بحكم موقعها على مفترق طرق الحضارات، وكونها محطة بارزة للحجّاج وطريقًا تجاريًّا هامًّا، شهدت غزة عبر تاريخها عددًا من الثقافات والحضارات الإنسانية، من الكنعانيين إلى العهدَين البيزنطي والمسيحي، وصولًا إلى العهد الإسلامي.
فترات تاريخية أثّرت في تطور غزة التي تركت لنا إرثًا ثقافيًّا غنيًّا، ورغم أن كل حجر في غزة يحكي قصة فريدة من نوعها، لم تسلم ذاكرتها وتراثها اللذين يعودان إلى حقب تاريخية مختلفة من المحرقة الصهيونية.
تستهدف دولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن حربها الانتقامية المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، على قطاع غزة المحاصر، بشكل متعمّد، المعالم التاريخية والأحياء التراثية القديمة التي تواصل محوها من على وجه الأرض، بجانب حرق المؤسسات التعليمية والثقافية ودور العبادة والمكتبات، وخصوصًا رموز الذاكرة الحية وتطهير ما تبقّى من المؤسسات الخيرية، وهذا بالتأكيد خراب مروّع آخر لغزة من بين التدمير المنهجي الذي يرتكبه الاحتلال.
من المعروف أن الأنظمة الإسرائيلية الماضية والحالية سعت إلى استئصال التراث الفلسطيني، من خلال محو السجلّات والوثائق وسرقة الأرشيفات، وتدمير أدلة الارتباط التاريخي للفلسطينيين بأرضهم لدعم سرديتها ومشروعها الاستيطاني، وحتى لا يبقى غير الوجود اليهودي.
لكن المختلف في هذه الحرب أن “إسرائيل” تستهدف كل ما يشير إلى التراث والثقافة الفلسطينيَّين بغزة بشكل سريع، وعلى نطاق منهجي وأوسع فاق الحروب السابقة، ودون اعتبار لظهور هذا التدمير الذي لا سبيل إلى إنكاره على مرأى ومسمع من العالم، ولذا إن ما يثير الدهشة أن هذا الهمجي الذي يبيد معالم التراث والثقافة في غزة، يتم تقديمه على أنه المتحضّر.
غزة من دون فلسطينيين: كابوس المقاومة
إن استهداف الصهاينة لمؤسسات التعليم والثقافة بغزة كهدف عسكري بحدّ ذاته، ليس في الحقيقة حملة عشوائية، إنما هو سياسة مرسومة بعناية لإرسال رسالة إلى ما هو أبعد من أولئك الذين يقاومون.
يدرك قادة الاحتلال أن “طوفان الأقصى” عززت من هيبة مقاتلي كتائب القسام في أعين الشعوب العربية بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص، فقد أثبتوا أنهم يقاومون ويضحّون بأنفسهم من أجل القضية، لذا الاحتلال يعلم جيدًا ما يترتب عن ذلك، ويريد انتزاع هذا النصر من النفوس مهما كان الثمن، ومن أجل إعطاء درس قاسٍ للأجيال الجديدة ولمن يفكر بالمقاومة.
من هذا المنطلق، أصبحت غزة بحدّ ذاتها هدفًا رمزيًّا لممارسة كل أشكال الترويع والإبادة، ليس فقط من خلال دكّ الأحياء الآهلة والحرمان من الاحتياجات المعيشية الأساسية، وصنع عالم لا قيمة فيه لحياة الفلسطينيين.
بل يريد الاحتلال أن يخلق ظروف حياة تهدف إلى ترك أسوأ الذكريات، وأن يشعر أهل غزة بالذل والاستباحة في أي مكان حتى ولو في مستشفى، والتي لم يتردد في حصارها وقصفها وإزهاق أرواح آلاف الأطفال الذين ماتوا قبل أن ينطقوا أسماءهم، مع ملاحظة التأكيد على أن عظمة القوة الصهيونية تستمدّ بشكل أساسي من هذه الممارسات.
