصحفي نيك تورس بعد عقود عندما فحص الأرشيفات مع إجراء مقابلات مع جنود سابقين، أن كل هذه التصريحات الأمريكية غطت على حقيقة أكثر وحشية بكثير: وهي بعيدًا عن كونها مجرد حوادث أو قبح الحرب المأساوي، عدد الوفيات بين المدنيين الفيتناميين نتج عن سياسة متعمّدة وُضعت على أعلى المستويات وسنتها القوات الأمريكية على الأرض، ومتجذرة في تركيز المسؤولين على “إحصاء الجثث” والنظر إلى الفيتناميين باعتبارهم “حيوانات”، واعتبارهم جميعا بما في ذلك النساء والأطفال تهديدات محتملة. في البداية، اعتبرت مذبحة ماي لاي سيئة السمعة من قبل حكومة الولايات المتحدة انتصارًا عسكريًا كبيرًا على مقاتلي العدو.
يُنظر إلى الحرب التي شنتها حكومة الولايات المتحدة في فيتنام اليوم على نطاق واسع باعتبارها حلقة مخزية ومؤسفة في تاريخ الأمة الأمريكية، ولن يدافع عنها أو عن حملات القصف المصاحبة لها إلا القليل.
من الصعب تخيّل أي شخص اليوم يأخذ على محمل الجد ادعاءات إدارات جونسون وريتشارد نيكسون والمدافعين عنها بأنهم كانوا يهاجمون أهدافًا عسكرية بحتة، أو يُنظر إلى اختلاط الفيت كونغ مع السكان المدنيين كمبرر معقول لقتل ضحايا المدنيين – ناهيك عن الادعاءات بأن الطبيعة الوحشية للحرب جعلت من حدوث مثل هذه المذبحة البشرية أمرًا لا مفر منه.
في الوقت الراهن، تُستخدم كل هذه الحجج من قبل المسؤولين والمعلقين الإسرائيليون والأمريكيين لتبرير المستوى غير المقبول من الوفيات بين المدنيين في غزة – ويبدو أنها مقبولة إلى حد كبير من قبل أولئك الذين يشغلون مناصب نافذة، والذين لن يبرروا أبدًا تصرفات الولايات المتحدة في فيتنام بالطريقة ذاتها.
وبينما يقوم المسؤولون الإسرائيليون والمدافعون عنهم باستعارة الذرائع التي تعود إلى حقبة حرب فيتنام في حملة قصف أدت في شهر واحد إلى مقتل نصف المدنيين الذين قتلتهم عملية ” هزيم الرعد” على مدى ثلاث سنوات، فمن العدل أن نتساءل عما إذا كنا قد استخلصنا دروسا من التاريخ.
المصدر: ذا نايشن