والواقع أن المشروع الصهيوني الحالي لا يقتصر فقط على تحويل حياة أهل غزة إلى ترويع فقط حتى يستسلموا ويهجروا ديارهم، الأمر أيضًا يتعلق باقتلاعهم ديموغرافيًّا وثقافيًّا، ومحو تراثهم لحرمانهم من أي مطالبة بحقوقهم، وبالتالي ينظر الصهاينة إلى المواقع التي تحافظ على هوية الشعب الفلسطيني وتاريخه كتهديد لهم، ولذا يحرقونها الآن.
لقد لجأ الاحتلال إلى تدمير التراث بغزة من أجل القضاء على صرخة استمرار المقاومة، وباعتبار أن هذه الأماكن التي يحرقها لا تعتبر فقط ربطًا ماديًّا مع الماضي، بقدر ما هي شكل من أشكال الحياة، أرادوا منعه من الاستمرار والتكون من جديد كي يضمنوا سحق ذاكرة الأجيال الجديدة.
إن استهداف الذاكرة هو أكثر ما يوجع ويترك الألم في نفس الإنسان، فعندما يهجَّر الناس بشكل مستمر من منازلهم، يرافقهم شعور بالقهر والأسى لأن تاريخهم يمحى أمامهم، وكذلك عندما يحرق الاحتلال مساجد غزة التي تحمل ذكريات التاريخ، يشعر الناس بألم شديد لفقدان هذا التراث، لأن الأمر على حقيقته هجوم على أسلوب حياتهم، وحرمانهم وأحفادهم من حق الانتماء إلى هويتهم.
تراث في مرمى النيران
وفقًا لوزارة الثقافة الفلسطينية، يوجد في غزة 76 مركزًا ثقافيًّا و3 مسارح و5 متاحف و15 دار نشر لبيع الكتب و80 مكتبة عامة، إضافة إلى وجود متاحف شخصية، معظم هذه المؤسسات تعمل بجهود ذاتية، ليس لضعف الاهتمام الرسمي بقدر ما أن الإمكانات المادية قليلة، والبلد في حصار وأزمات متلاحقة، ولذا بذل أهل غزة قصارى جهدهم في الحفاظ على تراثهم، وسط ظروف الحصار والتحديات الكبيرة التي يواجهونها.
وفيما يلي، أبرز المواقع التراثية الرائعة في غزة التي استهدفتها نيران الحقد الصهيونية بشكل متعمّد عقب معركة “طوفان الأقصى”:
حسب آخر تصريحات لوزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، استهدف الصهاينة معظم مؤسسات القطاع الثقافي، ووثّقت وزارة الثقافة تدمير 6 مراكز ثقافية و5 دور نشر لبيع الكتب، هي الشروق وسمير منصور ولُبَّد والنعيم والنهضة، وحتى المكتبات التي لم تُحرق تعرضت بنيتها التحتية لأضرار جسيمة.
أيضًا قطاع المتاحف والمخطوطات تعرّض لحملة إبادة متعمدة، إذ قصف الصهاينة متحف خان يونس، ودمّروا مجموعة من الروائع الأثرية فيه، وأكدت المنظمة العربية للمتاحف أن متحفَين هامَّين في غزة، هما القرارة الثقافي ورفح، قد تعرضا للتدمير الكامل، إضافة إلى تدمير معظم أجزاء البلدة القديمة بغزة، والتي احتوت على 146 بيتًا قديمًا وعددًا من المساجد والأسواق والمدارس التاريخية، وميناء قديم مدرج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي.
ليس هذا فحسب، فالمساجد أيضًا لم تسلم من الهمجية، فحتى الآن تمّ توثيق 47 مسجدًا حوّلها الاحتلال إلى رماد، بما في ذلك مساجد لها تأثير كبير في الحياة اليومية والذاكرة، منها مسجدا السوسي والغربي في مخيم الشاطئ، ومسجد اليرموك والأمين، وتشير عدة تقارير إلى تدمير مسجد جباليا، ومسجد أحمد ياسين بمخيم المغازي، ومسجد أبو جنب بشرق خان يونس، ومسجد خالد بن الوليد ومسجد الرضا بخان يونس.
تغطية صحفية: الغارات الإسرائيلية تُدمر مسجد خالد بن الوليد غرب خانيونس. pic.twitter.com/7DELeAdCOO
— الجرمق الإخباري (@aljarmaqnet) November 8, 2023
ووفقًا لتوثيق أوّلي قامت به وزارة الأوقاف الفلسطينية، أكثر من 50 مسجدًا تمّت تسويتها بالأرض، وهناك مساجد ذات قيمة أثرية وتاريخية نال منها الدمار بدرجات متفاوتة، هذا إضافة إلى تدمير مقرّ وزارة الأوقاف ومقرّ “إذاعة القرآن الكريم” المكون من 14 طابقًا، والذي أصبح الآن مدفونًا تحت الأنقاض والدمار الذي خلفته قنابل الاحتلال.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن كل هذه المساجد التي تمّت إبادتها، تؤدي دورًا أساسيًّا في خدمة احتياجات المجتمع بالنسبة إلى سكان غزة، فالعديد من المساجد المستهدَفة كانت توفر لهم مرافق اجتماعية وتعليمية وصحية.
كذلك تعرضت 3 كنائس للقصف من ضمنها كنيسة القديس برفيريوس، والتي تعرَف شعبيًّا في غزة باسم كنيسة الروم الأرثوذكس، وهي أقدم كنيسة مسيحية في غزة، إضافة إلى تدمير 80 مقرًّا حكوميًّا، وقصف مبنى جهاز الإحصاء الفلسطيني الذي دُمّر بالكامل، ما يعني فقدان قاعدة وثائقية للحكومة والمجتمع، وبالتالي حرمان الآلاف من وثائقهم الشخصية والتصرف بممتلكاتهم.
والواقع أنه لا توجد مؤسسة واحدة لم تتعرض لضرر ولو جزئي، فقد قصف الاحتلال العديد من الوزارات والمقرات والمؤسسات الحكومية، ولم يتردد في استهداف المنظومة الصحية، وقصف مستشفى المعمداني الذي يسبق تاريخ دولة الاحتلال بعقود طويلة.
هذا بجانب عشرات المراكز الثقافية التي تحولت إلى غبار وأنقاض، كالمركز الثقافي الأرثوذوكسي الذي كان يحتوي على قاعات لتنظيم النشاطات الثقافية والفنية، بجانب تدمير جمعية أبناؤنا للتنمية، ومركز غزة للثقافة والفنون، وتدمير جمعية ميلاد في مخيم جباليا للاجئين، وتدمير المركز الثقافي الاجتماعي العربي الواقع في حي تل الهوا، وتدمير جمعية حكاوي للمسرح.
ولم تنجُ البيوت الأثرية من الهمجية الصهيونية، فقد قصف الاحتلال بيت السقا الواقع في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي دُمّر بالكامل بعد أن أُعيد ترميمه عام 2014، ويعتبر من أجمل وأقدم البيوت، إذ يعود تاريخ بنائه إلى 400 عام، وكان واحدًا من المساحات الثقافية القليلة المتبقية للفلسطينيين في غزة، إذ كان يستخدَم كمركز ثقافي.
الهمجية امتدت أيضًا نحو الجامعات، إذ تم استهداف جامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية التي لحقت بها أضرار فادحة، فكل من مبنى كلية تكنولوجيا المعلومات ومبنى عمادة خدمة المجتمع والتعليم المستمر ومبنى كلية العلوم، بكل ما فيها من تجهيزات ومختبرات وأثاث، تعرضت لقذائف حارقة.
وقد بلغ عدد شهداء طلبة التعليم العالي 438 طالبًا وطالبة، في حين ارتقى 14 عاملًا وعاملة ممّن يعملون في مؤسسات التعليم العالي، كما بلغ عدد مؤسسات التعليم العالي التي تضررت جزئيًّا أو بالكامل الـ 12 مؤسسة.
https://twitter.com/ShehabAgency/status/1711732973047844872
وأيضًا مؤسسات التعليم المدرسي لم تكن في منأى عن الإبادة، بحسب ما أعلن “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني” فإن 608 آلاف طالب وطالبة في غزة حُرموا من حقهم بالتعليم المدرسي، وحتى الآن تم قصف 239 مدرسة في غزة، وقتل 3 آلاف و141 من الطلبة الملتحقين بالمدارس، و130 معلمًا ومعلمة، و103 موظفين من الأونروا.
ووفقًا لبيانات اليونيسف، فقد تضررت أكثر من 200 مدرسة (زهاء %40 من مجموع المدارس في غزة)، إضافة إلى ذلك تقوم “إسرائيل” حاليًّا باستخدام مدارس غزة لأغراض عسكرية.
ومع كل هذا التدمير الممنهَج، حتى المكتبات الخاصة والشخصية لم تنجُ من جحيم الاحتلال، ففي دقائق دمّر الاحتلال مكتبة حمزة مصطفى، والتهمت النيران كل ما فيها من نفائس بعد أن ظل حمزة يبني فيها طيلة حياته.
كما طالت آلة الإبادة المثقفين والفنانين والكتّاب والعاملين في الحقل الثقافي، إذ أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية في بيان لها استشهاد 15 شخصًا من المثقفين والفنانين، وهناك قصص عن موسيقيين فقدوا قدرتهم على السمع، ورسّامين فقدوا أطرافًا من أجسادهم.
تبرر “إسرائيل” استهداف المواقع التراثية والدينية والتعليمية، بأن مقاتلي المقاومة يخزّنون فيها الأسلحة ويختبئون داخلها، في حين أنه لا يوجد حتى اللحظة أدلة على هذا الزعم، ونفت حماس هذا الاتهام أكثر مرة.
النفاق الغربي في التعامل مع التراث الفلسطيني
رغم أن المعالم الثقافية تتمتع بحماية خاصة في القانون الدولي، لكن في حالة غزة يبدو الأمر مختلفًا، حيث من المثير للاهتمام مستوى التبريرات الممنوحة لـ”إسرائيل” لإبادة التراث الفلسطيني بشكل تخطّى كل الحدود، خاصة أن القوات الإسرائيلية بعد استهدفها لمعالم التراث والثقافة والدين، أعلنت أن هذه الغارات كانت ناجحة وأصابت أهدافها بشكل مباشر.
إذا قارنا ردود الفعل على التدمير الثقافي في غزة بما حدث في أوكرانيا، فعلى الفور استوجب ما قامت به روسيا ردود فعل كبيرة من المجتمع الدولي، وتحركت مباشرة المؤسسات الثقافية على الأرض لحماية التراث الأوكراني.
لكن هذه المؤسسات نفسها تصمت بينما تقوم “إسرائيل” بحرق تراث غزة، وبعضها أطلق اتهامات وأكاذيب وشجّع على الإبادة، مثل معهد فرانكفورت للكتاب الذي أعلن انحيازه إلى الكيان الصهيوني، وبمنتهى العجرفة قرر إلغاء حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، ولم يكن موقف معرض فرانكفورت هو الوحيد.
ويعدّ هذا فضيحة للغرب الذي ينادي بالحفاظ على التراث، لكنه لم يتحرك لإنقاذ تراث وثقافة غزة مثلما فعل في أماكن عديدة، ما يدلّ على سياسة الكيل بمكيالَين، التي تستخدم الاتفاقيات بشكل انتقائي وعندما تخدم أغراضها الخاصة.
وما زالت بعض الدول والمنظمات مستمرة في تبرير التطهير الثقافي، وتسليح آلة إبادة الشعب الفلسطيني، وتدمير تراث ومعالم غزة، وبكل أسى لم يتبقَّ سوى القليل من المواقع الثقافية المنكوبة في غزة، فمعظمها دُمّر جزئيًّا أو على وشك الانهيار، هذا وحجم الدمار لم يتضح بعد.
إن إبادة التراث والذاكرة بغزة ستظل تذكيرًا صارخًا بالنفاق الغربي، وفي الحقيقة فقدان معالم التراث الثقافي في غزة لا يشكّل مأساة للفلسطينين فحسب، بل خسارة لنا جميعًا.